ما قبل النبوة
الاصطفاء
الله سبحانه يصطفي من يشاء من الناس , لحمل أمانة الدعوة إلى توحيده وتمجيده , وعبادته وحده دون سواه , والإعلان بأنه لا إله إلا الله , قال تعالى :
{ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) }آل عمران .
وقال الإمام أبو الفداء إسماعيل بن كثير في تفسيره في قوله تعالى:
" .. يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض، فاصطفى آدم، عليه السلام، خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه الجنة ثم أهبطه منها، لما له في ذلك من الحكمة.
واصطفى نوحا، عليه السلام، وجعله أول رسول [بعثه] (1) إلى أهل الأرض، لما عبد الناس الأوثان، وأشركوا في دين الله ما لم ينزل به سلطانا ... واصطفى آل إبراهيم، ومنهم: سيد البشر وخاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم .."
وبسندنا إلى الإمام السيوطي في الدر المنثور قال :
".. أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله { وآل إبراهيم وآل عمران } قال : هم المؤمنون من آل إبراهيم ، وآل عمران ، وآل ياسين ، وآل محمد صلى الله عليه وسلم .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال :
ذكر الله أهل بيتين صالحين ، ورجلين صالحين ، ففضلهم على العالمين ، فكان محمد صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم .
وأخرج ابن جرير وأبي أبي حاتم عن الحسن في الآية قال :
فضلهم الله على العالمين بالنبوّة على الناس كلهم ، كانوا هم الأنبياء الأتقياء المطيعين لربهم .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله { ذرية بعضها من بعض } قال : في النية ، والعمل ، والإخلاص ، والتوحيد .
وأخرج ابن سعد وابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده ، أن علياً قال للحسن قم فاخطب الناس قال : إني أهابك أن أخطب وأنا أراك . فتغيب عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه ، فقام الحسن فحمد الله وأثنى عليه وتكلم . ثم نزل فقال علي رضي الله عنه { ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم } .
وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس في قوله
{ إن الله اصطفى } يعني اختار من الناس لرسالته { آدم ونوحاً وآل إبراهيم } يعني إبراهيم وإسمعيل وإسحق ويعقوب والأسباط { وآل عمران على العالمين } يعني اختارهم للنبوّة والرسالة على عالمي ذلك الزمان . فهم ذرية بعضها من بعض ، فكل هؤلاء من ذرية آدم ، ثم ذرية نوح ، ثم من ذرية إبراهيم.
ولأن النبوة أمر عظيم ، يختار لها الله عز وجل أهلاً يصنعهم على عينه ، كما قال في نبيه موسى عليه السلام : {وأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}
قال الطبري :
واختلف أهل التأويل في معنى المحبة التي قال الله جلّ ثناؤه وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي )، فقال بعضهم: عنى بذلك أنه حببه إلى عباده.* ذكر من قال ذلك: حدثني الحسين بن عليّ الصدائي والعباس بن محمد الدوري، قالا ثنا حسين الجعفي عن موسى بن قبس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل، في قول الله (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) قال عباس: حببتك إلى عبادي، وقال الصُّدَاني: حببتك إلى خلقي.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أي حسنت خلقك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني إبراهيم بن مهدي، عن رجل، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، قوله ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) قال: حسنا وملاحة.
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله ألقى محبته على موسى، كما قال جلّ ثناؤه ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) فحببه إلى آسية امرأة فرعون، حتى تبنَّته وغذّته وربَّته، و إلى فرعون، حتى كفّ عنه عاديته وشرّه ، وقد قيل: إنما قيل: وألقيت عليك محبة مني، لأنه حببه إلى كل من رآه. ومعنى ( وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ) حببتك إليهم، يقول الرجل لآخر إذا أحبه: ألقيت عليك رحمتي: أي محبتي.
القول في تأويل قوله تعالى : ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي(39) )
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) فقال بعضهم:
معناه: ولتغذى وتربى على محبتي وإرادتي.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: هو غذاؤه، ولتغذى على عيني.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) قال: جعله في بيت الملك ينعم ويترف غذاؤه عندهم غذاء الملك، فتلك الصنعة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنت بعيني في أحوالك كلها.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ) قال: أنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت، ثم في البحر، و( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ). وقرأ ابن نهيك( وَلِتَصْنَعَ) بفتح التاء.
وتأوّله كما حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد المؤمن، قال: سمعت أبا نهيك يقرأ( وَلِتَصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) فسألته عن ذلك، فقال: ولتعمل على عيني...ولتغذى على عيني، ألقيت عليك المحبة مني ، وعني بقوله(عَلى عَيْنِي) بمرأى مني ومحبة وإرادة."
وذلك هو الأمر لنبينا محمد ٍ صلى الله عليه وسلم .
فقد روينا بسندنا إلى الإمام أحمد رحمه الله في المسند قال :
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ بُدَيْلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى كُتِبْتَ نَبِيًّا قَالَ:"وآدَمُ عَلَيْهِ السَّلَام بَيْنَ الرُّوحِ والجسد " .
ومن طريق الإمام البيهقي في دلائل النبوة قال :
أخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان ببغداد قال: حدثنا عبد الله بن جعفر قال: حدثنا يعقوب بن سفيان قال: حدثنا أبو صالح وأخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران العدل ببغداد قال: حدثنا أبو علي أحمد بن الفضل بن العباس بن خزيمة قال: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثني معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض بن سارية صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
« إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل (1) في طينته ، وسأخبركم عن ذلك : دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ؛ وكذلك أمهات النبيين يرين ».
وإن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم رأت حين وضعته نورا أضاءت له قصور الشام - وفي رواية يعقوب : أضاءت منه قصور الشام تابعه عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح . ورواه أيضا أبو بكر بن أبي مريم الغساني عن سعيد بن سويد . وقوله صلى الله عليه وسلم:
« إني عبد الله وخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته » يريد به : أنه كان كذلك في قضاء الله وتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأول الأنبياء صلوات الله عليهم ، وقوله : « وسأخبركم عن ذلك : دعوة أبي إبراهيم عليه السلام »
يريد به أن إبراهيم عليه السلام لما أخذ في بناء البيت دعا الله - تعالى جده-أن يجعل ذلك البلد آمنا ، ويجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، ويرزقهم من الثمرات والطيبات. ثم قال: ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (2)) فاستجاب الله تعالى دعاءه في نبينا صلى الله عليه وسلم ، وجعله الرسول الذي سأله إبراهيم عليه السلام ، ودعاه أن يبعثه إلى أهل مكة ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « أنا دعوة أبي إبراهيم » ومعناه: أن الله تعالى لما قضى أن يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأثبت ذلك في أم الكتاب ، أنجز هذا القضاء بأن قيض إبراهيم عليه السلام للدعاء الذي ذكرنا ليكون إرساله إياه بدعائه كما يكون تقلبه من صلبه إلى أصلاب أولاده. وأما قوله « وبشارة عيسى بي » فهو أن الله تعالى أمر عيسى عليه السلام فبشر به قومه فعرفه بنو إسرائيل قبل أن يخلق صلى الله عليه وسلم.
*من طريق الإمام أبي حاتم ابن حبان في صحيحه قال :".. ذكر كتبة الله جل وعلا عنده محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ".
أخبرنا علي بن الحسين بن سليمان، بالفسطاط، حدثنا الحارث بن مسكين، حدثنا ابن وهب، قال: وأخبرني معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن العرباض بن سارية الفزاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إني عند الله مكتوب بخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل (1) في طينته ، وسأخبركم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام »(1) منجدل: ملقى على الجدالة وهي الأرض .
فلما كان الاصطفاء كان الاعتناء ، ... والى صلةٍ قريبةٍ بإذن الله