بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

"...واليوم يراد بنا أن نعكف على اللهو واللعب، وننشغل عما لأجله خُلقنا وهو عبادة الله وحده، فنعقد الأمل على أقدام لاعبة، لتعيد أمجادا لنا غائبة؛ ألا فليُعلم أنَّ اللعب لا يبني دولة، ولا يشيد حضارة، ولا يثبِّت مجدا، ولا يحفظ وحدة!! ..."

الـجـد والـلــعب
الشيخ توفيق عمروني الجزائري
شعبان 1435 - جوان 2014
منقول من "مجلة الإصلاح الجزائرية" العدد 17

إنَّ من قلَّة التَّوفيق أن لا يميِّز المرء حقائق الأشياء ومراتبها ومنازلها، فلا يميز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين السنة والبدعة، وبين الأمور المهمات والأمور المهملات، ثم بين مراتب الأشياء كخير الخيرين، وشر الشرين أيُّهما يقدم فيؤتى، وأيُّهما يؤخر فيترك، وبين ما يجب أن تشغل به الأوقات والأعمار، وما ينبغي أن تصرف عنه الأنظار، فالموفَّق من أنزل كلَّ شيء منزلتَه، ووضع كلَّ أمر موضعَه، وأعطى كل شيء حقه، فلا يجعل الجد لعبا، كما لا يحوِّل اللعب جدًّا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون} [الأنعام:32].
وإنَ من عجائب هذا الزمن والعجائب فيه جمّة، أن صار اللعب يحظى بعناية خاصة، وبرعاية فائقة، وتنفق في سبيله الأموال الطائلة، وتسخر له الوسائل الضخمة الهائلة، واللاعبون هم «الأبطال»، وهم «النجوم»، وهم «المحاربون»..!!؛ فاللعب لم يعد لعبا فحسب؛ بل صار له شأن آخر، تنشأ له الأكاديميات، وتوضع له الخطط والسياسات، وصار عند الساسة من الأولويات، لأنه أضحى مسكِّنا ومهدِّئا للجماهير الغفيرة، وجامعا للقلوب المتنافرة، وسببا لتقوية اللحمة بين المجتمع الواحد، وإنَ العاقل ليعجب مما آل إليه الحال؛ إذ كيف يتصور في أمة أكرمها الله تعالى بأعظم شريعة وأتم دين وأكمله، وفيه كل أسباب التآلف والاجتماع والوحدة، ثم يؤول بها الحال ألا تجد ما تجتمع وتتوحد عليه سوى اللعب؛ إن مثل هذا الاجتماع لا يفرح به كثيرا، لأن اللعب كالوهم والحلم يلهو به المرء قليلا ثم سرعان ما تنقضي نشوته فيعود إلى الحقيقة واليقظة، فالأمة تجتمع وتتماسك إذا جمعت قلوبها على التوحيد والاتباع، وقد ساد أسلافنا العالم لما عمرت القلوب بالعلم والإيمان، فجادت العقول والقرائح بأنواع من العلوم والاختراعات والابتكارات التي أذهلت الأمم؛ واليوم يراد بنا أن نعكف على اللهو واللعب، وننشغل عما لأجله خُلقنا وهو عبادة الله وحده، فنعقد الأمل على أقدام لاعبة، لتعيد أمجادا لنا غائبة؛ ألا فليُعلم أنَّ اللعب لا يبني دولة، ولا يشيد حضارة، ولا يثبِّت مجدا، ولا يحفظ وحدة!!
وإن من المستهجن القبيح أن يتحوَّل اللعب إلى هوس يصل بصاحبه إلى حد التقديس والوَلَه، لا يصبح ولا يمسي إلا على أخبار اللعب، وأحوال اللاعبين، وأحداث الملاعب، لا يغادر شاردة ولا واردة، يهون عنده كل شيء في سبيل مشاهدة اللعبة، ولو بارتكابه للجريمة العظمى والبلية الكبرى وهو ترك الصلاة في وقتها، وإن أقامها بين الشوطين فعلى عجل، وخالية من الخشوع والوجل، يخشى أن تفوته لقطة أو سقطة أو قذفة؛ ومن التردي الذي وصل إليه عشاق اللعب أن صحيفة سيارة نشرت في عدد لها نصيحة من جمع من الأطباء ينصحون من كان مصابا بضعف في قلبه أن يتجنب متابعة اللعبة حتى لا يتوقف قلبه عن النبض من شدة الفرح أو من شدة الحزن، كما حدث قريبا أن رجلا (مشجِّعا) مات من نوبة قلبية من شدَّة الفرح لما سجل فريقه هدفا في شباك الخصم؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فاللعب لا يعدو أن يكون لعبا، فإذا خسرنا في لعبة لا يعني أن نلبس الحداد، ونذرف الدموع، ونتأوه الحسرات والزفرات، وتظلم الدنيا في أعيننا، وتضيق علينا الأرض بما رحبت، ونكسر ونهدم ونهلك كل ما اعترض طريقنا وكان أمامنا!!
وكذلك إذا فزنا في لعبة لا يعني ذلك أن نبيح لأنفسنا كل ممنوع، ونرتكب ما ليس بمشروع، بحجة أننا نعبر عن فرحتنا ـ كما هو واقع اليوم في شوارعنا عقب كل مقابلة رياضية ـ.
إنَّ ممَّا يجب أن لا ينسى أنَّنا قطعة من الأمَّة الإسلاميَّة الَّتي تعاني آلاما وجراحا من قرون بعيدة لو أعيد تصويرها على الحَقيقة وأعيد إحياؤها في النفوس لكانت كفيلة أن تسيل على الخدود العبرات، وتملأ الصدور بالزفرات، وتنغص علينا الأفراح والمسرات، فكيف ونحن نسمع ونرى كل يوم جسد الأمة ينهش من كل جهة ودماؤها تسفك في كل بقعة، والمسلم المرهف الحس يستشعر آلام إخوانه في العقيدة والدين إذ لا يليق به أن يترك للحدود الوهمية تعمل عملها كما أرادها المستعمر من التفريق والتبديد؛ بل المسلم أخو المسلم حيث كان من الأرض وحيث ما حل فيها، ولا بد من امتثال قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالحُمَّى» [البخاري (6011) ومسلم (2586)].
فلا أخال مسلما معتدا بهذه الرابطة الإيمانية يشعر بالفرح التام وبنشوة الانتصار الكاملة إذا هزم فريقه فريقا آخر، وفي الوقت الذي هو يحتفل ويرقص طربا إخوانٌ له في طرف من أطراف الأرض تتمزق أجسادهم إلى أشلاء، وتتقطع أبدانهم إربا إربا، وفتن تفتك بهم فتكا بأيدي أعداء هذه الأمة من اليهود والنصارى، أو بأيدي بعضهم بعضًا!!
ألا فليعلم كل مهوس باللعب أن الفائز على الحقيقة من فاز بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وفاز بالجنة يوم القيامة، قال تعالى:{وَمَن يُطِعْ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71]، وقال: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور} [آل عمران:185].
هذه نفثة مصدور، وصيحة نذير، وإن كانت تسير عكس التيار ـ كما يقال اليوم ـ أردنا بها النصح والتحذير، ولا يعني هذا أننا ضد الرياضة الَّتي ينتفع بها الإنسان، وتتقوَّى بها الأبدان، ويستعان بها على طاعة الرَّحمن، إذا خلت من المحظورات، وبعُدت عن إثارة البغضاء والعداوات، ولم تصدَّ عن ذكر الله وعن الصَّلوات، إلاَّ أنَّه على المسلم أن يغلِّب الجدَّ على اللَّعب، حتى يسلم من مواقع العطب، ولا يخلطن بين الجدِّ واللَّعب، والحق والكذب، وأن يدرك أن هدفه أسمى وأعلى وأغلى إنَّه «الجنَّة»، فلنكن أبناء جدٍّ لا أبناء لهو ولعب، والحمد لله وحده. اهـ.

*****
ولا حول ولا قوة إلا بالله
نحبكم في الله
والله الموفق
والحمد لله