لماذا لم يروِ الإمام مسلم في صحيحه عن شيخه الجهبذ البخاري ؟!!


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فإن الناظر لكتاب الصحيح للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري -رحمه الله- والمُسمى " المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"
ليجدُه لم يروِ عن شيخه النحرير وشيخ الحديث الإمام العَلم أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري -رحمه الله- ولعل هذا يرجع لخمسة احتمالاتٍ لا سادس لها -فيما أظن- وهي:

1)- أن الإمام مسلماً لم يلق شيخه البخاري إلا في أواخر حياته بعد أن صنف الصحيح، فقد دخل البخاري نيسابور سنة 250هـ كما أشار الحاكم في تاريخه، وكان مسلم قد استغرق في جمع صحيحه خمس عشرة سنة وقيل ست عشرة، فكان مسلم قد انهى جمع صحيحه من أصوله التي جمعها في رحلة الطلب:

قال الإمام النواوي في شرحه على صحيح مسلم (1/ 14):
" وقد انتخب علمه ولخص ما ارتضاه في هذا الكتاب وبقي في تهذيبه وانتقائه ست عشرة سنة وجمعه من ألوف مؤلفة من الاحاديث الصحيحة".اهـ
وقال الإمام الذهبي في السير (12/566):
" قَالَ أَحْمَد بن سَلَمَةَ: كُنْت مَعَ مُسْلِم فِي تَأَلِيف (صَحِيْحه) خَمْسَ عَشْرَةَ سنَة".اهـ

قال أبوعبدالله الحاكم في "تلخيص تاريخ نيسابور" عند حديثه عن البخاري برقم 493:
"ورد نيسابور على كبر سنه، وأقام بها خمس سنين، إلى أن وقعت الفتنة بينه وبين شيخ عصره محمد بن يحيى الذهلي رضي الله عنه، ولولا ذلك لما خرج من نيسابور ..".اهـ

2)- أن الإمام مسلماً ترك رواية الحديث في صحيحه عن شيخه البخاري -مع أنه روى عنه خارج الصحيح- طلباً لعلو السند !
ويَرِدُ على هذا أن البخاري أعلى طبقة من مسلم، وروى البخاري في صحيحه أحاديث عوالي لم يبلغها مسلم إلا بواسطة، فكان البخاري كأنه شيخ لمسلم فيها.
مع أن البخاري اشترك مع مسلم في كثير من شيوخه الذين أكثر عنهم، لكنه روى عن من لم يبلغة مسلم إلا بواسطة كما سلف.

3)- أن الإمام مسلم ترك الرواية عن شيخه البخاري بسبب الفتنة التي حدثت بنيسابور -فتنة اللفظ بالقرآن- وكانت بين البخاري والذهلي !!
ويرِد على هذا أيضاً أن الإمام مسلم روى عن البخاري في غير الصحيح.

قال الإمام المزي في "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" (24/ 436) عند ذكره لمن روى عن البخاري من ترجمته:

"ومسلم بْن الْحَجَّاج في غَيْر الصحيح". اهـ
قال الإمام الذهبي في السير(12/ 397) عند ترجمة البخاري:
"وَرَوَى عَنْهُ: مُسْلِمٌ فِي غَيْر صَحِيْحهِ" .اهـ

فلعل هذا في كتب الإمام مسلم المفقودة ! كما أشار إلى ذلك الشيخ مشهور في كتابه عن صحيح مسلم.
وكذا قال الخطيب البغدادي في تاريخه (15/ 121) تحقيق بشار عواد:
" وكان مسلم أيضاً يناضل عن البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه". اهـ
فلا يعقل أن يترك الرواية عنه بسبب هذا !!

4)- أنه ترك الرواية عنه بسبب شرط البخاري: اللقيا !
قال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/ 573):
"قُلْتُ[أي الذهبي]: ثُمَّ إِن مسلماً - لحدَة فِي خلقه - انْحَرَفَ أَيْضاً عَنِ البُخَارِيّ، وَلَمْ يَذْكُر لَهُ حَدِيْثاً، وَلاَ سَمَّاهُ فِي صَحِيْحِهِ ، بَلِ افتَتَح الكِتَاب بِالحط عَلَى مَنْ اشْترط اللُّقِي لِمَنْ رَوَى عَنْهُ بصيغَة: عَنْ، وَادَّعَى الإِجْمَاع فِي أَنَّ المعَاصرَة كَافيَةٌ، وَلاَ يتَوَقَّف فِي ذَلِكَ عَلَى العِلْم بِالتقَائِهِمَا ، وَوبخ مِنِ اشْترط ذَلِكَ.
وَإِنَّمَا يَقُوْلُ ذَلِكَ أَبُو عَبْدِ اللهِ البُخَارِيّ، وَشَيْخه عَلِيّ بن المَدِيْنِيِّ، وَهُوَ الأَصوب الأَقْوَى.
وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِع بسط هَذِهِ المسَألَة
". اهـ
ويفنِّد هذا أن مسلماً روى عن البخاري في غير الصحيح كما سبق الإشارة إليه من كلام المزي والذهبي، وأن البخاري لم يلتزم هذا الشرط في غير الصحيح.
بل كان مسلم كثير الورود والاحتفاء بشيخه البخاري، والثناء عليه:

قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (15/ 121):
"قلت [أي الخطيب البغدادي]: إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه، وحذا حذوه، ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم، وأدام الاختلاف إليه.
وقد حَدَّثَنِي عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي، قَالَ: سمعت أبا الحسن الدارقطني، يقول: لولا البخاري لما ذهب مسلم ولا جاء.
أَخْبَرَنِي أبو بكر المنكدري، قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن عبد الله بن محمد الحافظ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبو نصر أحمد بن محمد الوراق، قَالَ: سمعت أبا حامد أحمد بن حمدون القصار، يقول: سمعت مسلم بن الحجاج، وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه، وَقَالَ: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدثين، وطبيب الحديث في علله..
". اهـ

ومع هذا فقد قيل إن مسلماً قد روى حديث عن البخاري في صحيحه لكنه عمَّاه، وهو برقم 1557 من باب استحباب الوضع من الدين:
" وحَدَّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي أَخِي، عَنْ سُلَيْمَانَ وَهُوَ ابْنُ بِلَالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الرِّجَالِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أُمَّهُ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ، تَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ، عَالِيَةٍ أَصْوَاتُهُمَا، وَإِذَا أَحَدُهُمَا يَسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُه ُ فِي شَيْءٍ، وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَفْعَلُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، فَقَالَ: «أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ؟» قَالَ: أَنَا، يَا رَسُولَ اللهِ، فَلَهُ أَيُّ ذَلِكَ أَحَبَّ".

قال الرشيد العطار في كتابه "غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في صحيح مسلم من الأحاديث المقطوعة" (ص153):
"أما قول مسلم حدثني غير واحد من أصحابنا فقد قال أبو نعيم في المستخرج يقال إن مسلماً حمل هذا الحديث عن البخاري ..".اهـ

5)- أن مسلماً كان همه جمع الصحيح، وحيث أن البخاري قد سبقه في الصنعة وصنف قبله، فقد كفاه مؤونة ما جمع، ليُخرج مسلم أحاديث صحاح لم تُجمع.
وهذا جمع جيد تميل النفس إليه.

والله تعالى أعلم.

منقول من أبي مسلم