قطرةُ عَرَقٍ


رائحةُ العرق من الروائح المكروهة للنفس، ويتنوع سببُه بتنوع الجهود المبذولة..

هذا يخرج من بيته باكراً باحثاً عن لقمة عيشٍ له ولأولاده، فيرجع في المساء وقد أضناه التعب، وبلغ منه الجهدُ مبلَغه..
وتلك تبقى في مملكتها لتأخذ دورها الطبيعي في رعاية بيت الزوجية، فتجهد نفسَها في ترتيب البيت وتنظيفه، وإعداد الطعام، فيؤذيها العرق..
وأخرى تخرج غُدْوةً لتحث الخطى إلى دار قرآن، أو مدرسة تحفيظ، أو معقلٍ من معاقل العلم النافع..
وذاك يتغرّب عن بلاده؛ باحثاً عن مصدر رزقٍ له ولأولاه وزوجته، وربما والديه، فتراه يَنصَب في حقلٍ زراعي، أو مصنع، أو ميدانٍ آخر..
ويَمضي أحدُهم لحلقة الدرس أو لمدرسته وجامعته معلماً أو متعلماً، مع بواكير الصباح؛ يبتغي بذلك وجه الله، فلا يَنفضّ الدرسُ إلا وقد بلغ الجهدُ منه مبلغه، وأثَرُ العرقِ والتعبِ بادٍ على محيَّاه.
وآخرُ يثني ركبتيه في مجالس العلم والعلماء، ويصبر ويصابر؛ حفظاً لآية، أو مذاكرة لحديث، أو مراجعة لمسألة..
ومِن أشرف مقامات تصبُّب العرق: لحظة تنزّل الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الوقت شتاء! من شدة وطأته عليه.
ومن تلك المقامات العالية: حين يعلو العرَقُ جبينَ العالِمِ إذا وردته مسألةٌ عظيمةٌ، كما وقع للإمام مالكٍ ـ رحمه الله ـ حين سأله السائل عن مسألةٍ منكرة تتعلق بصفةٍ من صفات الله تعالى!
وثمة آخرون يصيبهم العَرَق أيضاً، لكن في ميادين أخرى.. يسافر أحدُهم آلاف الكيلو مترات ليقيم حفلاً غنائياً في بلدٍ ما، يسبق ذلك أيامٌ وشهورٌ من التعب والسهر، والتمرين على تلك الحفلات!
وذاك لاعبٌ لاغِبٌ يسعى للعالمية والتميز في رياضته، يبذل من الجهد والوقت، والحمية ما يبذل..!
وثالث.. يمضي الساعات والأيام الطويلة، في سهر متتابع، ومالٍ كثير يُصْرَف في عملٍ إعلامي يَضِلُّ بسببه خلقٌ كثير..!
إنها دعوة للتأمل.. فالإنسان في هذه الحياة ـ أيّاً كان دِينه ومذهبه ـ لا يخرج عن هذه الآية: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ﴾[البلد: 4]، لكن الشأن في تصريف هذا الكَبَدِ، وتوجيهه.
السعداء والأشقياء، والأغنياء والفقراء، كلهم يَتعَبون ويَلغَبون، لكن الأهم أين تتجه بوصلةُ هذا التعب؟
الذي يسهر الليل في مناجاة ربه تعالى، والذي يسهر الليل في تنفيذ مشروعه الغنائي، كلاهما يتعب ويجهد..
مَنْ يعكف على تأليف كتابٍ ينفعه بعد موته، ومَنْ يعكف على تأليف رواية ماجنة، تثير الغرائز، وتحرك مكامن الشهوات، أو يسطر مقالات يشغّب بها على أصول الشريعة؛ كلاهما يتعب ويبذل قدراً مشتركاً من الجهد والتعب...
والمؤكَّد أن العرقَ الذي يَعقُب الطاعات لذّته باقية، وثوابه مدّخر، وأما العرَقُ الذي يَعقُب الذنوبَ والمعاصي تبقى حسرتُه، ويُسطّر في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها!
وستكون الحسرةُ عظيمةً حينما يكون صاحب هذا العرق ممن شملهم قوله تعالى: ﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾[الغاشية: 3، 4]، وصدق الله: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾[الليل: 4].
فانظر في عَرَق جبينك، فيم يَرْفَضّ، وعلى أي شيء يسيل؟ أهو عرقُ تَحدَّر عن عملٍ يحبه الله أم لا؟ أفي شيءٍ يُسْطَّرُ لك أم عليك؟



* رابط المقال على الموقع: http://almuqbil.com/play-4537.html