الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
اختلف العلماء في المفاضلة بين عمرة في رمضان، وبين عمرة في غيرها من الأشهر على ثلاثة أقول:
▪ القول الاول: ان العمرة في رمضان أفضل من العمرة فيما سواها من الأشهر، وهو مذهب الحنابلة، وبعض الحنفية، والمالكية، وغيرهم من المحدثين.
قال الامام أحمد: هي في شهر رمضان أفضل، عمرة في رمضان تعدل حجة. [مسائل الامام احمد برواية ابن هانئ ص154]
وقال ابن مفلح: وهي أفضل في رمضان. قال أحمد: هي فيه تعدل حجة، قال: وهي حج أصغر. [الفروع 6/72]
وقال ابن مفلح: العمرة في رمضان أفضل، واستدل بحديث ابن عباس. [الفروع 5/320]
وقال المرداوي: العمرة في رمضان أفضل مطلقا؛ قال الامام احمد: هي فيه تعدل حجة؛ قال: وهي حج أصغر. [الإنصاف مع الشرح الكبير 9/284]
وقال البهوتي: والعمرة (في غير أشهر الحج أفضل) نصا، وكره إكثار منها أي العمرة والموالاة بينهما، قال في الفروع: باتفاق السلف.
(وهو) أي الإكثار منها (برمضان أفضل) لحديث ابن عباس مرفوعا: "عمرة في رمضان تعدل حجة" اهـ [شرح منتهى الإرادات 2/583]
وقال الكوسج: قلت من قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة" أثَبْتٌ هو؟
قال الامام احمد: بلى، هو ثبت.
وقال إسحاق: ثبت كما قال، ومعناه: ان يكتب له كأجر حجة، ولا يلحق بالحاج أبدا. [مسائل الامام احمد وإسحاق برواية الكوسج 1/553]
وقال ابن عبد البر: وفيه -أي في حديث: "اعتمري في رمضان، فان عمرة فيه كحجة، من الفوائد- ان الأعمال قد يفضل بعضها بعضا في أوقات، وأن الشهور بعضها أفضل من بعض، والعمل في بعضها أفضل من بعض، وأن شهر رمضان مما يضاعف فيه عمل البر، وذلك دليل على عظيم فضله.
وقال ايضا: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان تعدل حجة" من وجوه كثيرة، من حديث علي بن ابي طالب، وأنس، وابن عباس، ووهب بن خنيس، وأبي طليق، وأم معقل، وهو حديثها اهـ [التمهيد 22/55، وانظر المنتقى شرح موطأ مالك للباجي 3/400]
وقال ابن العربي: حديث العمرة هذا صحيح، وهو فضل من الله ونعمة، فقد أدركتْ العمرة منزلة الحج بانضمام رمضان إليها. [فتح الباري لابن حجر 3/707]
وقال ابن الهمام : وقوله (العمرة لا تفوت) أي لأنها غير مؤقتة (وهي جائزة في جميع السنة) يدل على جوازها في أشهر الحج.
وأما أفضل أوقاتها فرمضان. [شرح فتح القدير 3/124]
وقال الحصكفي: وجازت في كل السنة، وندبت في رمضان.
قال ابن عابدين: قوله (وندبت في رمضان) أي إذا أفردها، كما مر عن الفتح، ثم الندب باعتبار الزمان؛ لأنها باعتبار ذاتها سنة مؤكدة أو واجبة، كما مر، أي إنها فيه أفضل منها في غيره، واستدل له في الفتح بما عن ابن عباس: "عمرة في رمضان تعدل حجة". [رد المحتار على الدر المختار 3/545، و 3/546]
وقال ابن عابدين أيضاً: اذا أتى بها مرة واحدة فقد أقام السُنّة، غير مقيد بوقت، غير ما ثبت النهي عنها فيه، إلا أنها في رمضان أفضل. [رد المحتار على الدر المختار 3/545-546]
وقال ابن المنذر: وفضل العمرة في الشهور كلها واحد، إلا في شهر رمضان، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة". [الإقناع 1/233]
والدليل على فضل العمرة في رمضان حديث ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة". [أخرجه البخاري برقم 178، ومسلم برقم 1256]

▪ القول الثاني: عدم المفاضلة بين العمرة في رمضان والعمرة في غيره من الشهور، وهو مذهب الحنفية، والشافعية، زاد الشافعية استحباب العمرة في أشهر الحج، وفي رمضان.
قال الشافعي: يجوز أن يُهلَّ الرجل بالعمرة في السنة كلها، يوم عرفة، وأيام منى، وغيرها من السنة، إذا لم يكن حاجا، ولم يطمع في الحج اهـ [الأم 2/193]
وقال الشافعي ايضا: وقت العمرة متى شاء اهـ [مختصر المزني ص71]
وقال الشيرازي: اما العمرة فإنها تجوز في اشهر الحج، وغيرها؛ لما روت عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في ذي القعدة، وفي شوال" وروى ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة"..
قال النووي: قال أصحابنا: ويستحب الاعتمار في أشهر الحج، وفي رمضان، للأحاديث السابقة. [المجموع 7/137 وما بعده]
وقال الطحاوي: العمرة جائزة في السنة كلها، الا في يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، فإنها مكروهة فيها اهـ [مختصر الطحاوي ص 64]
وقال الجصاص: قال أصحابنا: العمرة جائزة في كل السنة، غير يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق، فإنها محظورة فيهن اهـ [مختصر اختلاف العلماء 2/100]
وقال الكاساني: السنة كلها وقت العمرة، وتجوز في غير اشهر الحج، وفي اشهر الحج؛ لكنه يكره فعلها في يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق اهـ [بدائع الصنائع 3/325]

▪ القول الثالث: ان العمرة في ذي القعدة أفضل من العمرة في رمضان، وهو مذهب بعض المتأخرين من أهل العلم، على تردد منهم في هذا التفضيل.
قال ابن الهمام: ولما ثبت أن عمره صلى الله عليه وسلم كانت كلها في ذي القعدة وقع تردد لبعض أهل العلم في أن أفضل أوقات العمرة أشهر الحج أو رمضان، ففي رمضان ما قدمناه مما يدل على الأفضلية، ولكن فعله لما لم يقع إلا في أشهر الحج، كان ظاهرا أنه أفضل، إذ لم يكن الله سبحانه وتعالى يختار لنبيه إلا ما هو أفضل، أو ان رمضان أفضل بتنصيصه صلى الله عليه وسلم على ذلك. [شرح فتح القدير 3/126]
وقد رجح ابن الهام ان العمرة في رمضان أفضل كما تقدم.
قال ابن القيم: واما المفاضلة بينه وبين الاعتمار في رمضان، فموضع نظر، فقد صح عنه أنه أمر أم معقل لما فاتها الحج معه، أن تعتمر في رمضان، وأخبرها ان عمرة في رمضان تعدل حجة.
وأيضاً فقد اجتمع في عمرة رمضان أفضل الزمان، وأفضل البقاع، ولكن الله لم يكن ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم في عُمَرِهِ إلا أولى الأوقات، وأحقها بها، فكانت العمرة في أشهر الحج نظير وقوع الحج في أشهره، وهذه الأشهر قد خصها الله تعالى بهذه العبادة، وجعلها وقتا لها، والعمرة حج أصغر، فأولى الأزمنة بها أشهر الحج، وذو القعدة أوسطها، وهذا مما نستخير الله فيه، فمن كان عنده فضل علم، فليرشد إليه.
وقد يقال ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يشتغل في رمضان من العبادات بما هو أهم من العمرة، ولم يكن يمكنه الجمع بين تلك العبادات وبين العمرة، فأخر العمرة الى أشهر الحج، ووفر نفسه على تلك العبادات في رمضان مع ما في ترك ذلك من الرحمة بأمته والرأفة بهم، فإنه لو اعتمر في رمضان، لبادرت الأمة الى ذلك، وكان يشق عليها الجمع بين العمرة والصوم، وربما لا تسمح أكثر النفوس بالفطر في هذه العبادة، حرصا على تحصيل العمرة وصوم رمضان، فتحصل المشقة، فأخرها الى أشهر الحج، وقد كان يترك كثيرا من العمل وهو يحب ان يعمله، خشية المشقة عليهم. [زاد المعاد 2/95 وما بعدها]
استدل ابن القيم على هذا القول بدليلين.
الأول: فعل النبي صلى الله عليه وسلم للعمرة في ذي القعدة.
كما في حديث أنس رضي الله عنه: ان النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر اربع عمر، كلهن في ذي القعدة، إلا التي في حجته" [متفق عليه]
والجواب عن هذا الاستدلال من وجهين:
الأول: انه ليس في هذا الحديث ان العمرة في ذي القعدة أفضل من العمرة في رمضان، ولم يذكر ذلك جمهور العلماء.
االثاني: ان أهل العلم حملوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم للعمرةَ في ذي القعدة على بيان الجواز، خلافا لأهل الجاهلية.
وبعضهم حمله على فضل العمرة في ذي القعدة، وفي أشهر الحج عموما، دون تفضيلها على عمرة رمضان.
وقد كان أهل الجاهلية يمنعون العمرة في أشهر الحج، ويعدونه من أفجر الفجور.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض" [أخرجه مسلم في الصحيح 1108]

الدليل الثاني: ان الله ما كان ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم في عُمَرِهِ إلا أولى الأوقات، وأحقها بها.
والجواب على ذلك من وجهين:
الاول: ان النبي صلى الله عليه وسلم قد يترك العمل الفاضل ويعمل بالمفضول لأسباب.
قال ابن الهمام: وتركه لذلك -اي لعُمَرِة في رمضان- لاقترانه بأمر يخصه، كاشتغاله بعبادات أخرى في رمضان تبتلا، وألا يشق على أمته، فانه لو اعتمر فيه، لخرجوا معه، ولقد كان بهم رحيما.
وقد أخبر في بعض العبادات ان تركه لها لئلا يشق عليهم، مع محبته له، كالقيام في رمضان بهم، ومحبته لأن يسقي بنفسه مع سقاة زمزم، ثم تركه كي لا يغلبهم الناس على سقايتهم اهـ [شرح فتح القدير 3/126]
الثاني: ان قوله عليه الصلاة والسلام اذا خالف فعله، فالمقدم القول على الفعل، كما هو مقرر في كتب أصول الفقه، مع انه لا تعارض بين الحديثين، فحديث عمرة في ذي القعدة بيان للجواز مخالفة لما كان يعتقده أهل الجاهلية، وحديث عمرة رمضان بيان لفضلها فيه.

واستدل آخرون غير ابن القيم بتفضيل عمرة ذي القعدة على عمرة رمضان بثلاثة أدلة.
الدليل الاول: ان حديث: "عمرة في رمضان تعدل حجة" خاص بأم معقل، واستدلوا على ذلك بما جاء في إحدى الروايات عن أم معقل رضي الله عنها انها قالت: وقد قال هذا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أدري أليَ خاصة" [أخرجه أبو داود في السنن 1989]
والجواب على هذا الاستدلال من وجوه:
الجواب الاول: ان هذه الزيادة لم ترد في جميع الطرق التي رويت عن أم معقل، إلا في رواية عيسى بن معقل عن يوسف بن عبدالله بن سلام.
فهي زيادة غير صحيحة، بل منكرة، تفرد بها عيسى بن معقل عن يوسف بن عبدالله بن سلام.
وعيسى بن معقل لم يوثقه احد، وقد روى جماعةٌ من الرواة هذا الحديثَ، فأين هم عن مثل هذا الزيادة؟!
قال الالباني عن هذا الحديث: صحيح، دون قوله: فكانت تقول .... إلخ اهـ [كما في تعليقه على سنن أبي داود]
فلم يصحح هذه الزيادة.
وقد رواه ابن المنكدر قال سمعت يوسف بن عبدالله بن سلام قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار وامرأته: "اعتمرا في رمضان، فان عمرة فيه لكما كحجة"
وفي رواية: "فإن عمرة فيه كحجة" [أخرجه الامام أحمد في المسند بالروايتين 4/35، وأخرج الحميدي الرواية الأولى 2/384، وأخرج النسائي الرواية الثانية في السنن الكبرى 2/472]
الجواب الثاني: لو سلمنا جدلا بصحة هذه الزيادة، فليس فيها جزم منها رضي الله عنها باختصاصها بذلك، وانما هي تشك في ذلك، إذ قالت: "ما أدري أليَ خاصة"
الجواب الثالث: ان الرواي عنها وهو ابو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث فهم من الحديث العموم، ولذا كان لا يعتمر الا في رمضان. [أخرجه ابن ابي شيبة في المصنف رقم 13193]

الدليل الثاني مما استدلوا به على تفضيل عمرة ذي القعدة على غيرها: ما روي عن سعيد بن جبير انه قال: "إنما قال النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة خاصة".
والجواب عن هذا الاستدلال من وجوه:
الجواب الاول: ان هذه الزيادة قد روية من طريقين:
الطريق الأول: عن شعبة واختلف عليه في هذه الزيادة.
قال ابو داود الطيالسي: حدثنا شعبة، عن ابراهيم بن المهاجر، قال: سمعت أبا بكر بن الحارث بن هشام القرشي يقول: أرسل مروان بن الحكم الى أم معقل -امرأة من أشجع- فقالت المرأة: كانت علي عمرة، وان زوجي جعل بكرا له في سبيل الله، فطلبتُ اليه ان يعطينيه اعتمر عليه، فقال: اني جعلته في سبيل الله.
فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "ان الحج والعمرة من سبيل الله"، فأمره ان يعطيها تعتمر عليه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عمرة في رمضان كحجة"، "أو قال: "تُجزئ بحجة".
قال شعبة: فحدثني أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال: ،انما قال النبي صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة خاصة. [أخرجه أبو داود الطيالسي في المسند 3/238]
إسناد قول سعيد بن جبير في هذه الرواية ظاهره انه معلق، ولم يبين ابو داود الطيالسي صيغة تدل على اتصاله، سواء بالعنعنة أو غيرها، خاصة وانه يختلف عن الاسناد الذي ساقه قبله.
وعلى كل حال فقد خالف أبو داود الطيالسي من هو أوثق منه في روايته عن شعبة، وهو محمد بن جعفر.
فقد رواه محمد بن جعفر، عن شعبة، عن ابراهيم بن مهاجر به، ولم يذكر كلام سعيد بن جبير هذا. [أخرجه الامام احمد في المسند 6/405، وابن خزيمة في الصحيح 4/360، والحاكم في المستدرك 1/482] انظر سنن ابي داود رقم 1988 او الحديث 1732
ومحمد بن جعفر غندار ، قال عنه الذهبي: أحد الأثبات المتقنين، لا سيما في في شعبة اهـ [ميزان الاعتدال 3/502]
ومحمد بن جعفر من أثبت الناس في شعبة.
قال جعفر: لزمت شعبة عشرين سنة، لم أكتب عن أحد غيره شيئا، وكنت اذا كتبت عنه، عرضته عليه.
وكان جعفر ربيبا لشعبة.
وقال ابن مهدي: غندر أثبت في شعبة مني.
وقال ابن المبارك: اذا اختلف الناس في حديث شعبة، فكتاب غندر حكم بينهم. [تهذيب التهذيب لابن حجر 5/64]
وقال ابن عدي عن الطيالسي: وهو كما قال عمرو بن علي: ثقة، واذا جاوزت في اصحاب شعبة: معاذ بن معاذ، وخالد بن الحارث، ويحيى القطان، وغندار، فأبو داود خامسهم اهـ [تهذيب التهذيب 2/399]
فمحمد بن جعفر مقدم على ابي داود الطيالسي في حديث شعبة.
وكذلك رواه حجاج بن المنهال، عن شعبة، بمثل رواية محمد بن جعفر. [أخرجه الإمام احمد في المسند 6/405]
وحجاج ثقة باتفاق أئمة الجرح والتعديل. [تهذيب التهذيب لابن حجر 1/447]
وكذلك رواه وهب بن جرير، عن شعبة، بدون زيادة كلام سعيد بن جبير.
ووهب لا بأس به، إلا انه لم يسمع من شعبة، كما قاله ابن مهدي، واحمد بن حنبل. [تهذيب التهذيب 6/103]
ورواه أبو عوانة، عن ابراهيم بن مهاجر، بمثل رواية محمد بن جعفر عن شعبة. [أخرجه أبو داود في السنن رقم 1988]

الطريق الثاني لهذه الزيادة: ما اخرجه احمد بن منيع، حدثنا هشيم، أنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن امرأة من الأنصار يقال له أم سنان رضي الله عنها، انها أرادت الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها: "اعتمري في رمضان، فإنها كحجة".
قال سعيد: ولا نعلمه إلا لهذه المرأة وحدها. [المطالب العالية لابن حجر رقم 1286]
وهذه الرواية فيها علتان:
العلة الاولى: تفرد أحمد بن منبع عن هشيم بهذا الاسناد، وقد روى عن هشيم الثقات الأثبات، مثل الامام مالك، وشعبة، والثوري، وابن المبارك، ووكيع، وغيرهم فأين هم عن مثل هذا الاسناد؟!
واحمد بن منيع قال عنه النسائي وصالح جزرة: ثقة.
وقال ابو حاتم: صدوق.
وقال الدارقطني: لا بأس به.
فمثله لا يحتمل منه مثل هذا التفرد عن هشيم في كثرة من روى عنه من الأئمة.
العلة الثانية: سماع هشيم من أبي بشر.
فقد سمع منه والله اعلم وهو صغير؛ لان وفاة أبي بشر كانت سنة 124، وقيل بعده. [تهذيب التهذيب 1/374]
وكان سماع هشيم من الزهري وهو صغير، كما قاله ابن معين. [تهذيب التهذيب 6/42]
والزهري مات سنة 124، كما قاله ابن حبان. [الثقات 5/249]

الجواب الثاني: ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو مذهب الجمهور. [روضة الناضر 2/693]
فلا يخص عموم هذا الحديث بسبب وروده، وهو قصة أم معقل، وإلا خصة كثير من الاحكام التي وردت بسبب شخص معين.

الجواب الثالث:انه لم ينقل عن احد من أهل العلم القول بتخصيص عمرة رمضان بأم معقل.
فمن سوّى بين العمرة في رمضان وغيرها من الشهور لم يذكر هذا التخصيص.
ومن ذهب الى فضل العمرة في رمضان فهموا من حديث أم معقل العموم، وهذا مما يضعف ما روي عن سعيد بن جبير في تخصيص أم معقل بهذا الحكم؛ لأنه لم يعمل بهذه الزيادة أحد من الأئمة المتقدمين.
بل ان ابن القيم الذي مال الى تفضيل العمرة في ذي القعدة لم يذكر ان حديث: "عمرة في رمضان تعدل حجة" خاص بأم معقل.

الجواب الرابع: ان سعيد بن جبير كان يعتمر في رمضان، ولو كان يرى تخصيص هذا الحديث بأم معقل ما كان ليعتمر في رمضان.
إلا ان يقال انه اعتمر في رمضان لجوازها في رمضان وغيره فهو محتمل.
قال ابن خثيم: كان سعيد بن جبير، ومجاهد يعتمران في شهر رمضان من الجعرانة. [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم 13191]

الدليل الثالث مما استدلوا به على تفضيل عمرة ذي القعدة على غيرها: أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة العمرة في رمضان.
والجواب على هذا الاستدلال من وجوه:
الجواب الاول: انه جاء عن بعض التابعين العمرة في رمضان، و امتدحوا العمرة فيه.
سئل الشعبي: هذا الحج الأكبر، فما الحج الأصغر؟ قال: عمرة في رمضان. [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم 13190]
وقال عبدالملك بن أبي سليمان: خرجت أنا وعطاء في رمضان، فأحرمنا من الجعرانة. [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم 13192]
وكذلك كان سعيد بن جبير، ومجاهد يعتمران في شهر رمضان من الجعرانة، كما تقدم.
وكذلك كان ابو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث لا يعتمر الا في رمضان، كما تقدم.
وقد قال الامام احمد: لا يكاد يجيء الشيء عن التابعين إلا ويوجد فيه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابو داود: يعني عندي ما يمثل عليه ذلك الشيء اهـ [مسائل أبي داود رقم 1790]

الجواب الثاني: ان من ذهب الى تفضيل العمرة في ذي القعدة لم يَنقل عن أحد من الصحابة انه كان يعتمر في ذي القعدة!
بل ولم ينقل عن أحد من الصحابة، أو التابعين، أو الأئمة المتقدمين تفضيل عمرة ذي القعدة على عمرة رمضان!

الجواب الثالث: ان عددا من الصحابة والتابعين كانوا يكرهون العمرة في اشهر الحج، ومنها شهر ذي القعدة، بل لا يرون العمرة في اشهر الحج تامة! وان كانت العمرة تجوز فيها.
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "افصلوا بين حجكم وعمرتكم، فان ذلك أتم لحج أحدكم؛ وأتم لعمرته ان يعتمر في غير أشهر الحج" اهـ [أخرجه مالك في الموطا]
وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن العمرة في أشهر الحج؟ فقال: {الحج اشهر معلومات} ليس فيهن عمرة" اهـ [أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف رقم 13194]
وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير بإسناده، وقال ابن كثير: وهذا اسناد صحيح اهـ [تفسير القران العظيم 1/480]
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "ان تفصلوا بين اشهر الحج والعمرة، فتجعلوا العمرة في غير اشهر الحج، أتم لحج أحدكم، وأتم لعمرته" اهـ [اخرجه ابن ابي شيبة في المصنف رقم 13197، وابن جرير الطبري في تفسيره رقم 3548]
وعن ابن عون قال: سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج؟ قال: "كانوا يرونها غير تامة" اهـ [اخرجه ابن ابي شيبة في المصنف رقم 13199، وابن جرير الطبري في تفسيره رقم 3551]
وكذلك قال ابن سيرين. [اخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره رقم 3552]
بل قال ابن سيرين: "ما أحد من أهل العلم شك ان العمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج" اهـ [اخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره رقم 3556]
وسئل علقمة عن العمرة في أشهر الحج؟ فقال: "ويفعل ذلك أحد"!! اهـ [اخرجه ابن ابي شيبة في المصنف رقم 13195]
وقال الامام أحمد في معنى حديث: "دخلت العمرة في الحج" قال: العمرة لا بأس بها في أشهر الحج، كان أهل الجاهلية يكرهون العمرة في أشهر الحج. [مسائل الامام أحمد برواية الكوسج 1/527]
وقال الامام احمد ايضا: هي في غير أشهر الحج أفضل اهـ [مسائل ابن هانئ رقم 724]
والكلام هنا عن تفضيل عمرة رمضان على عمرة أشهر الحج ومنها ذي القعدة، وإلا قد أجاز جمع من اهل العلم العمرة في أشهر الحج.

الجواب الرابع: ان المنقول عن بعض الصحابة الاعتمار في شهر رجب، منهم عمر، وعثمان، وغيرهما رضي الله عنهم. [أخرجها جميعا ابن أبي شيبة في المصنف رقم 13498 و 13502]
قال ابن رجب: استحب الاعتمار في رجب عمر بن الخطاب، وغيره.
وكانت عائشة تفعله، وابن عمر أيضاً.
ونقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه.
فان افضل الأنساك ان يؤتى بالحج في سفرة، والعمرة في سفرة أخرى في غير أشهر الحج، وذلك من جملة إتمام الحج والعمرة المأمور به، كذلك قاله جمهور الصحابة، كعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم رضي الله عنهم. [لطائف المعارف ص233]

الخلاصة: مما تقدم يتبين ان القول الراجح في هذه المسألة هو: تفضيل عمرة رمضان على غيرها من الشهور، وأنها تعدل في الفضل والثواب أجر حجة، والله اعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

كتبه: فؤاد بن عبدالله الحاتم