من ذكريات الدراسة :


هناك أساتذة لا أنساهم بالذكرى الحسنة ، يجمعهم عندي مع حسن تدريسهم : أنهم كانوا يشجعونني بكلمات الثناء .
كان منهم أستاذ مادة التاريخ في المرحلة المتوسطة ، هو الأستاذ سعد الثقفي ، في مدرسة مصعب بن عمير بالطائف .
لا أذكر ثناءه علي ، لكني أذكر ترشيحه لي واختياره لأي موقف أو نشاط يحتاج فيه للمتميزين ، وكنت أستغرب ذلك منه ؛ لأنه كان لا يعبر عن إعجابه بالكلمات !
وفي المرحلة الثانوية :
كان قد درّسنا في الصف الثاني والثالث أستاذ للغة الإنجليزية اسمه نور الدين ، في مدرسة ثقيف الثانوية بالطائف . وكان يعبر عن إعجابه بي بصراحة !
أذكر مرة أنه سأل سؤالا ، فارتفعت بعض الأيدي للإجابة ، فقال الأستاذ : سوف أجعلكم تجيبون ، لكني أعلم أنه لن يجيب الجواب الصحيح إلا حاتم ! وكان ما توقعه .
وكنت في الثانوي أدرس مع زميلين دروسا خصوصية في اللغة الإنجليزية ، وكان أستاذنا الخصوصي ( وهو غير أستاذنا في المدرسة ) يعيننا على حل تمارين الكتاب . فلما وجد الأستاذ نور الدين تشابه أجوبتي مع أجوبة زميلي ، ظن أنني أنا من كان يذاكر لهم الدروس ، من قوة حسن ظنه بي ! وسألني مرة عن ذلك ، فنفيت له ذلك ، فعجب من نفيي ، وأرجو أنه ما ظنه من جملة مناقبي ( التواضع) !
ومرة كنت في الشارع ، أمام منزل والدي . فمر الأستاذ نور الدين ، وكنا في فترة الاختبارات النهائية لثالث ثانوي . فوقف بسيارته ، ونزل ، وسألني : أين تنوي أن تذهب يا حاتم ؟ ماذا تريد أن تتخصص ؟ فقلت له : في علوم الشريعة ، فكأن الجواب لم يعجبه ، وقال لي : سيكون لك شأن ، وستذكر ما قلته لك .
ليته يكون حيا ، ليخبرني : هل تحقق ما ظنه بي !
ودرسني أستاذ اللغة العربية في الصف الثاني الثانوي ، اسمه الأستاذ موسى . فكان يصفني مرات بسيبويه الفصل ، وطلب منا مرة كتابة قصة طويلة ، بالنسبة لطول واجبات مادة الإنشاء . فكتبت له قصة زيد بن عمرو بن نفيل ، مستوحاة من قصته الحقيقية في البحث عن الحق . فقرأها كاملة على الطلاب ، وصار يقف عند بعض الجمل ، ويقول : انظروا ، الآن حاتم متأثر بالعقاد ، وهنا متأثر بخالد محمد خالد ، وهنا متأثر بالطنطاوي .
وفي المقابل : طلب منا أستاذ السنة الأولى كتابة تعبير عن القدس ، وكنت حينئذ أجيش عاطفة لقضايا الأمة ، ولوالدتي ( حفظها الله ) في ذلك علي فضل كبير . فكتبت مقالة طويلة ، جمعت معلوماتها من كتب ومجلات . فلما صحح الأستاذ الدفاتر ، وجاء ليسلمنا إياها ، وكنا في بداية السنة . سأل : من هو حاتم الشريف ، فرفعت يدي ، فقال : من أين نقلت هذا المقال ؟! فأجبته أنه من إنشائي ، فلم يصدقني ، وقال لي : على كل حال أشكرك على اهتمامك ، حتى لو كنت قد نقلته عن غيرك .
وكان أستاذ علم الاجتماع في ثالث ثانوي الأستاذ فهد الثبيتي ، وكان في الوقت نفسه وكيل المدرسة . وكنت كثير المشاكل معه ، لكثرة اعتراضاتي ، ولخروجي مرات من المدرسة بغير استئذان ( هروبا ) ولدفاعي عن زملائي إذا شعرت أن عقوبته لهم غير منطقية . حتى إني مرات أستأذنه الحديث للدفاع عنهم ، فيقول لي : لا آذن للسانك الطويل بالحديث ! لكنه مع ذلك كان يبادلني احتراما حقيقيا ، يخفيه بمحاولة فرض هيبته .
ومرة أخذ الفصل كله في نشاط لا صفي إلى إحدى دور الرعاية الاجتماعية للقاصرين ، وتأثرت بتلك الزيارة جدا . فلما رجعنا ، طلب منا الكتابة عما رأينا ، وإبداء رأينا حول دار الرعاية . فكتب زملائي وكتبت ، وطلب منا بعد أسبوع قراءة ما كتبنا ، فلما جاء الدور علي ، وقرأت ما كتبت ، وكان كلاما عاطفيا جدا ، جعلته مسخرا للحديث عن جناية المجتمع على هؤلاء القاصرين ، وكنت أقرأ بمشاعري كما كتبته بها . فتأثر جدا ، وقال : هذا ما كنت أتمنى سماعه . ولما انتهت الحصة ، قال لي أحد زملائي ممن كان يغار مني ، لكنه ما استطاع إخفاء مشاعره وقتها : من أين تأتي بهذا الكلام ؟! سؤالا بهذا الوضوح تعبيرا عن الغيرة !! فقلت له بهدوء : من هنا ، وأشرت إلى رأسي ! ولولا أني أعرف أنني لو أشرت إلى قلبي لعدوا ذلك ضعفا ورقة لا تليق بابن الطائف ، لقلت له : من قلبي !!
قصص عديدة ، تكرر بعضها في الجامعة ، تؤثر على حياتي ، وأتذكرها فأشكر هؤلاء الأساتذة ، فقد بقوا نقطة مضيئة في حياتي العلمية .
كم أتمنى أن يكونوا أحياء فيعلمون أني مازلت أذكرهم بخير وأحفظ لهم فضلهم .
رحم الله ميتهم ، وحفظ حيهم بحفظه وعنايته !

د/حاتم العوني.