كنتُ في سراييفو


في أوائل عام 1415هـ يممتُ وجهي إلى البلقان، وتحديداً إلى البوسنة والهرسك، التي فُجِعت بحربِ إبادة نصرانية منظمة من قِبَل الأرثوذكس (الصِّرب)، والكاثوليك (الكروات) في عام 1412هـ - 1992هـ وأُسدل الستار عليها عام 1995م، فكان لها آثارها القاسية في قتل عشرات الآلاف من المسلمين، وتشريد مئات الآلاف منهم، وأمثالهم من الجرحى.

كانت الزيارة مشاركة في دورة علمية في عاصمة البوسنة: سراييفو، لعدد من الدعاة وأئمة المساجد.
وفي هذا الأسبوع، أكرمني الله بالمشاركة في دورة علمية في نفس العاصمة، فما الذي تغير بعد عشرين سنة من الزيارة الأولى؟
أول ما خطر ببالي وأنا أنزل إلى مطار سراييفو قوله تعالى: {[COLOR="rgb(46, 139, 87)"]وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[/COLOR]}[البقرة: 216].
لقد اشتعلت شرارةُ حرب الإبادة المشار إليها والبوسنة ـ كما هي بقية بلاد البلقان ـ قد خرجت للتو من نار الشيوعية، فلم تكد تتنفس حرية التدين، حتى ابتليت بهذه الحرب الظالمة، التي أهلكت الحرث والنسل، وليس لهم ذنبٌ إلا أن يقولوا: ربنا الله!
ومع هذا كلّه فقد لمستُ بنفسي شيئاً من الآثار الإيجابية لهذه الحرب التي مضى عليها عشرون عاماً، وصدق الله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 216]، ومن هذه الآثار:
- ارتفاع الوعي العقدي لعامة المسلمين، الذين حرص المستعمر النسماوي قديماً، ثم الفكر الشيوعي "الأحمر" على مسخ عقيدة الولاء والبراء من قاموسهم الديني، فلم يَعد أكثر المسلمين آنذاك يستطيع أن يفرق بين التعايش، وبين ذوبان الهويّة، فجاءت هذه الحرب لتعيد هذا المعنى الشرعي بصورة لو بُذلت جهودٌ علمية كبرى ربما لم تصل إلى هذا المستوى.
ولا أنسى حينما سألتُ ذلك الرجل: أأنت مسلم؟ قال: نعم، فطلبتُ منه قراءة الفاتحة، فلم يعرفها، فقلت: لماذا يحاربكم الصِّرب والكروات؟ فقال: لأننا مسلمون!
- ومن الآثار الإيجابية: ظهور جيل واعٍ من الشباب المتعلّم، ومنهم عدد غير قليل من حاملي الشهادات العليا، ممن درسوا في بلادنا أو في مصر، وغيرهما من البلاد العربية.
- قيام عدد من المشاريع الدعوية والتربوية، التي يقوم عليها عدد من الشباب المسلم، الصادق في تدينه، وحمْله رسالة الدعوة، رغم ضعف الإمكانات، وقلة الداعم.
- رأيت أثر بلادنا المباركة في هذه البلاد من خلال بناء المراكز الإسلامية والجوامع، وترميم المساجد، والذي كان له أثره في تقليص دَور النصارى والرافضة، الذين يسترخصون كل غالٍ في سبيل الدعوة إلى التنصير والرفض.
وبلادنا ـ أيدّها الله بالإسلام والسنة ـ أولى بالاستمرار بل وزيادة البذل والعطاء على القدر القائم حالياً، وهي أحرى برعاية أشجار الخير التي غرستها منذ عشرين سنة في هذه البلاد، التي لا يخفى موقعها الاستراتيجي من القارة الأوربية، فهي الدولة الوحيدة في هذه القارة التي أغلبيتها مسلمون، ويَنْظُرُ إليها النصارى ـ بمختلف مذاهبهم ـ نظرةً خاصة، كان من أجلى صورها ـ المضحكة المبكية ـ: تعيين ثلاث رؤساء للدولة البوسنوية ذات الأغلبية المسلمة (صربي، وكرواتي، ومسلم)، من أجل تقليص دور الإسلام، وإضعاف تأثير المسلمين.
إن المال عصَبُ الحياة، والمسلمون هنا لا زالوا بحاجة إلى مئات الدعاة من أبناء بلادهم الذين يحتاجون إلى من يكفلهم؛ ليتفرغوا لمهمتهم الشريفة الدعوة إلى الله تعالى.
إن محافظةً مثل (توزلا) عدد سكانها يفوق عدد سكان محافظة سراييفو، وبقايا الفكر الشيوعي ما زالت قائمة، ولا يوجد فيها من الدعاة ذوي المنهج المعتدل إلا أقل من أصابع اليد الواحدة، ولو وَجَدوا مَنْ يكفلهم؛ لنفع الله بهم خيراً كثيراً.
إنها دعوة ـ في الوقت ذاته ـ لذوي اليسار، أن يبادروا بالاستثمار في هذه البلاد، ووقفِ بعض الأوقاف لدعم مسيرة الدعوة إلى الله، والساحة لمن سبق، خاصةً مع الفقر والضعف الاقتصادي العام.
إن دعم المؤسسات الإغاثية، والدعاة من أهل السنة والجماعة في مثل هذه البلاد -وسائر الأقليات المسلمة- من أهم الأسباب للحفاظ على الهوية الإسلامية، كما أن له أثراً كبيراً في تقوية الولاء لمنهج أهل السنة والجماعة، التي تفخر بلادنا ـ حفظها الله ـ برفع رايته، وإن أي تقاعس في ذلك؛ ستكون آثاره السلبية كبيرة، يصعب تلافيها، إلا بجهود مضاعفة.