من الصيغ التي يُستدل بها على التحريم مطلقا : (( ليس منا )) ، كقوله صلى الله عليه وسلم : (( من غشنا فليس منا)) و((من حمل علينا السلاح فليس منا)) ؛ لأن ظاهرها البراءة ، والبراءة المطلقة لا تكون إلا من الكفر (ولذلك احتج الخوارج بهذه النصوص على التكفير) ، والبراءة المقيدة بمن نطق الشهادتين ظاهرها الدلالة على التحريم ، والبراءة المقيدة بغير المحرم تدل على الكراهة التنزيهية أو ترك المستحب .
و بهذا يتبين بأن التعامل المطلق مع هذه الصيغة على أنها تدل على التحريم = لا يصح ، فقد تأتي على وجه لا يدل على التحريم :
فقد وردت على ما لا يَـحْرُم ، وفي الحث على عدم ترك مستحبات ليست واجبة ، على معنى : ليس على أتم وأكمل سنتنا ومنهجنا وطريقتنا .
ومن ذلك :
1- قوله صلى الله عليه وسلم : (( ليس منَّا من لم يتَغَنَّ بالْقُرْآنِ)) , والجمهور على أنها بمعنى التغني (تحسين الصوت) لا الاستغناء ، وبالإجماع أن تحسين الصوت مستحب وليس واجبا .
قال ابن حبان عقبه : ((مَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ مِنَّا فِي هَذِهِ الأَخْبَارِ : يُرِيدُ بِهِ لَيْسَ مِثْلَنَا فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا الْفِعْلِ لأَنَّا لا نَفْعَلُهُ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِثْلَنَا)) .
وقد استنكر الإمام أحمد هذا التفسير (( ليس مثلنا)) ، وكذلك شيخه عبد الرحمن بن مهدي . وبغض النظر عن صحة هذا الاستنكار ، فيبقى الحديث عند الأئمة الذين فسروا الحديث على تحسين الصوت محمولا على الاستحباب ، لا على الوجوب .
2- قوله صلى الله عليه وسلم : (( اقْتلُوا الْحيَّاتِ ، فمَنْ خافَ ثأْرَهُنَّ فلَيْسَ منِّي)) .
3- قوله صلى الله عليه وسلم : ((من لم يَأْخذْ من شَاربِهِ فَلَيسَ منَّا )) .
قال العراقي في طرح التثريب معلقا على لفظ آخر فيه ضعف لهذا المعنى ، منبها أيضا على صحة هذا اللفظ : (المراد - على تقدير ثبوته - : ليس على سنتنا وطريقتنا ، كقوله صلى الله عليه وسلم ليس منا من لم يتغن بالقرآن ، فهذا هو المراد قطعا )) .
4- وبإسناد حسن قوله صلى الله عليه وسلم : ((الوِتْرُ حقٌّ ، فمَنْ لم يوتِرْ فَلَيسَ مِنّا )) .
والجمهور أن الوتر مستحب ليس واجبا .
5- وفي صحيح مسلم من حديث عقبة بن عامر : (( من علم الرمي ثم تركه فليس منا . أو قد عصى )) .
قال ابن الجوزي في شرحه : (( قوله : ' ليس منا ' أي ليس على سيرتنا , وهذا لأن الرمي من آلة الجهاد ، فإذا تركه من علمه نسيه)) .
وقال ملا على القاري : (( أي ليس بمتصل منا ومعدود في زمرتنا ، وهو أشد ممن لم يتعلم ؛ لأنه لم يدخل في زمرتهم ، وهذا دخل ثم خرج ، كأنه رأى النقص فيه واستهزأ به ، وكل ذلك كفران لتلك النعمة الخطيرة . ذكره الطيبي .
( أو قد عصى ) الظاهر أنه شك من الراوي ، ويحتمل أن يكون للتنويع .
على أن الأول محمول على أنه تركه تكاسلاً وتهاوناً ، والثاني على أنه رأى فيه نقصاناً )) .
يعني : لفظ (( ليس منا )) يصلح مع من تركه تهاونا وكسلا ، فلا يكون فيه دلالة على التحريم . واللفظ الثاني ((فقد عصى)) لو صح لكان مختصا بمن تركه على وجه الانتقاص والتعالي على استحباب تعلمه .


فيحتاج الباحث قبل إطلاق القول بالتحريم أن يعلم ورود هذا الاحتمال في فهم هذه الصيغة : (( ليس منا )) ، لينظر في المعنى :
- هل هو مما تظهر مفسدته ، أو مما ثبت تحريمه (كالغش وحمل السلاح على المسلمين والنواح وشق الجيوب ونحو ذلك) ؟ فيكون حراما .
- أم هو من باب الآداب ، أو مما دل الدليل على عدم حرمته ؟ فيكون غير دال على التحريم (كترك التغني بالقرآن وترك الوتر ونحو ذلك ) .

د/حاتم العوني.