01-07-2014 | د. محمد حجاج
لدلالة السياق أثر عظيم في فهم المعنى ومن التفاسير الهامة التي كان لدلالة السياق أثرٌ واضح فيها تفسير الحافظ ابن كثير.


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد،،
لدلالة السياق أثر عظيم في فهم المعنى ومن التفاسير الهامة التي كان لدلالة السياق أثرٌ واضح فيها تفسير الحافظ ابن كثير.
أولاً: مفهوم السياق في التراث العربي:
يتلخص مفهوم السياق في التراث العربي في النقاط الآتية:
1- السياق هو الغرض: أي مقصود المتكلم من إيراد الكلام.
2- السياق هو الظروف والمواقف والأحداث التي ورد فيها النص أو نزل أو قيل بشأنها وأوضح ما عبر به عن هذا المفهوم لفظا الحال والمقام.
3- السياق هو ما يعرف الآن بالسياق اللغوي الذي يمثله الكلام في موضع النظر أو التحليل، ويشمل ما يسبق أو يلحق به من كلام يمكن أن يوضح دلالة القدر منه موضع التحليل أو يجعل منها وجهاً استدلالياً([1]).
ثانياً: التعريف بابن كثير:
هو الحافظ المفسر المؤرخ الأصولي الفقيه عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي الشافعي ولد سنة 701 توفي 774 هـ ([2]).
ثالثاً: منهج ابن كثير في تفسيره:
ذكر ابن كثير ـ رحمه الله ـ منهجه في التفسير في مقدمته له حيث نقل مقدمة شيخ الإسلام ابن تيمية في أصول التفسير فقال: فإن قال قائل فما أحسن طرق التفسير فالجواب إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان قد فسر في آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعنا إلى أقوال الصحابة لاسيما علماؤهم وكبرائهم كالأئمة الأربعة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه([3]).
رابعاً: دلالة السياق في تفسير ابن كثير: وجاء في صور:
أ – أثر السياق في بيان المعنى للآية الواحدة
قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)([4]) الفظ الغليظ والمراد به ههنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك (غليظ القلب) أي لو كنت سيء الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ولكن الله جمعهم عليك وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم فنجد أنه قصر دلالة كلمة الفظ على غلظ الكلام رغم أن الغليظ تشمل غلظ اللسان وغلظ القلب لأنه أتى في لحاقها قوله تعالى غليظ القلب فقصر دلالة فظاً على غلظ اللسان لئلا يكون في الكلام تكرار لا فائدة منه فينافي فصاحة القرآن([5])([6]).
ب ـ أثر السياق في بيان المعنى للآيات المتتابعة:
قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) ([7])
ثم بين تعالى من الصابرون الذين شكرهم: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون) ففسر رحمه الله قوله تعالى الصابرين بهذا اعتماداً على السياق القرآني لأن اسم الموصول (الذين) فسَّر معنى (الصابرين) الوارد قبله وقد استظهر أبو حيان الأندلسي كون الذين منصوباً على النعت لقوله (الصابرين) ([8]).
جـ - أثر السياق في بيان المتكلم أو المخاطب أو الموصوف بالآية:
قال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً) ([9]) ثم قال مخاطباً لكفار قريش والمراد سائر الناس (إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم) أي بأعمالكم([10]) وهذا القول مستمدٌ من سياق الآيات فالخطاب قبل هذه الآية عن كفار قريش (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلاً وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً) ([11]) ثم إن هذه السورة مكية ففي العهد المكي كان الخطاب للمشركين والمشركون في مكة هم قريش فهم الذين أرسل إليهم النبي وقول ابن كثير ـ رحمه الله ـ والمراد سائر الناس لأن بعثة النبي لجميع الخلق وليس خاصة بقريش ولكن الخطاب هنا لهم([12]).
د ـ أثر السياق في بيان المراد من المشترك اللفظي:
المشترك اللفظي هو اللفظ الواحد الدال على معنيين أو أكثر بوضع مختلف على التبادل([13]).
ذكر ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه) ([14]).
والأمة تستعمل في القرآن والسنة في معانٍ متعددة فيراد بها الأمد كقوله تعالى في هذه الآية : (إلى أمة معدودة)
وتستعمل في الإمام المقتدى كقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة) ([15]).
وتستعمل في الملة والدين كقوله تعالى: (إن وجدنا آباءنا على أمة) ([16]).
وتستعمل في الجماعة كقوله تعالى: (ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس)([17]).
وتستعمل الأمة في الفرقة والطائفة كقوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق) ([18])([19]).
فقد ذكر رحمه الله أن لفظ أمة يستعمل في عدة معانٍ فهو من الألفاظ المشتركة وذكر وروده في القرآن وحدد دلالة اللفظ في كل موضعٍ مقتنصاً ذلك من السياق وقال رحمه الله في موضعٍ آخر من تفسيره ولفظ الأمة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة في الاصطلاح إنما دل في القرآن في كل موطنٍ على معنى واحد دل عليه سياق الكلام([20]).
وقال رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى: (والليل إذا عسعس) ([21]) وعندي أن المراد بقوله (إذا عسعس): إذا أقبل وإن كان يصح استعماله في الإدبار لكن الإقبال هنا أنسب كأنه أقسم تعالى بالليل وظلامه إذا أقبل وبالفجر وضيائه إذا أشرق كما قال سبحانه : (والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى) ([22])([23]).
هـ ـ أثر السياق في تضمين المعاني:
التضمين إعطاء الشيء معنى الشيء وتارة يكون في الأسماء وفي الأفعال وفي الحروف([24]).
قال ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون) ([25]).
(وإذا خلوا إلى شياطينهم): يعني إذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم فضمن خلوا معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به ومنهم من قال إلى هنا بمعنى مع والأول أحسن([26]) فابن كثير رحمه الله خلص إلى نتيجة التضمين من خلال السياق لأنه وجد الفعل خلوا عُدِيَ بإلى وليس من عادته ذلك بل من عادته التعدية مع مع أو الباء ولذلك حكم بتضمينه معنى انصرفوا لمناسبته للسياق أيضاً فهو مناسب للحرف المعدى به إلى من جهة ومناسب للفعل خلوا من جهة أخرى ليدل بذلك على كلا المعنيين الانصراف إليهم والخلوة معهم([27]).
و ـ أثر السياق القرآني في تحديد مرجع الضمير:
ذكر ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين) ([28]).
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك إن الضمير في قوله (وشروه) عائد على أخوة يوسف وقال قتادة بل هو عائدٌ على السيارة والأول أقوى لأن قوله وكانوا فيه من الزاهدين إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه فيرجح من هذا أن الضمير في شروه إنما هو لإخوته([29])([30]).
ز ـ أثر السياق القرآني في بيان الحذف وتقديره:
ذكر ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: (أفمن هو قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول) ([31]).
يقول تعالى : (أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت) : أي حفيظٌ عليمٌ رقيب على كل نفسٍ منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خيرٍ وشر ولا يخفى عليه خافية... أفمن هو هكذا كالأصنام التي يعبدونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ولا تملك نفعاً لأنفسها ولا لعابديها ولا كشف ضرٍ عنها ولا عن عابديها وحذف هذا الجواب اكتفاءً بدلالة السياق عليه وهو قوله (وجعلوا لله شركاء) أي عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان([32]).
فهو رحمه الله استدل بسياق الآية على ما حذف منها فقد حذفت جملة معادل الهمزة اكتفاءً بدلالة قوله : (وجعلوا لله شركاء) وفي هذا يقول ابن جرير رحمه الله وحذف الجواب في ذلك فلم يقل وقد قيل (أفمن هو قائم على كل نفسٍ بما كسبت) ككذا وكذا اكتفاءً بعلم السامع بما ذكر عما ترك ذكره وذلك أنه لما قال جل ثنائه (وجعلوا لله شركاء) علم أن معنى الكلام كشركائهم التي اتخذوها آلة([33]).
وفي الختام هذه بعض شذرات وومضات من آثار السياق لفتح الباب لمن أراد أن يبحث في معاني كلام الله.
ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ
([1]) دلالة السياق إعداد د/ردة الله الطلحي ص50، 51.
([2]) للاستزادة عن ابن كثير يراجع الإمام ابن كثير د/مسعود الندوي.
([3]) تفسير ابن كثير ج1 ص7 ـ 8.
([4]) سورة آل عمران الآية رقم 159.
([5]) تفسير ابن كثير ج2 ص148.
([6]) السياق القرآني وأثره في التفسير دراسة من خلال تفسير ابن كثير إعداد / عبد الرحمن المطيري ص105، 106.
([7]) سورة البقرة لآية 155، 156.
([8]) السياق القرآني وأثره في التفسير دراسة من خلال تفسير ابن كثير إعداد / عبد الرحمن المطيري ص207.
([9]) سورة المزمل آية 15.
([10]) تفسير ابن كثير ج8 ص256.
([11]) سورة المزمل 10، 11.
([12])السياق القرآني وأثره في التفسير دراسة من خلال تفسير ابن كثير إعداد / عبد الرحمن المطيري ص212.
([13]) أصول الفقه للشيخ أبو زهرة ص149.
([14]) سورة هود آية 8.
([15]) سورة النحل 120.
([16]) سورة الزخرف 23.
([17]) سورة القصص 23.
([18]) سورة الأعراف 159.
([19]) تفسير ابن كثير ج4 ص308، 309.
([20]) تفسير ابن كثير ج1 ص159.
([21]) سورة التكوير 17.
([22]) سورة الليل 1،2.
([23]) تفسير ابن كثير ج8 ص120، السياق القرآني ص214 ـ 216 باختصار.
([24]) البرهان للزركشي ج3 ص388.
([25]) سورة البقرة 14.
([26]) تفسير ابن كثير ج1 ص184.
([27]) السياق القرآني وأثره في التفسير دراسة من خلال تفسير ابن كثير إعداد / عبد الرحمن المطيري ص221.
([28]) سورة يوسف 20.
([29]) تفسير ابن كثير ج4 ص377.
([30]) السياق القرآن ص232.
([31]) سورة الرعد 33.
([32]) تفسير ابن كثير ج4 ص463.
([33]) يراجع تفسير الطبري ج13 ص545، السياقي القرآني ص238، 239 للمطيري.