قال النووي في مقدمة خلاصته " فإنه ينبغي لكل أحد أن يتخلق بأخلاق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ويقتدي بأقواله وأفعاله وتقريره في الأحكام والآداب وسائر معالم الإسلام ، وأن يعتمد في ذلك ما صح ، ويجتنب ما ضعُف ، ولا يغتر بمخالفي السنن الصحيحة ، ولا يقلِّد معتمدي الأحاديث الضعيفة ؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال : ?وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا? ، وقال تعالى : ?لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة? ، وقال تعالى : ?قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم? ، فهذه الآيات وما في معناهن حثٌ على اتباعه - صلى الله عليه وسلم - ، ونهانا عن الابتداع والاختراع ، وأمرنا الله سبحانه وتعالى عند التنازع بالرجوع إلى الله والرسول أي الكتاب والسنة ، وهذا كله في سنةٍ صحت ، أما ما لم تصح فكيف تكون سنةً ، وكيف يُحكم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قاله أو فعله من غير مسوغ لذلك ، ولا تغترن بكثرة المتساهلين في العمل ، والاحتجاج في الأحكام بالأحاديث الضعيفة ، وإن كانوا مصنفين وأئمةً في الفقه وغيره ، وقد أكثروا من ذلك في كتبهم ، ولو سئلوا عن ذلك لأجابوا بأنه لا يعتمد في ذلك الضعيف ، وإنما أباح العلماء العمل بالضعيف في القصص وفضائل الأعمال التي ليست فيها مخالفة لما تقرر في أصول الشرع مثل فضل التسبيح ، وسائر الأذكار ، والحث على مكارم الأخلاق ، والزهد في الدنيا وغير ذلك مما أصوله معلومة مقررة " .
قال أبو المظفر محمد بن أحمد بن حامد بن إبراهيم بن الفضل البخاري : لما عُزل أبو العباس الوليد بن إبراهيم بن زيد الهمذاني عن قضاء الرَّي ورد بُخارى سنة ثماني عشرة وثلاث مئة لتجديد مودةٍ كانت بينه وبين أبي الفضل محمد بن عُبَيد الله البَلْعمي ، فنزل في جوارنا .
قال : فحملني معلمي أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الخُتَّلي إليه ، وقال له : أسألك أن تحدِّث هذا الصبي بما سمعت من مشايخك رحمهم الله . فقال : مالي سماع . قال: فكيف وأنت فقيه ، فما هذا ؟ قال : لأني لما بلغتُ مبلغَ الرجال تاقت نفسي إلى طلب الحديث ، ومعرفة الرجال ، ودراية الأخبار ، وسماعها ، فقصدتُ محمدَ بن إسماعيل البخاري ببخارى صاحب «التاريخ» والمنظور إليه في معرفة الحديث ، فأعلمتُه مُرادي ، وسألته الإقبال علي بذلك .
فقال لي : يا بني لا تدخل في أمر إلا بعد معرفة حدوده ، والوقوف على مقاديره .
قال : فقلت له : عرِّفني حدودَ ما قصدتُ له ، ومقادير ما سألتك عنه ؟
قال : اعلم أن الرجل لا يصير محدثاً كاملاً في حديثه إلا بعد أن يكتب أربعاً مع أربع كأربع مثل أربع في أربع عند أربع بأربع على أربع عن أربع لأربع ، وكل هذه الرباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربع ، فإذا تمت له كلها هانت عليه أربع وابتلي بأربع ، فإذا صبر على ذلك أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع ، وأثابه في الآخرة بأربع .
قال : قلت له : فسِّر لي رحمك الله ما ذكرت من أحوال هذه الرباعيات عن قلب صافٍ بشرح كافٍ ، وبيان شافٍ طلباً للأجر الوافي .
قال : نعم ، أما الأربعة التي تحتاج إلى كِتْبتها هي : أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وشرائعه ، والصحابة ومقاديرهم ، والتابعين وأحوالهم ، وسائر العلماء وتواريخهم .
مع أسماء رجالها ، وكناهم ، وأمكنتهم ، وأزمنتهم .
كالتحميد مع الخطب ، والدعاء مع الترسل ، والبسملة مع السور ، والتكبير مع الصلوات .
مثل المسندات ، والمُرسلات ، والموقوفات ، والمقطوعات .
في صغره ، وفي إدراكه ، وفي شبابه ، وفي كهولته .
عند شغله ، وعند فراغه ، وعند فقره ، وعند غناه .
بالجبال ، والبحار ، والبلدان ، والبراري .
على الأحجار ، والأصداف ، والجلود ، والأكتاف، إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق.
عن من هو فوقه ، وعن من هو مثله ، وعن من هو دونه ، وعن كتاب أبيه ، يتيقن أنه بخط أبيه دون غيره .
لوجه الله تعالى طالباً لمرضاته ، والعمل بما وافق كتاب الله منها ، ونشرها بين طالبيها ومحبيها ، والتأليف في إحياء ذكره بعده .
ثم لا تتم له هذه الأشياء إلا بأربع التي هي من كسب العبد ، أعني : معرفة الكتابة، واللغة ، والصرف ، والنحو .
مع أربع هي من إعطاء الله - عز وجل - ، أعني : الصحة ، والقدرة ، والحرص ، والحفظ .
فإذا تمت له هذه الأشياء هان عليه أربع : الأهل ، والولد ، والمال ، والوطن .
وابتلي بأربع: بشماتة الأعداء، وملامة الأصدقاء، وطعن الجهلاء، وحسد العلماء.
فإذا صبر على هذه المحن أكرمه الله تعالى في الدنيا بأربع : بعز القناعة ، وبهيبة النفس ، وبلذة العلم ، وبحيوة الأبد .
وأثابه في الآخرة بأربع : بالشفاعة لمن أراد من إخوانه ، وبظل العرش حيث لا ظل إلا ظله ، وبسقي من أراد حوض نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وبجوار النبيين في أعلى عليين في الجنة .
فقد أعلمتك يا بني مجملاً جميع ما كنت سمعت من مشايخي متفرقاً في هذا الباب ، فأقبل الآن على ما قصدتني له ، أو دَع .
قال : فهالني قوله ، وسكتُّ متفكِّراً ، وأطرقت نادماً ، فلما رأى ذلك مني ، قال : فإن لا تُطِق احتمال هذه المشاق كلها ؛ فعليك بالفقه الذي يمكنك تعلمه وأنت في بيتك قارٌّ ساكنٌ ، لا تحتاج إلى بُعد الأسفار ووطي الديار ، وركوب البحار ، وهو مع ذا ثمرة الحديث ، وليس ثواب الفقيه بدون ثواب المحدث في الآخرة ، ولا عزه بأقل من عز المحدث .
فلما سمعت ذلك نقص عزمي في طلب الحديث ، وأقبلت على علم ما أمكنني من علمه بتوفيق الله ومنِّه ، فلذلك لم يكن عندي ما أمليه على هذا الصبي يا أبا إبراهيم .
فقال أبو إبراهيم : إن هذا الحديث الذي لا يوجد عند أحد غيرك خير من ألف حديث يوجد مع غيرك . اهـ كلامه .