اقرؤوا هذه القصة المؤثرة بتمعن ، ففيها الكثير من العبر :أخرج محمد بن نصر المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) والبلاذري في (أنساب الأشراف) وأبو يعلى في مسنده ، بإسناد حسن ، عن المعلى بن زياد ، قال : لما هزم يزيد بن المهلب أهل البصرة خشيت أن أجلس في حلقة الحسن ، فأوجد فيها ، فأعرَّف [ أي اُجعل عريفا : جنديا في الشرط ] ، فأتيت الحسن [ يعني الحسن البصري إمام العلم والزهد والجهاد] في منزله ، فدخلت عليه ، فقلت : يا أبا سعيد ، كيف بهذه الآية ؟ قال : أيّةُ آية ؟ قال : قلت : قوله عز وجل : { وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّو نَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } ، يا أبا سعيد فسخط الله على هؤلاء لقولهم الإثم وأكلهم السحت ، وذم هؤلاء حيث لم ينهوا؟ فقال لي الحسن: يا أبا عبد الله إن القوم عرضوا السيف ، فحال السيف دون الكلام . فقلت : يا أبا سعيد ، فهل تعرف لمتكلم فضلا ؟ قال : لا أعرفه ، قال المعلى : ثم حدث بحديثين .
قال : حدثنا أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بالحق إذا رآه ؛ فإنه لا يقرب من أجل ، ولا يبعد من رزق )) .
قال : ثم حدث الحسن بحديث آخر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((ليس للمؤمن أن يذل نفسه ، قيل : وما إذلاله نفسه ؟ قال : يتعرض من البلاء لما لا يطيق)) .
قيل : يا أبا سعيد فيزيد الضبي في كلامه في الصلاة ؟ قال : أما إنه لم يخرج من السجن حتى ندم .
قال المعلى : فأقوم من مجلس الحسن ، فأتيت يزيد الضبي ، فقلت : يا أبا مودود ، بينما أنا والحسن نتذاكر إذا نصبت أمرك نصبا ، فقال : مه يا أبا الحسن ! قلت : قد فعلت ، قال : فما قال ؟ قال : أما إنه لم يخرج من السجن حتى ندم على مقالته ، قال يزيد : ما ندمت على مقالتي ، وايم الله لقد قمت مقاما أخطر فيه بنفسي !
قال يزيد الضبي : لقد أتيت الحسن ، فقلت : يا أبا سعيد ، على كل شيء نُغلب ، فنغلب على صلاتنا ؟! فقال : يا عبد الله ، إنك تعرض بنفسك لهم ، ثم إنك لا تصنع شيئا ، قال : ثم أتيته فقال لي مثل مقالته . فقمت يوم الجمعة في المسجد ، والحكم بن أيوب الثقفي [ وهو ابن عم الحجاج بن يوسف الثقفي وكان نائبه في البصرة] يخطب ، فقلت : الصلاةَ ، رحمك الله ، فلما قلت ذلك ، احتوشني الرجال ، فأخذوا بلحيتي ، ورأسي ، وتلبيتي ، وجعلوا يجئون بطني بنعال سيوفهم ، ومضوا بي إلى نحو المقصورة ، فدخلت ، فقمت بين يدي الحكم وهو ساكت ، فقال : أمجنون أنت ؟ أو ما كنا في صلاة ؟ فقلت : أصلح الله الأمير ، هل من كلام أفضل من كتاب الله عز وجل ؟ قال : لا ، قلت : أرأيت لو أن رجلا نشر مصحفا يقرؤه غدوة إلى الليل أكان ذلك قاضيا عنه صلاته ؟ قال : والله إني لأحسبك مجنونا ، قال : وأنس بن مالك (رضي الله عنه) جالس تحت منبره ساكت ، فقلت : يا أنس ! يا أبا حمزة ! أنشدك الله تعالى ، فقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبته ، أبمعروف قلت أم بمنكر ؟ أبحق قلت أم بباطل ؟ قال : فلا والله ما أجابني بكلمة ، فقال له الحكم بن أيوب : يا أنس ، قال : لبيك ، أصلحك الله ، قال : أكان وقت الصلاة قد ذهب ؟ قال : بل بقي بقية ، فقال الحكم : احبسوه .
قال يزيد : فأقسم لك يا أبا الحسن ، لما لقيتُ من أصحابي كان أشد علي مما لقيت من الحكم ، قال بعضهم : مرائي ، وقال بعضهم : مجنون .
قال : وكتب الحكم إلى الحجاج أن رجلا من بني ضبة قام إلي يوم الجمعة وأنا أخطب ، فقال : الصلاة ، وقد شهد عندي العدول أنه مجنون ، فكتب إليه الحجاج ، إن شهد الشهود العدول أنه مجنون فخل سبيله ، وإلا فاقطع يديه ورجليه ، واسمل عينيه ، واصلبه ، قال : فشهدوا عند الحكم أني مجنون ، فخلى عني .
قال المعلى : عن يزيد الضبي ، ثم مات أخ لنا فتبعنا جنازته ، فصلينا عليه ، فلما دفن ، تنحيت في عصابة ، فذكرنا الله تعالى عز وجل ، وذكرنا معادنا ، فإنا لكذلك ، إذ رأينا نواصي الخيل والحراب ، فلما رآه أصحابي تفرقوا ، وتركوني وحدي ، فجاء الحكم حتى وقف علي ، فقال : ما كنتم تصنعون ؟ قلت : أصلح الله الأمير ، مات صاحب لنا ، فصلينا عليه ودفناه وقعدنا نذكر ربنا ، ونذكر معادنا ، ونذكر ما صار إليه ، قال : ما منعك أن تفر كما فروا ؟ قلت : أصلحك الله ، أنا أبرأ ساحة من ذلك ، أوَمن الأمير أفرّ ؟ فسكت الحكم ، فقال له عبد الملك بن المهلب - كان على شرطته - أتدري من هذا ؟ قال : لا ، قال : هذا المتكلم يوم الجمعة ، قال : فغضب الحكم ، وقال أما إنك لجريء ، خذه فأخذت ، فضربني أربعمائة سوط ، فما دريت متى تركني من شدة ما ضربني قال : وبعث بي إلى واسط ، فكنت في ديماس الحجاج حتى مات الحجاج )) .
انتهت الرواية ، فتأملوها :
لو كان أنس بن مالك (رضي الله عنه) والحسن البصري (رحمه الله) في زماننا لوصفهما جيل الغرور بأنهما من علماء السلطان بهذه القصة !! وهذا ما ألمح إليه يزيد الضبي ، حيث قال : ((لما لقيتُ من أصحابي كان أشد علي مما لقيت من الحكم ، قال بعضهم : مرائي ، وقال بعضهم : مجنون )) .
وأنس هو أنس (رضي الله عنه) علما وإيمانا وجهادا في سبيل الله !
والحسن البصري كذلك : علما وزهدا وجهادا وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر !!
لكنهما مع ذلك ما خلُصا من المزايدة عليهما بالغيرة والحمية !!!
فمن يكون من جاء بعدهما إذا زايد الجهلة المغرورون عليهم في ذلك ؟!!

د/حاتم العوني.