من متشابهات القرآن الكريم
(تبادل الأهمية المعنوية بين "المال والنفس" وبين "في سبيل الله")
(تبادل التقديم بين "المال والنفس" وبين "في سبيل الله")
تقوم اللغة على الاحتياج المعنوي والأهمية المعنوية بين أجزاء التركيب اللغوي ،والإنسان يتحدث تحت رعاية الاحتياج المعنوي غالبا واللفظي نادرا مع علامات أمن اللبس ،كما في هاتين الآيتين الكريمتين:
قال تعالى:"إنَّ الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض"(الأنفال 72)وقال تعالى"الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله"(براءة20)
للسائل أن يسأل فيقول:ما الذي قدم له في الآية الأولى ذكر "أموالهم وأنفسهم" على قوله "في سبيل الله" ،ثم ما له قدَّم ذكر "في سبيل الله" على ذكر" أموالهم وأنفسهم"؟
والجواب أن يقال: إن الآية الأولى في سورة الأنفال عقيب ما أنكره الله تعالى على من قال لهم: "تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم") الأنفال: 67( وهم أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم- لما أسروا المشركين، ولم يقتلوهم طمعا في الفداء، فقال تعالى: "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" (الأنفال: 68 )أي: فيما أخذتم من هؤلاء الأسرى من الفداء، ثم قال تعالى لما غفر لهم ما كان منهم من ترك القتل إلى الأسرى: "فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا" (الأنفال: 69) أي: استمتعوا بما نلتم من أموال المشركين، وبما أخذتم من فدائهم، فعقب ذلك بهذه الآية التي مدح فيها من أنفق أمواله في سبيل الله، لا من يجاهد طلبا للنفع العاجل فقال: "إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله" فقدم "بأموالهم وأنفسهم" على قوله" في سبيل الله" ليعلموا أن ذلك يجب أن يكون أهم لهم، وأولى بتقديمه عندهم صرفا لهم عما حرصوا عليه من فائدة الفداء.
ولم تكن كذلك الآية التي في سورة براءة، لأنها بعدما يوجب تقديم قوله: "في سبيل الله" على ذكر المال، لأنه قال تعالى: "أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم" (التوبة: 16) ثم قال في إبطال ما أتى به المشركون من عمارة المسجد الحرام، وسقاية الحاج مع المقام على الكفر" أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله" ( التوبة: 19) فكان المندوب إليه في هذه الآية بعد الإيمان بالله الجهاد في سبيل الله، فقال بعده مادحا لمن تلقى بالطاعة أمره"الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، ثم ذكر "بأموالهم وأنفسهم" لما قدَّم ذكر ما اقتضى الموضع تقديمه، وأن يجعل أهم إليهم من غيره، فخالف هذا المكان قوله في سورة الأنفال، فقدم فيه ما أخر هناك لذلك فاعلمه، وبالله التوفيق.(1)وهذا يعني أن اللغة تقوم على الاحتياج المعنوي والأهمية المعنوية بين أجزاء التركيب اللغوي ،والمتقدم في المنزلة والمكانة متقدم في الموقع والمتأخر في المنزلة والمكانة متأخر في الموقع كذلك .
============================== ==========
(1)الخطيب الإسكافي- درة التنزيل وغرة التأويل- ص104 بتصرف يسير