قال تعالى: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها"
تقوم اللغة على الاحتياج المعنوي والأهمية المعنوية ، والإنسان يتحدث بمستويات متعددة تحت رعاية الاحتياج المعنوي غالبا واللفظي نادرا مع علامات أمن اللبس ليكون بعيدا عن اللبس والتناقض وهو غاية كل لغة من لغات العالم كما هو الحال في قوله تعالى:" أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَىٰ مِنْهُمْ ۚ فَقَدْ جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ۚ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا ۗ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ*هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون * وفي هاتين الآيتين الكريمتين ما يلي:
1- قال تعالى:"فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا" فاستعمل كلمة "صدف" بحسب الأهمية المعنوية لأن كلمة "صدف" من الأفعال التى تُستعمل متعدية وتُستعمل لازمة ، و"صدف" فيها الخاصتان ، وجاء الحق بهذه الصيغة المحتملة لأن تكون لازمة وأن تكون متعدية ليصيب الأسلوب غرضين : الغرض الأول : أن تكون صدف بمعنى انصرف وأعرض فكانت لازمة أى ضل فى ذاته ، والأمر الثانى : أن تكون صدف متعدية فهى تدل على أنه يصرف غيره عن الإيمان ، أى يضل غيره ، ويقع عليه الوزر لضلال نفسه أولاً ثم عليه وزر من أضل ثانياً ، ولذلك جاء سبحانه باللفظ الذى يصلح للاثنين "صدف عنها" أي :انصرف ، ضلالاً لنفسه ، وصدف غيره أى جعل غيره يصدف ويعرض فأضل غيره ، وبذلك يعذبه الله عذابين ، فيقول سبحانه : {سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ*فكأ المسألة يرتكبها الذين صدفوا أنفسهم ، وصرفوها عن الإيمان ، ويصدفون كل من يحاول أن يؤمن ، وهؤلاء هم القوم الذين أعرضوا وانصرفوا عن منهج الهدى ، أو تغالوا فى ذلك فصرفوا غيرهم عن منهج الهدى ،فاستحقوا سوء العذاب وبهذا يكون الجزاء من جنس العمل ،وهناك الأهمية المعنوية متوافرة بين أجزاء الآية الكريمة.
2- قال تعالى:"فقد جَاءَكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ" فذكَّر الفعل جاءكم " لأن "بيِّنة" بمعنى الكتاب ،وبهذا يحصل الاحتياج المعنوي والأهمية المعنوية بين تذكير الفعل مع الفاعل المذكر من جهة المعنى ، وقد يكون بسبب الفاصل مما أدى إلى ضعف العلاقة المعنوية بين الفعل والفاعل فذكر الفعل وهو أجود ، وقد يكون بسبب كون الفاعل مؤنثا مجازيا فذكر الفعل معه ،والأمر كما ترى يعود إلى قوة أو ضعف العلاقة المعنوية بين الفعل والفاعل ،أو إلى الاحتياج المعنوي.
3- قال تعالى" يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا " ففصل بين الموصوف "نفسا" وبين صفتها "لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا" بواسطة الفاعل "إيمانها" بسبب حاجة الفعل "ينفع" إلى الفاعل "إيمانها "ولو تأخر الفاعل إلى ما بعد الصفة الطويلة لضعفت العلاقة المعنوية بينه وبين الفعل بسبب الفاصل أو طول المسافة التي تسببها الصفة الطويلة .
4- لاحظ تكرار كلمة "ربك" بدلا من الضمير وذلك من أجل التهويل والتعظيم.
5- قوله تعالى:" هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك " مبني على الانتظار ، وتترتب المباني بحسب الأهمية المعنوية بعد المبني عليه من الأقرب إلى الأبعد ، ومن الأهم إلى الأقل أهمية ، والمقصود بـ:" يأتي ربك" يأتي أمر ربك بالعذاب ، وليس مجيئه يوم الحساب لأن الله تعالى لا يضع نفسه بين الملائكة وعلامات قيام الساعة ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى :قل انتظروا إنا منتظرون " وهذا في الدنيا ، وفي يوم الحساب لا توجد توبة وانتظار ،وليس من عادة القرآن الكريم أن يتحدث عن الدنيا ثم عن الآخرة ثم عن الدنيا وهذه الأمور المنتظرة من قِبَل الكفار تترتب من الخاص إلى العام ، ومن الأهم إلى الأقل أهمية ، والموت ميتة طبيعية أخص وأقرب في تفكير الناس من الموت عذابا ، نقول لمن لا يصلي:صلِّ قبل أن يُصلى عليك ، والموت هو ما يخطر ببال الناس أولا وهو الأهم ،جاء في تفسير المنارما معناه: ولو كان المراد بقوله تعالى"يأتي ربك" أي :يأتي يوم القيامة، لجعل الأخير لأنه آخر ما ينتظر ، أو الأول لعظم شأنه(1)
=========================
(1) تفسير المنار
والله أعلم