بسم الله الرّحمن الرّحيم .
البيئةُ (التربويّة) الفاضلةُ .

مع بدايات القرن الحادي والعشرين تهافتت الأمم المتقدّمة على ابتكار بيئاتٍ تربويّةٍ تكاد تصل بالطالب إلى المرّيخ وهو جالسٌ في مقعده الدّراسيّ ، إنّ تجربةَ الخوضِ في ابتكار بيئاتٍ مثاليّةٍ ترتقي بالطالب ومعلمه ووليّ أمره ما لا مندوحة عنه ، خاصّةً أنّ الطّالبَ في هذا العصر ، مطّلعٌ بكلّ جوارحه على كيفيّة استخدام الحاسوب ، متمكّنٌ من استردادِ مخزونه الفكريّ والعلميّ عندَ التجوّل بينَ خلايا حاسوبه المدرسيّ أو الشخصيّ .

غيرَ أنّ الدّاعي إلى إيجاد بيئاتٍ تربويّةٍ فاضلةٍ ، يتطلّب منَ المعنيين المباشرين كلّ ما تحتاجه هذه البيئات - إنْ أردنا تحقيق حلمٍ بسيطٍ بتشكيل شخصيّةِ طالبٍ نموذجيٍّ ومعلّمٍ مثاليّ – بَدْءاً منْ المبنى ومروراً بالمناهج وانتهاءً بالتحصيل المُبتغَى عند كلا الطرفين المستفيديْن .

فالمبنى الأرستقراطي البسيط ، صورةٌ أوتوماتيكيّة تبعث على الطّالبِ – نفسيّاً وفسيولوجيّاً – أطيافاً يكاد يتلمسُّها كلّما تردّد على مدرسته التي ابتغاها لنفسه كما ابتغاها والداه له من قبل ؛ ذلك أنّ المبنى يجب أنْ يكونَ – وَفْقاً للطالب والمعلّم – خالياً من كلّ ما يعكّر صفوَ عمليّة التعلّم والتعليم ، وكأنّك به في حديقةٍ خضراءَ تحوي في صدرها صنوفاً منَ الغرفِ البهيجة والممّراتِ التي تمتصُّ من عمق نفسه المللَ والخذلان ، فمختبرات اللغة والحاسوب والفيزياء و ... – على سبيل المثال – تهيّئ للطالب جوّاً يُنسيه التوقّفَ عندَ حدودِ التلقينِ التقليديّ الباعث على تحجّر فكر الطالب الأخضر ، على شرط أنْ تكونَ مثلُ هذه المختبرات مجهّزةً بوسائلَ نفسيّةٍ مدموجةٍ طواعيّةً مع أرقى وسائل التقنية التعلّميّة .

ولاشكّ في أنّ صحّيّةِ هذه البيئة أدْعى إلى جذب عقول خضراءَ تتعامل وتتكيّف وتجتهد فتتعلّم ، حيثُ تتأصّل قوى ابتكار المبنى النّموذج من خلال الخدمات اللوجستيّة التي تقوم عليها وزارة التربيّة والتعليم ، مُسخّرةً كوادرَ بنّاءةٍ تكونُ كفؤاً مستعدّةً للتّكيّف مع أيّ طارئ ، وإنْ كلّفها ذلك ثمناً باهظاً ، إلا أنّه بالنّظر إلى المستقبل القريب فإنّه بخسٌ ثمنه ، والنتائج المنتظرة كفيلةٌ بأنْ تصلَ بطالبنا – محور العمليّة التربويّة – إلى سُدّة التفوّق العلميّ النفسيّ في آنٍ معاً .

أمّا المناهجُ والتي تُعدُّ سهماً آخرَ رابحاً في ابتكار بيئاتٍ صحيّةٍ آمنةٍ ، فإنّها الوتَرُ الحسّاس الذي يحتاج منّا طرائقَ دقيقةً عندَ اللعب عليه بطريقةٍ فضائيّةٍ يلمح فيها الطالبُ مساحاتٍ شاسعةً منَ ألوان التفوّق والتميّز والإبداع ، ينثر فيها المعلّم وسائلَ تعليميّةً شهيةً ، يستلهمها من المناهج التي يتعطّش الطالب – دائماً - إلى الارتواء من ينابيعها فراتَ العلوم ، قال تعالى : (فَبَعَثَ اللّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ ) المائدة ، آية 31 . فالبحث عن المعلومة والتعامل مع الحقيقة العلميّة بتفاعلٍ جادٍ ، إنّما هو عمليّة كرٍّ وفَرٍّ بينَ الطّالب – المتلقّي – والمعلّم – المُرسل – تنمو مثمرةً يانعةً على أرضٍ منهاج خصبٍ ، حتى تلمس واقع الطالب وتجلّي عنه غمامَ التأخر والتوقّف المتكرّر بلا سبب يقنع الأطرافَ المحوريّة الآنفة الذكر والمجتمع المحلّي الذي ينتظر سوقه من عمّال الوطن المتوّجين بالعلمِ عطاءً غيرَ محظور .
فتنوّع المناهج حِذاءَ التّسارع الحضاريّ التكنولوجيّ ، لهو بالضّرورة القصوى ما يُلحّ علينا بالاستجابة الفوريّة لمتطلبّات التفوّق والتميّز والإبداع ، وهذه الزوايا الثلاث تُؤخذ مجتمعةً بالتزامن مع الخطط الاستراتيجيّة المثلى والمتضمّنة في ثناياها قوّةً في الأداء وشفافيةً في الملاحظة ، لتلوح في الأفق بوادرُ الاطمئنان إلى مثاليّة المناهج المرجوّة مضامينها الإبداعيّة ، طالما يقوم على تأليفها أهل التميّز والإبداع ودعاة الابتكار العلميّ الممنهج .
وعندَ استحضار فكرةَ المبنى البسيط في رقيّه التكنولوجيّ وقزحيّة المناهج ، تتدلّى قطوف الأدوات وعبقريّة اختراعها وتنفيذها ، وذلك بعدَ استقطاب المعلّمين المؤهلّين حقّاً ؛ لاحتراف تنفيذها ببراعةٍ واستحكام .

والأدواتُ التعليميّة تتعدّدُ تعدّدَ الأفكار والمبادئ المراد زرعها في نفوس طلابنا ، من خلال التقائها في بوتقة التعلّم لتنصهر بأيسر السّبل والطّرائق التعليميّة ، فالطّالبُ نهِمٌ للعلم والتثبّت من الحقيقة مُنطلِقاً من قوله تعالى : (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ) الإسراء الآية 36 . فحواس الطّالب جميعاً تتجّه صوْبَ الأدوات المختارة بطريقةٍ فائقةٍ وأسلوبِ المعلّم المتميّز وحنكته في تسخير الأدوات المثيرة للقريحة الفكريّة والعلميّة لدى الطّالب ، ما يمكّنهما من خلالها منَ التكيّف المتفاعل في البيئةِ التعليميّةِ المستقرّة أمناً وأماناً .

إنّ اجتماع العوامل البيئيّة التعليم السّابقة ، لجديرةٌ أنْ تخلقَ من المدرسة حضارةً مصغّرةً باهظةَ التميّز والإبداع ، كما وترفد المجتمع بنُخَبٍ منَ الطلاب المأمول فيهم خيراً لمصلحةِ الوطن والمواطن ، بعد انخراطه في المجتمع ، فأمان المدرسة ، ما لا يختلف فيه اثنان ، في أنّ العلمَ الرّاقي والطّالبُ المتميّز والمعلّم المبدع مصدرها جميعاً واحدٌ ، وهو بئيةٌ تعليميّةٌ آمنة (البيئة الفاضلة) .
بقلم : خليل القعيسي .