تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 4 من 4 الأولىالأولى 1234
النتائج 61 إلى 80 من 80

الموضوع: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

  1. #61

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    خبر الواحد المخالف للأصول:

    [المتن]:

    [وقال أبو حنيفة: ليس بحجة إن خالف الأصول أو معناها(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وقال أبو حنيفة: ليس بحجة إن خالف الأصول أو معناها):

    والمقصود بالأصول هنا الكتاب والسنة والإجماع، أو معناها القياس.

    والحاصل أن خبر الواحد يُقبَل مطلقا بلا تفصيل، متى ما صح السند إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو مقبول سواء كان فيما تعم به البلوى، كان في العقيدة، كان في الغيبيات، كان في أشراط الساعة، كان في أحكام النكاح، مطلقا بلا تفصيل؛ لأن الصحابة قبلوا خبر الواحد بلا تفصيل، والأدلة الدالة على شرعيته بأنه حجة أثبتته بلا تفصيل.

  2. #62

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تعريف النسخ:

    [المتن]:

    [النسخ(1)، ثم الذي يرفع الحكم بعد ثبوته: (النسخ) (2)، وأصله: الإزالة(3)، وهو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخٍ عنه(4)، والرفع: إزالة الشيء على وجه لولاه لبقيَ ثابتا، ليخرج زوال الحكم بخروج وقته(5)، والثابت بخطاب متقدم: ليخرج الثابت بالأصالة(6)، وبخطاب متأخر: ليخرج زواله بزوال التكليف(7)، ومتراخ عنه: ليخرج البيان(8)، وقيل: هو كشف مدة العبادة بخطاب ثانٍ(9)، والمعتزلة قالوا: الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتا. وهو خالٍ من الرفع الذي هو حقيقة النسخ(10)].

    [الشرح]:

    (1)
    (النسخ):

    ذكرنا الأبواب التي تثبت الأحكام الشرعية من إيجاب، وتحريم، وندب، وكراهة، وإباحة.

    ثم هل هذا الحكم يحتمل الرفع أو لا؟ هل يقبل التغيير؛ فيكون مباحا ثم يصير محرما؟ أو يكون محرما ثم تأتي الإباحة؟ أو يكون إيجابا ثم يُباح .. إلخ؟

    (2)
    (ثم الذي يرفع الحكم بعد ثبوته: "النسخ"):

    إذًا يمكن أن يُثبَت الحكم أولا، ثم بعد ذلك يُرفَع، ولكنه قليل بالنسبة للأحكام الشرعية، الأكثر فيها أنها ثابتة مستقرة، ما نُزِّلت الشريعة إلا من أجل أن تستقر وتكون ثابتة تامة من جهة الأحكام الشرعية، ولكن قد يعلّق الرب -جل وعلا- حكما على مصلحةٍ ما، ثم تزول المصلحة فيزول معها الحكم، فهنا يأتي النسخ.

    (ثم الذي يرفع الحكم بعد ثبوته النسخُ):
    النسخ: فاعل يرفع الحكم؛ يرفع النسخُ الحكم، والنسخ له معنيان: لغوي واصطلاحي.

    (3)
    (وأصله: الإزالة):

    أما معناه في اللغة فقال -رحمه الله-:

    (وأصله الإزالة):
    أصله من جهة اللغة: الإزالة، وهو الرفع حقيقة كما أخذه في حده الاصطلاحي، ولذلك يُقال: "نسخت الشمسُ الظل"؛ بمعنى أزالته، و "نسخت الريحُ آثار القوم"؛ بمعنى أزالتها.

    ويُطلق أيضا على النقل، ولكن هل إطلاقه على النقل حقيقة أو مجاز؟

    فيه نزاع، والمشهور في المذهب -عند الحنابلة- أنه مجاز.

    يعني يُطلق النسخ مرادا به النقل، ولكن النقل يكون على مرتبتين:

    * إما مع بقاء الأصل.

    * وإما مع زوال الأصل.

    يعني إما أن يبقى الأول؛ كنسخ الكتاب، تقول: "نسخت الكتاب"، ولم يزُل كله، بل هو باقٍ على أصله، وكذلك يُقال: "المناسخات في المواريث"، هذه نقلت الحكم، ولكن الأصل باق وهو المواريث.

    إذًا النقل يكون مع إزالة الأصل، ومع عدم إزالة الأصل؛ يعني يكون الأصل باقيا على نفسه.

    وهل إطلاقه على الأول حقيقة والثاني مجاز؟ أو بالعكس؟

    هذا فيه نزاع بينهم.

    (4)
    (وهو: رفع الحكم الثابت بخطابٍ متقدمٍ بخطابٍ متراخٍ عنه):

    (وهو)
    : أي النسخ في الاصطلاح، وهو الذي يعنينا.

    (رفع الحكم الثابت بخطابٍ متقدمٍ بخطابٍ متراخٍ عنه):
    إذًا هما خطابان، وعليه لا بد أن يكون الناسخ والمنسوخ سمعيين؛ لأنه قال: (رفع الحكم وسيأتي تفسير الرفع بأنه تغييره من إيجاب إلى إباحة أو العكس.

    (رفع الحكم الثابت):
    المراد بالحكم الثابت هنا المنسوخ؛ الحكم الذي نُسخ.

    (بخطاب متقدم):
    يعني يكون هذا الحكم ثابتا بخطاب متقدم، لم يثبت بالبراءة الأصلية، وإنما ثبت بشرع، فإذا كان الحكم الأول -الذي نُسخ- حكما شرعيا، وقد ثبت بخطاب شرعي، وحصل الرفع بخطاب، بخطاب هذا متعلق بقوله: (رفع).

    (بخطاب متراخ عنه)
    : يعني عن الحكم، فحينئذ عندنا خطابان:

    الخطاب الأول: أثبت حكما شرعيا، وجاء بعده خطاب آخر متراخ عنه -لا بد أن يكون منفصلا، ولا يصح أن يكون متصلا- يكون الثاني رافعا للأول، هذا في جملة ما ذكره، وسيأتي أنه يفسّر الحد كلمة كلمة.

    (رفع):
    هنا عبَّر بالرفع؛ لأن النسخ مصدر، والرفع مصدر، بعضهم عبَّر بالخطاب قال: النسخ هو الخطاب الدال كما سيأتي عن المعتزلة.

    وليس بصحيح؛ لأن الرفع هو النسخ، فحينئذ يطابق الحدُ المحدودَ لفظا ومعنى، وأما إذا قيل: الخطاب هو عين الخطاب صار تعريفا للناسخ، وليس للنسخ، وفرقٌ بين الناسخ والنسخ، فعندنا منسوخ، وناسخ، ونسخ، ونريد أن نعرف حقيقة النسخ، ما هو النسخ؟

    هو عين الرفع، وأما الذي يُرفَع به فهذا الناسخ، والذي يكون مرفوعا هذا هو المنسوخ، وبحثنا في النسخ لا في الناسخ ولا في المنسوخ.

    (رفع)
    : إذًا عبَّر بالمصدر ليطابق الحدُ المحدودَ لفظا ومعنى.

    (الثابت بخطاب):
    "بخطاب" الأول متعلق بقوله: "الثابت"؛ يعني الحكم الذي هو قابل للنسخ لا بد وأن يكون ثابتا بخطاب؛ يعني بشرع؛ بدليل شرعي، ولو قال: بدليل شرعي لكان أولى؛ لأن الخطاب قول، وقد يكون النسخ بالفعل؛ كما في نسخ الوضوء مما مست النار بأكل النبي من الشاة ولم يتوضأ، حصل به النسخ وهو فعل، فإذا قيل: "بخطابٍ" تعين أن يكون الناسخ قولا، وليس بلازم، ولذلك عبَّر بعضهم في حد النسخ بقوله: "رفع حكم شرعي بدليل شرعي" ليشمل القول والفعل.

    (متراخٍ):
    ليُخرج المخصصات المتصلة كما ذكرناه سابقا في الفرق بين النسخ والتخصيص؛ أن التخصيص لا يشترط فيه الاتصال، بل قد يكون متصلا، وقد يكون منفصلا، وأما النسخ فلا بد أن يكون منفصلا، فإذا جاء متصلا بالدليل خرج عن كونه نسخا، مجرد اصطلاح وإلا الحكم قد يكون واحدًا، إلا أن النسخ رفع للجميع، هذا هو الغالب؛ يعني لجميع الحكم، وقد يكون النسخ رفعا لبعض الحكم، وأما التخصيص فلا يكون للجميع.

    (متقدم)
    : هذا الخطاب لا بد وأن يكون متقدما؛ لأنه لو كان الثاني المتراخي متصلا بالأول لصار من المخصصات.

    (بخطاب متراخٍ عنه)
    : أي الدليل عن الحكم.

    (5)
    (والرفع: إزالة الشيء على وجه لولاه لبقيَ ثابتا، ليخرج زوال الحكم بخروج وقته):

    أراد أن يبين بعض المحترزات، وهذا خروج عن عادته؛ لأنه لم يعتد أن يبين محترزات الحد، لكنه ذكرها هنا خروجا عن الأصل.

    (والرفع):
    الرفع الذي أُخذ جنسا في حد النسخ؛ لأنه قال: (وهو رفع الحكم)، ما المراد بالرفع؟ قال:

    (والرفع: إزالة الشيء):
    قلنا: النسخ في اللغة: هو الإزالة، إذًا حقق المعنى الغوي كما ذكرناه سابقا؛ أنه يُذكر في أول الاصطلاحات المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي؛ لبيان العلاقة بينهما؛ لأنه لا يمكن أن يكون المعنى الاصطلاحي مباينا للمعنى اللغوي من كل وجه، وإنما لا بد من الاشتراك، فيكون حينئذ المعنى اللغوي أعم من المعنى الاصطلاحي، هذا هو الغالب، لذلك النسخ في اللغة الإزالة، إزالة أي شيء؟

    إزالة الماء من الكوب، إزالة الفرش من المسجد، إزالة كذا .. إلخ، ما لا يُحصى، كل ما يصح التعبير عنه بالإزالة فيصح أن يكون نسخا بالمعنى اللغوي، لكن في الشرع هنا -في الاصطلاح-: "رفع": إزالة حكم شرعي، تَقَيَّد، إذًا ليس على إطلاقه.

    الرفع ما هو؟

    قال: (إزالة الشيء على وجه): يعني على حال وعلى طريقة.

    (لولاه)
    : لولا تلك الإزالة، أو ذلك الرفع؛ لبقي ثابتا كما هو؛ يعني لولا إزالة ورفع الحكم بتوجه المصلي مستقبلا لبيت المقدس -لولا الرافع والناسخ- لبقي الحكم كما هو، لولا مجيء: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لبقينا نصلي إلى جهة بيت المقدس، إذًا ما المراد هنا بالإزالة؟

    نقول: المراد بها تغيير الحكم من الإباحة إلى التحريم، أو العكس، أو من الإيجاب إلى الندب، أو غير ذلك، إذًا الحكم لم يبقَ على أصله، بل غُيّر، لكن بشروط يذكرها أهل الأصول.

    مثّلوا له أيضا بنسخ وجوب الصدقة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المناجاة، كان واجبا ثم صار مباحا، إذًا تغير الحكم، أُزيل الحكم، رُفع الحكم ولم يبقَ على أصله، لولا قوله {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا} لبقي النص دالا على إيجاب الصدقة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المناجاة.

    إذًا ما الفائدة من هذا القيد؟

    قال: (ليخرج زوال الحكم بخروج وقته): إذًا رفع الحكم الثابت احترز به عن زوال الحكم بخروج وقته؛ أي انتهاء وقت الحكم، قد يكون الحكم واجبا، ثم بعد ذلك يزول ويرتفع ويتغير من إيجاب إلى إباحة، لكن لا لكون الحكم قد رُفع، وإنما لانتهاء وقته؛ كأن يكون مؤقتا بوقت معين؛ كالجمعة، الجمعة واجبة بشرطها، فلو تُعُمِّد وخرج الوقت، حينئذ نقول: ارتفع الحكم، وهو إيجاب الجمعة، لم ارتفع الحكم وهو إيجاب الجمعة؟

    لأن الجمعة لا تُقضى، فحينئذ ليست بواجبة، وإنما يأثم ويصليها ظهرا.

    فحينئذ عدم إيجاب الجمعة لمن أخرجها عن وقتها لا نقول: هذا رفع للحكم وهو نسخ، بل نقول: رفع للحكم، لكنه ليس بنسخ، وإنما لانتهاء وقت الحكم؛ لأن الحكم هنا مؤقت، فإذا خرج الوقت نقول: زال الحكم وارتفع.

    (6)
    (والثابت بخطاب متقدم: ليخرج الثابت بالأصالة):

    (والثابت بخطاب متقدم)
    : هذا صفة الحكم المنسوخ، لا بد أن يكون الحكم المنسوخ ثابتا بخطاب متقدم؛ أي ورد للمكلفين متقدما؛ لأن الاعتبار باعتبار المكلفين، الحكم الأول يكون سابقا، ثم يليه الحكم الثاني، الأولية والثانوية هنا باعتبار المكلف، التقدم والتأخر باعتبار المكلف.

    (ليخرج الثابت بالأصالة):
    رفع الحكم الثابت بالبراءة الأصلية ليس بنسخ، وقد سبق هذا.

    وما من البراءة الأصلية
    قد أُخذت وليست الشرعية
    رفع الحكم الدال عليه بالبراءة الأصلية لا يسمى نسخا؛ لأنه لم يثبت بخطاب متقدم، البراءة الأصلية براءة عقلية ليست بدليل شرعي، ولذلك رفعها لا يسمى نسخا، بخلاف الإباحة الشرعية؛ لأن الإباحة نوعان:

    * إباحة عقلية، وهي البراءة الأصلية.

    * إباحة شرعية، حكم شرعي رفعه يسمى نسخا.

    النوع الأول رفعه لا يسمى نسخا، كان الربا في أول أمره مباحا، ثم جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا}، نُهي عنه فصار مُحرما، هل إباحة الربا في الأول ثم النهي عنه يعتبر رفعا للحكم فصار نسخا؟

    نقول: لا؛ لأن إباحة الربا لم تثبت بدليل شرعي، وإنما ثبتت بالبراءة الأصلية، وهي استصحاب العدم؛ يعني عدم التكليف، الأصل في المُكلف عدم تكليفه بشيء أبدا إلا بدليل شرعي، في الإثبات لا بد من دليل شرعي، وفي النفي قد يكون دليلا عقليا كما سيأتي.

    المراد (بالأصالة): هنا البراءة، وهي عدم التكليف بشيء، كان الأصل إباحة الجمع بين الأختين قبل التحريم، فنزل قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ}، معطوف على {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إذًا صار محرما، والإباحة الأولى عقلية؛ لأنها ثبتت بالبراءة الأصلية، وهي عدم التكليف.

    (7)
    (وبخطاب متأخر: ليخرج زواله بزوال التكليف):

    (وبخطاب متأخر)
    : لماذا بخطاب متأخر؟

    احترز به عن (زواله بزوال التكليف)، (ليخرج زواله): يعني زوال الحكم بزوال التكليف، متى يزول التكليف؟

    بالموت، بالجنون، ونحو ذلك، فحينئذ لو زال الحكم وارتفع بزوال التكليف لا يسمى نسخا، كانت الصلوات واجبة عليه فمات هل وجبت عليه الصلاة؟

    لم تجب عليه، ارتفع الحكم، هل نقول: نُسخ وجوب الصلاة في حقه؟

    نقول: لا، ليس بنسخ؛ لأن الرفع هنا ليس بدليل شرعي؛ لأنه ليس بخطاب، ولذلك عبّر بخطاب ليخرج زواله بزوال التكليف.

    (8)
    (ومتراخٍ عنه: ليخرج البيان):

    والتخصيص؛ لأنه كما سبق أن التخصيص قد يكون متصلا، وقد يكون منفصلا، وأما النسخ فلا بد وأن يكون منفصلا.

    حاصل التعريف الذي ذكره: أنه لا يمكن أن يُثبَت حكم النسخ إلا إذا كان فيه رفع لحكم شرعي، وهذا الحكم الشرعي قد ثبت بدليل شرعي سابق، ثم جاء دليل آخر متراخ عنه رفع ذلك الحكم، فحينئذ نقول: هذا نسخ، لكن شرط النسخ أنه لا يُعدَل إليه إلا عند عدم إمكان الجمع، هذا قيد لا بد منه؛ يعني الخطاب المتقدم والخطاب المتأخر لا يُدَّعى فيه مباشرة النسخ، وإنما لا بد من عدم إمكان الجمع، فإن أمكن الجمع فلا نسخ، متى ما أمكن الجمع فلا نسخ، إلا أن يرد نصٌ صريح واضح بيِّن بأن الحكم السابق قد نُسخ.

    وأما مجرد الاحتمال وكون الثاني متراخيا عن الأول فحينئذ نقول: لا نسخ، إلا إذا تعذر الجمع بين الدليلين؛ ولذلك المراتب أربعة كما سيأتينا؛ لأن إعمال الدليلين دائما يكون أولى من إهمال أحدهما؛ لأنك إذا أعملت الثاني وأسقطت الأول قد أسقطت حكما أو بعض حكم.

    لكن الأولى أن يُعبَّر بتعريف النسخ: بأنه "رفع حكم شرعي بدليل شرعي متراخ"، "متراخٍ": لتخرج المخصصات المتصلة، والمراد بالحكم هنا ما تعلق بالمكلّف بعد وجوده أهلا، وهذا واضح بيِّن.

    (9)
    (وقيل: هو كشف مدة العبادة بخطاب ثانٍ):

    (وقيل):
    في حد النسخ.

    (هو كشف مدة العبادة بخطاب ثانٍ):
    وهذا فاسد؛ يعني مرادهم أن الخطاب الثاني لم يرفع الحكم، وإنما بيَّن أن الحكم الأول مؤقت، فحينئذ لم يشرعه الله -عز وجل- ليستمر أبدا، لم يُوجب –مثلا- الصدقة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- على جهة التأبيد، لا، وإنما شرعه مؤقتا، ثم نزل قوله: {أَأَشْفَقْتُمْ} مبينًا أن الوقت قد انتهى.

    وهذا ليس بصحيح، لأن النسخ حينئذ يكون من باب التخصيص، ولكنه تخصيص في الأزمان؛ لأن الأصل شمول الحكم لكل زمن، فجاء الخطاب المتراخي فبيَّن أن الزمن ليس مستغرقا لكل أوقات الحكم، بل هو مُنتهٍ بوقت ما، ويَرد عليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}، فإن انتهاء مدة الصوم بظهور الليل ليس رفعا؛ لأنه مُغيّا، {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ}: بيَّن مدة العبادة، هل يعتبر ظهور الليل رافعا للحكم السابق؟

    لا، النسخ لا بد وأن يكون فيه معنى الرفع والإزالة، وهنا ليس فيه معنى الرفع والإزالة، وعليه فيكون هذا الحد فاسدا.

    (10)
    (والمعتزلة قالوا: الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتا، وهو خالٍ من الرفع الذي هو حقيقة النسخ):

    (والمعتزلة قالوا):
    في حد النسخ.

    (هو الخطاب الدال):
    "خطاب": هذا محل المأخذ، والخطاب الدال: هو الناسخ، والكلام في النسخ، لا في الناسخ، إذًا لم يتطابق الحد مع المحدود.

    (الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص زائل على وجه لولاه لكان ثابتا):
    هذا لا إشكال فيه، كالأول.

    (وهو):
    أي حد المعتزلة للنسخ.

    (خال من الرفع):
    الذي هو حقيقة النسخ، لا بد من وجود حقيقة النسخ، وهو الرفع.

    لكن لم يُبين لنا هل النسخ جائز عقلا أو لا؟

    لأنه لا خلاف بين أهل السنة في ذلك، أما الرافضة فقالوا: لا يجوز القول بالنسخ أبدا؛ لأنه يؤدي إلى القول بالبداء، وهو باطل في حق الله -عز وجل- فنفوا النسخ.

    ما المراد بالبداء؟

    أنه كُشف له، علم بعد أن لم يكن يعلم، والرب -جل وعلا- مُنزّهٌ عن هذا، ولكن هذا باطل، والرافضة لا يُعتد بهم.

  3. #63

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    نسخ الفعل قبل التمكن:

    [المتن]:

    [ويجوز قبل التمكن من الامتثال(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ويجوز قبل التمكن من الامتثال):

    النسخ له حالتان:

    * قد يكون بعد التمكن من الامتثال، يُؤمرون بالتوجه إلى الشام في الصلاة؛ إلى بيت المقدس، تمكنوا وامتثلوا، ثم جاء الناسخ.

    * أو تُشرع العبادة، وقبل أن يتمكنوا من الامتثال يرد النسخ.

    لم يذكر الحالة الأولى؛ لأنها هي الكثيرة، وهي الأصل، إذا ورد النسخ انصرف إلى هذا المعنى.

    لكن هل يشرع الرب -جل وعلا- عبادة، ثم يَدخلُ وقتُها، وقبل أن يتمكن المكلف من الامتثال تُرفَع العبادة؟

    نعم يجوز، قال:

    (ويجوز قبل التمكن)
    : يعني يجوز النسخ ويقع قبل تمكن المكلف من الامتثال بمدلول الخطاب؛ أي قبل وقت الفعل، وهذا قول الجمهور؛ بدليل قصة إبراهيم -عليه السلام- أنه أُمر بذبح ابنه إسماعيل -عليه السلام-، ولكن هل تمكن من الفعل؟

    الجواب: لا، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 103-105]، ثم قال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ}[الصافات: 106]، إذًا حصل النسخ قبل التمكن، كذلك ما تواتر من نسخ فرض خمسين صلاة في السماء إلى خمس قبل الفعل، وإذا وقع دل على الجواز، الوقوع يكون دائما دليلا على الجواز، ولا إشكال في ذلك.

    ما هي الحكمة في مثل هذا؟

    الابتلاء؛ أن يكون الإنسان مُبتلى؛ لأن العبادة لها جهتان:

    * قد يُؤمَر العبد بعبادة فيمتثل، فيكون المراد بها الامتثال، حصول الشيء.

    * أو يُبتلى بأنه يُكلَّف بالشيء، ثم قبل فعله يُنسخ، ووجهه حينئذ يكون من باب هل أخذ في الأسباب أو لا؟ هل انقاد عندما سمع الخطاب أو لا؟ هذا بناء على أن الحكمة في العبادة هي الابتلاء والامتثال.

    أو بينه والابتلا تَرَدَّدا ..................

    يعني الحكمة في شرع العبادة بعضهم قال: الامتثال فقط، وبعضهم قال: لا، الامتثال هذا هو الأكثر، وقد يكون المراد به الابتلاء، وفائدته حينئذ زيادة الثواب؛ لأنه يعزم على الفعل، ويقول: سمعنا وأطعنا، ثم إذا أراد أن يفعل لا يُمكَّن، هذا الأمر ليس إليه.

  4. #64

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    حكم الزيادة على النص:

    [المتن]:

    [والزيادة على النص إن لم تتعلق بالمزيد عليه -كإيجاب الصلاة، ثم الصوم- فليس بنسخ إجماعا(1)، وإن تعلقت وليست بشرط فنسخ عند أبي حنيفة(2)، فإن كانت شرطا -كالنية في الطهارة- فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ(3)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والزيادة على النص إن لم تتعلق بالمزيد [عليه]؛ كإيجاب الصلاة، ثم الصوم، فليس بنسخ إجماعا):

    (الزيادة عن النص)
    : مرادهم بها: أن يرد نص منفصل لعبادةٍ ما، ثم يرد نص آخر بعبادة أخرى، قد يكون لهذه العبادة الأخرى اتصال بالعبادة الأولى، وقد تكون مستقلة، ولذلك يُقال: الزيادة على النص نوعان:

    * زيادة مستقلة عن العبادة الأولى.

    * زيادة غير مستقلة.

    زيادة مستقلة منفصلة؛ كإيجاب الصلاة أولا، ثم أوجَب بعد ذلك الصيام، إيجاب الصيام نقول: هذا زيادة على المكلف، {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، هذا إيجاب، ثم نزل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}، هذه زيادة لكنها منفصلة عن العبادة السابقة، هذه الزيادة بالإجماع ليست بنسخ؛ لأنه لو اعتُبر نسخا ما بقي شيء، يكون الأخير رافعا لما سبق، فكل ما فُرض في أول البعثة يكون مرفوعا بما فُرض في آخرها.

    (والزيادة على النص إن لم تتعلق بالمزيد عليه): فسر هذا التعلق وعدمه.

    (كإيجاب الصلاة، ثم الصوم):
    ثم إيجاب الصوم.

    (فليس بنسخٍ إجماعا): لأن حقيقة النسخ رفع الحكم السابق، وهنا هل عندنا رفع؟

    لما أُوجب الصوم هل بقي إيجاب الصلاة أو ارتفع؟

    بقي إيجابها، إذًا ليس عندنا نسخ، فحقيقة النسخ مرتفعة هنا، ليست بثابتة، نقول: ليس بنسخ، وهذا إجماع بين الحنفية وغيرهم.

    (2)
    (وإن تعلقت وليست بشرط؛ فنسخ عند أبي حنيفة):

    (وإن تعلقت)
    : هذا هو النوع الثاني، زيادة غير مستقلة، والزيادة غير المستقلة نوعان:

    قال: (وإن تعلقت وليست بشرط؛ فنسخ): إن تعلقت هذه الزيادة -غير المستقلة عن المزيد عليه- قد تتعلق به على وجه لا يكون شرطا، لذلك قال:

    (وليست بشرط)
    : يعني تعلقت بالمزيد عليه على أي وجه إلا أن يكون شرطا.

    (وإن تعلقت وليست بشرط؛ فنسخ عند أبي حنيفة):
    أي هذه الزيادة -غير المستقلة على المزيد عليه- تتعلق به على وجه لا يكون شرطا فيه؛ بأن تكون جزءا من العبادة الأولى.

    مثّلوا بحد الزاني البكر، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}، حكم الزاني البكر: الجلد مائة، جاء في الحديث: «البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة»، في بعض الروايات: «ونفي عام»، إذًا الحكم الأصلي -الذي هو الجلد- باق على ما هو عليه، وجاءت الزيادة -زيادة النفي- في النص الآخر، فالنفي صار جزءا من الحد، ضُم إليه شيء آخر من جنسه، إذًا غير مستقلة، اختلف في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؟

    الجمهور على أنها ليست بنسخ؛ لانتفاء حقيقة النسخ؛ لأن هذه الزيادة لم ترفع حكم الجلد أولا، ليس عندنا حقيقة النسخ، فحينئذ إذا انتفى تطبيق الحد على المثال نقول: انتفى النسخ، الجلد كما هو جلد، ولكنه ضُم إليه شيء آخر، فهو كما إذا ضُمّ إيجاب الصوم إلى إيجاب الصلاة، ولا فرق بينهما.

    وذهب الحنفية إلى أنها نسخ؛ لأن الجلد كان هو الحد الكامل الذي يترتب عليه الحكم، وهو الفسق وإسقاط الشهادة على قوله، فلما زيد التغريب ارتفعت صفة الكمال، فحصل الرفع، إذًا وُجدت حقيقة النسخ، هذا وجه النسخ عند الأحناف؛ أنهم قالوا: الآية دلت على كمال الحد أنه مائة فقط ولا زيادة؛ لأنه رتب على هذا الحد الفسق وإسقاط الشهادة، فلما جاء التغريب رفع صفة الكمال عن الحد السابق، وإذا حصل الرفع ثبت النسخ.

    لكن الجواب: أن النسخ إنما يكون رفعا لحكم شرعي، وصفة الكمال ليست بحكم شرعي، إذًا لم توجد حقيقة النسخ، فالوجوب باق لم يرتفع، وهو كل الواجب، فلما زيد التغريب لم يتغير، بل أُضيف إليه واجب آخر.

    إذًا نقول: الزيادة على النص إما أن تكون مستقلة، أو غير مستقلة.

    المستقلة ليست بنسخ إجماعا.

    وغير المستقلة: إما أن تكون ثابتة على وجه لا يكون شرطا في المزيد عليه، فحينئذ هذه عند الجمهور ليست بنسخ، وهو الأحق، وهي نسخ عند أبي حنيفة -رحمه الله- وأصحابه.

    (3)
    (فإن كانت شرطا؛ كالنية في الطهارة فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ):

    (فإن كانت شرطا):
    هذا النوع الثاني من الزيادة غير المستقلة.

    (إن كانت):
    الزيادة.

    (شرطا):
    للمزيد عليه.

    (كالنية في الطهارة):
    وزيادة الطهارة في الطواف مثلا، فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ، والجمهور ليست بنسخ؛ لأن حكم الصلاة لما أُضيف إليه الوضوء، أو النية في الطهارة نقول: هذا لم يرتفع حكم الأصل، لم يتحقق حكم الأصل، وكأن الأحناف ينظرون إلى أن المسألة تتجزأ، وإذا قبلت التجزيء وحصل نوع رفع حكموا بالنسخ؛ كما سبق معنا في المطلق والمقيد، {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} "مؤمنة": قالوا: نسخ، والصواب: أنه ليس بنسخ، مذهب الجمهور أن تلك الزيادة ليست بنسخ؛ لانتفاء حقيقة النسخ، فقوله: {وأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} دل على أمرين: دل على إيجاب الصلاة، وعلى إجزائها؛ لأنه كما سبق أن امتثال المأمور به يدل على الإجزاء إذا أتي به على الوجه الشرعي، {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}: دل على أمرين: وجوب الصلاة والإجزاء، فلما جاءت الزيادة -وهي اشتراط الطهارة للصلاة، هذا على فرض أن الصلاة فُرضت أولا وصلوا قبل إيجاب الوضوء، ثم فُرض الوضوء، على هذا التقدير، وهو قول لبعض الفقهاء، حينئذ إذا أُوجب الوضوء بعد إيجاب الصلاة بقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}- هل هذه الزيادة شرط في المزيد عليه؟

    شرط؛ لأن الشرع رتّب عليها فوات الصلاة بفوات الطهارة، فكانت شرطا في المزيد عليه، فلما جاءت الزيادة -وهي اشتراط الطهارة للصلاة- فالوجوب لم يرتفع، وجوب الصلاة باق كما هو قبل الزيادة، إذًا أين النسخ لإيجاب الحكم هنا؟

    ليس عندنا نسخ، وأما الإجزاء فهو الذي حصل له الرفع بزيادة اشتراط الطهارة، فيكون هذا من باب التخصيص، وليس من باب النسخ.

    (فإن كانت شرطا):
    أي الزيادة شرطا للمزيد عليه.

    (كالنية في الطهارة):
    والطهارة بالنسبة للصلاة، فُرض الوضوء، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ . .}، إذا وقفنا مع الألفاظ ما ذُكرت النية، لكن قوله: «لا عمل إلا بنية»، أو «إنما الأعمال بالنيات» دلّ على أنه لا وضوء إلا بنية، إذًا زيادة على الطهارة، أو {أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، ولم تُذكر الطهارة أصلا، فلما أُوجب الوضوء قيل: هذه زيادة على إيجاب الصلاة، وهي زيادة شرط في المشروط، فأبو حنيفة وبعض مخالفيه في الأولى نسخ، والصواب: أنها ليست بنسخ.

    إذًا الزيادة على النص عند الجمهور مطلقا ليست بنسخ، سواء كانت مستقلة أو غير مستقلة.

    وعند الأحناف التفصيل: إن كانت غير مستقلة مطلقا فهي نسخ، سواء كانت جزءا من المزيد عليه أو شرطا له، وإذا كانت مستقلة فليست بنسخ؛ كالجمهور.

  5. #65

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    حكم النسخ إلى غير بدل، وأقسامه إلى بدل:

    [المتن]:

    [ويجوز إلى غير بدل(1)، وقيل: لا، وبالأخف والأثقل، وقيل: بالأخف(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ويجوز إلى غير بدل):

    الأصل في النسخ والأكثر أنه إذا نُسخ حكم شرعي جيء ببدله، {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، هذا هو الغالب، لكن هل يصح النسخ إلى غير بدل؛ يُرفع الحكم ولا يؤتى ببدله؟

    نعم، وهذا عند الجمهور، والدليل على ذلك نسخ تقديم الصدقة أمام مناجاة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت واجبة فارتفعت وما جيء ببدلها، وتحريم ادخار لحوم الأضاحي، ارتفع ولم يرد له بدل، وأيضًا يُعلَّلُ بأن المصلحة الشرعية التي رُتب عليها الحكم الشرعي قد تكون فيما نُسخ، ثم لما كانت هذه المصلحة معلقة مؤقتة ارتفع الحكم معها؛ يعني وُجد الحكم الشرعي بوجود المصلحة، فلما انتهت المصلحة ارتفع الحكم الشرعي، فحينئذ لا مانع أن يُنسخ الحكم الشرعي ولا يُؤتى ببدله، والوقوع دليل الجواز.

    وقيل: لا يجوز، وهو قول الظاهرية؛ لأنه مخالف لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا})، وهذا شرط، {ما}: شرطية، {ننسخ}: فعل الشرط،{نأت}: جواب الشرط، فإذا لم يأتِ ببدلها فلا نسخ.

    الكلام عن هذه الآية طويل، وأحسن ما يُجاب به أن يُقال: هذا عام، وهو قابل للتخصيص، وإذا وقع وحصل النسخ إلى غير بدل؛ نقول: خُصت الآية بما حصل؛ لأنه ثابت أنه أُوجب أولا الصدقة بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- عند المناجاة، ثم ارتفع الحكم، الجمع بين هذا وبين آية البقرة: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} أن هذا عام وهذا خاص، والخاص مُقدّم على العام، ولا تعارض.

    (2)
    (وقيل: لا، وبالأخف والأثقل، وقيل: بالأخف):

    يعني النسخ له أحوال إذا نُسخ إلى بدل؛ لأنه قال: (ويجوز إلى غير بدل)، لا إشكال فيه، ثم إلى بدل، هذا البدل قد يكون أخف من المنسوخ، وقد يكون أثقل، وقد يكون مساويا.

    (وبالأخف):
    يعني النسخ إلى بدل أخف، يكون الحكم -الذي يُعد ناسخا بخطاب متراخ- أخف على المكلفِين من الحكم المنسوخ، ولا خلاف في جوازه ووقوعه، هذا متفق عليه، {إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}، ثم نزل قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ}، فمصابرة الواحد لاثنين أخف من مصابرة الواحد لعشرة منهم، ولا شك في هذا، إذًا صح ووقع النسخ إلى أخف.

    (والأثقل):
    إلى بدل، ويكون أثقل باعتبار السابق، وهذا فيه خلاف، والأصح جوازه؛ بدليل الوقوع، كان المسلم مُخيرا بين الصيام والإطعام، ثم نزل قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}، تعين الصوم، إذًا لا تخيير.

    وإلى مساوٍ؛ مثل ما ذكرناه في القبلة؛ يعني يستوي عند المكلف أن يصلي إلى الشام أو يصلي إلى جهة الكعبة، يتجه فقط.
    إذا اتفقوا على أن يكون بالأخف، قالوا: لأنه وردت الآيات الدالة على إرادة التخفيف: {يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ}، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، وكل آية تدل على التيسير، فحينئذ قالوا: لا يمكن أن يُنسخ الحكم الشرعي ثم يأتي بأثقل.
    نقول: هذا ليس بصحيح؛ لأن الأثقل هذا باعتبار المكلف بالحكم السابق، ليس باعتبار الحكم من حيث هو، فحينئذ لا تعارض بين أن يُنسخ هذا أو ذاك.

  6. #66

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    هل يثبت حكم النسخ في حق من لم يبلغه؟

    [المتن]:

    [ولا نسخ قبل بلوغ الناسخ، وقال أبو الخطاب: كعزل الوكيل قبل علمه به(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ولا نسخ قبل بلوغ الناسخ، وقال أبو الخطاب: كعزل الوكيل قبل علمه به):

    يعني هل يجوز أن يُنسخ حكم ثم لا يعلمه المكلَّفون؟ فنعتبر أن الحكم قد نُسخ في حق المكلفين، والناسخ يكون في علم النبي ولم يُبلّغه، هل هذا جائز؟

    قال: (ولا نسخ): أي لا حكم بالنسخ في حق المكلفين.

    (قبل بلوغ الناسخ):
    إليهم؛ لأننا لو حكمنا عليهم بأن هذه العبادة التي فعلوها منسوخة –مع عدم علمهم بالناسخ- لكان تكليفا بما لا يُطاق، وسبق أن شرط الفعل المكلف به العلم به، فإذا لم يعلم فلا تكليف.

    هنا عندنا قال: نسخ، امتثلوا العبادة السابقة، ثم نُسخت في حقهم هذه العبادة، رُفع الحكم لكن ما بلغهم الناسخ؛ نقول: عبادتهم صحيحة على ما هي عليه؛ استدلوا بأن أهل قباء لما كانوا مصلين الفجر جهة بيت المقدس وبلغهم الناسخ وهم في الصلاة -وقطعا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى إلى جهة الكعبة، وأنه بلغه الناسخ، ولكن لم يبلغ أهل قباء- استداروا مباشرة من جهة بيت المقدس إلى الكعبة، الناسخ موجود ولا شك، لكن هل بلغهم؟ لا، هل أُمروا بقضاء الركعة الأولى أو استئناف الصلاة؟ لا، عدم أمرهم بقضاء الصلاة، أو إعادتها، أو باستئنافها دليل على صحة تلك الصلاة، إذًا هم غير مُكلفين بالناسخ الذي لم يعلموه، وإنما هم مكلفون بما يعلمون، وهذا واضح؛ يعني هذا الدليل واضح في أنه لا نسخ قبل بلوغ الناسخ؛ لأننا لو نسخنا الحكم في حقهم قبل أن يعلموا أنه منسوخ لكان تكليفا بما لا يُطاق، وهذا مُمتنع في الشرع وإن جاز عقلا.

    (وقال أبو الخطاب: كعزل الوكيل قبل علمه به):
    يعني يثبت النسخ قبل بلوغ الناسخ في حق المكلفين؛ يعني مقابل القول الأول، القول الأول: لا نسخ، هذا يقول: نعم فيه نسخ. لماذا؟

    قاسه على مسألة فرعية، وهذا غريب؛ لأن الأصول تُفرّع عليها الفروع، ولا نُقعد قاعدة أصولية بناء على فرع، هنا يقول:

    (كعزل الوكيل قبل علمه به):
    هذا مُختلف فيه، فينعزل الوكيل بعزل المُوكل وإن لم يعلم الوكيل، وكّلت زيدا يشتري ويبيع لي، ثم عزلته وأشهدتكم، وهو لا يعلم، على رأيه ينعزل، حصل العزل قبل بلوغه، فقاس هذه على هذه.

    لكن نقول: هذا فاسد؛ لأنه من باب قياس الأصل على الفرع، والعكس هو الأصل، ثم المسألة الفرعية فيها خلاف.

    والصواب: هو الأول بدليل الوقوع، وهو قصة أهل قباء وبلوغه -صلى الله عليه وسلم- وإقراره لهم، فهنا سنة تقريرية أنه لا نسخ قبل بلوغ الناسخ.

  7. #67

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    أقسام النسخ باعتبار الناسخ:

    [المتن]:

    [ويجوز نسخ القرآن والسنّة المتواترة والآحاد بمثلها(1)، والسنّة بالقرآن، لا هو بها في ظاهر كلامه، خلافا لأبي الخطاب وبعض الشافعية(2)، فأما نسخ القرآن ومتواتر السنّة بالآحاد فجائز عقلا، ممتنع شرعا إلا عند بعض الظاهرية(3)، وقيل: يجوز في زمنه صلّى الله عليه وسلّم(4)، وما ثبت بالقياس، إن كان منصوصا على علته فكالنص يُنْسخ ويُنسخ به وإلا فلا(5)، وقيل: يجوز بما جاز به التخصيص(6)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ويجوز نسخ القرآن والسنّة المتواترة والآحاد بمثلها):

    هذه أحوال النسخ: يُنسخ القرآن بالقرآن، وتُنسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة، ويُنسخ الآحاد بالآحاد، وهذه كلها لا خلاف فيها.

    (ويجوز نسخ القرآن):
    أي بالقرآن، وهذا جائز بلا خلاف كما في آية المصابرة السابقة، والعدة كذلك، والمناجاة بن يدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.

    (والسنة المتواترة بها): يعني بالسنة المتواترة، وهذا من حيث الجواز أيضا متفق عليه، لكن يقولون: لا يوجد له مثال، لكن من حيث التأصيل لو وُجد حديث متواتر ونُسخ بحديث متواتر لا مانع من ذلك.

    (والآحاد)
    : أيضا بالآحاد، وهذا كثير، «كنت قد نهيتكم عن زيارة القبول ألا فزوروها»، "نهيتكم .. فزوروها"، هذا نسخ، والناسخ السنة، ما المنسوخ هنا؟

    هو حديث واحد: «كنت نهيتكم»: هذا إخبار بالمنسوخ، «ألا فزوروها»: هذا هو الناسخ، إذًا نهيتكم فيما سبق، فحينئذ ثبت بآحاد.

    (2)
    (والسنّة بالقرآن، لا هو بها في ظاهر كلامه، خلافا لأبي الخطاب وبعض الشافعية):

    (والسنة بالقرآن)
    : يعني السنة تُنسخ بالقرآن، ومثاله: نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة بالقرآن: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.

    (لا هو)
    : الضمير يعود إلى لقرآن.

    (بها):
    أي بالسنة المتواترة.

    ومراده: (السنة بالقرآن): السنة المتواترة، وليس الآحاد.

    (لا هو بها):
    أي لا يُنسخ القرآن بالسنة المتواترة.

    (في ظاهر كلامه):
    يعني في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ لأنه ورد عنه أنه قال: "لا ينسخ القرآن إلا القرآنُ يجيء بعده"، وبه قال الشافعي -رحمه الله تعالى-؛ لقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}، وهل السنة مثل القرآن أو خير من القرآن؟

    الجواب: لا، فقالوا: إذًا لا يُنسخ القرآن بالسنة المتواترة.

    (خلافا):
    منصوب على أنه مفعول مطلق، ودائمًا تجدها منصوبة.

    (لأبي الخطاب وبعض الشافعية):
    القائلين بجواز نسخ القرآن بالسنة، وهو قول الجمهور؛ صحة نسخ القرآن بالسنة المتواترة؛ لأن الكل وحي من عند الله، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، فكله وحي، ولأن الناسخ في الحقيقة هو الله -عز وجل-، هو الذي يُثبت الحكم أولا، وهو الذي يرفع هذا الحكم، {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ}، كما سبق أن الحاكم هو الله -سبحانه وتعالى- في القرآن أو على لسان الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ومحل النسخ أيضا هو الحكم لا اللفظ، إذًا الإيجاب أو التحريم أو الكراهة أو الاستحباب أو الإباحة هي المنسوخة، فحينئذ قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} الأصل في النسخ أنه رفع للحكم، وليس للفظ.

    وعليه فقوله تعالى: {بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} يكون من السنة كما يكون من القرآن، والأحكام كلها من عند الله -سبحانه وتعالى-.

    (3)
    (فأما نسخ القرآن ومتواتر السنّة بالآحاد فجائز عقلا، ممتنع شرعا إلا عند بعض الظاهرية):

    (فأما نسخ القرآن):
    بالآحاد.

    (ومتواتر السنة بالآحاد فجائز عقلا):
    العقل لا يمنع أن يتعبدنا الله بنسخ القرآن الثابت بدليل قطعي بدليلي ظني، كذلك السنة المتواترة دليل قطعي لا يمنع ولا يحيل العقل أن يتعبدنا الله -عز وجل- بنسخ السنة المتواترة بدليل ظني من جهة العقل، لكن هل كل ما جاز عقلا جاز التعبد به شرعًا؟

    قالوا: لا، لذلك قال:

    (فجائز عقلا، ممتنعٌ شرعا):
    يعني النسخ يكون بمثله فقط، ولا يكون بما هو دونه؛ يعني إما أن يكون مثلا له في الثبوت، أو أعلى منه، ولذلك جوَّزوا نسخ القرآن بالسنة المتواترة؛ لأنه مثله من حيث الثبوت، فاشترطوا في الناسخ أن يكون مساويا للمنسوخ من حيث الثبوت، فالأدنى لا ينسخ الأعلى، والأعلى ينسخ الأدنى، ولا إشكال، وللأسف هذا قول الجمهور، قالوا: الظني لا ينسخ القطعي.

    (إلا عند بعض الظاهرية):
    فيجوز نسخ القرآن ومتواتر السنة بالآحاد؛ لأن القطعي هو اللفظ، ومحل النسخ هو الحكم، وكما أن مدلول القطعي قد يكون ظنيا فلا مانع من نسخه بظني، وهذا كله بناء على أن أحاديث الآحاد تفيد الظن لا العلم، وإذا قلنا: العلم استرحنا.

    إذًا دليل الظاهرية: أن القرآن إذا قيل: إن ثبوته قطعي، لكن لا يلزم أن يكون مدلوله قطعيا؛ لأن الظاهر والمحتمل والمشترك هذه دلالة ظنية، ولذلك تُقسّم من حيث الثبوت والدلالة إلى أربعة أقسام:

    * قطعي الثبوت قطعي الدلالة.

    * ظني الثبوت ظني الدلالة.

    * قطعي الثبوت ظني الدلالة.

    * ظني الثبوت قطعي الدلالة.

    لا يلزم أن كل ما كان قطعي الثبوت أن يكون قطعي الدلالة.

    فلو كان الآحاد ظني الثبوت -على التسليم بهذا والتنزل له- لا يلزم أن يكون ظني الدلالة، بل قد يكون القرآن قطعي الثبوت ظني الدلالة، وعكسه الآحاد؛ فيكون الآحاد من جهة الدلالة قطعيا، ومن جهة الثبوت ظنيا، فحينئذ لا مانع من أن يَنسخَ القرآن، وهذا هو الأصح؛ أن العبرة بصحة السند، فمتى ما صح السند صح النسخ به.

    (4)
    (وقيل: يجوز في زمنه صلّى الله عليه وسلّم):

    لا بعده، وهذا غريب؛ لأنه لا نسخ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، فكيف يُقيَّد بزمنه؟! لأننا نقول: بخطاب متراخٍ، من الذي يُبلغنا هذا الخطاب؟

    النبي -صلى الله عليه وسلم-، فحينئذ يجوز في زمنه -صلى الله عليه وسلم- لا بعده، وهذا داخل في قول الظاهرية؛ لأن الظاهرية جوَّزوا النسخ بالآحاد، وهذا إنما يكون في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا بعده، وحينئذ لا يظهر فرق بين هذا القول والسابق؛ لأن الأصل في النسخ إنما يكون في زمن الرسول -صلى الله عليه وسلم-.

    (5)
    (وما ثبت بالقياس، إن كان منصوصا على علته فكالنص ينسخ ويُنسخ به وإلا فلا):

    هل القياس يُنسخ به؟

    إذا قيل: بخطاب متراخٍ أو دليل شرعي هل يدخل في ذلك القياس؟

    الصواب: أن القياس لا ينسَخُ ولا ينسخ به قطعا ومطلقا؛ سواء كانت علته منصوصة أو لا.

    (وما ثبت بالقياس)
    : يعني الحكم الثابت بالقياس.

    (إن كان منصوصا على علته)
    : وهذا لا مثال له، مسألة فرضية؛ جدلية فقط، أما في الواقع لا وجود لها، إذا كان يُختَلف في الآحاد، والجمهور على أنه لا ينسخ القرآن ولا السنة المتواترة، فكيف بالقياس؟! هذا بعيد جدا.

    (إن كان منصوصا على علته):
    من قبل الشرع.

    (فكالنص)
    : لأن القياس لا بد أن يستند إلى نص، فإذا كانت العلة منصوصة صار حكم القياس منصوصا عليه بواسطة تلك العلة؛ يعني صار مستندا إلى نص شرعي، والمستند إلى نص شرعي كالنص الشرعي؛ فلذلك صح أن يُنسَخ به.

    (فكالنص):
    ينسَخُ ويُنسخ به.

    (وإلا فلا)
    : يعني وإن لم تكن العلة منصوصا عليها؛ يعني مستنبطة، إذا صارت العلة مستنبطة، صارت محلا للاجتهاد، والاجتهاد قابل للخطأ، فالصواب أنه حينئذ لا يكون ناسخا، لا يقوى على رفع الحكم الشرعي.

    والصواب: أنه لا يُنسَخ بالقياس مطلقا لو وجد له مثال.

    (6)
    (وقيل: يجوز بما جاز به التخصيص):

    يجوز النسخ بكل ما جاز به التخصيص، وهذا فاسد أيضا؛ لأن النسخ رفع، والرفع إبطال، والتخصيص بيان، والبيان تقرير، وهناك يصححون أن قول الصحابي يجوز به التخصيص، والمفاهيم يجوز بها التخصيص .. إلخ، فكل ما جاز به التخصيص جاز أن يُنسَخ به، وعليه؛ يجوز النسخ بالقياس مطلقا، سواء كانت علته منصوصة أو لا، والصواب: أنه لا.

  8. #68

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    الإجماع وتعريفه:

    [المتن]:

    [و(الإجماع)(1)، وأصله: الاتفاق(2)، وهو اتفاق علماء العصر من الأمة على أمر ديني(3)، وقيل: اتفاق أهل الحل والعقد على حكم الحادثة قولا(4)].

    [الشرح]:

    (1)
    (و(الإجماع)):

    هذا عطف؛ إن أراد مطلق الأصول المتفق عليها فالإجماع معطوف على "الكتاب"؛ على الأول، وإن أراد الترتيب فالإجماع معطوف على "السنة".

    (2)
    (وأصله: الاتفاق):

    الإجماع: مصدر أجمع يُجمِع إجماعا، وأصله في اللغة: الاتفاق والعزم؛ يعني يطلق الإجماع بمعنى الاتفاق، ويُطلق الإجماع بمعنى العزم، "أجمع القوم على كذا"؛ إذا اتفقوا، "أجمعتُ على الأمر"؛ أي عزمت عليه.

    (3)
    (وهو اتفاق علماء العصر من الأمة على أمر ديني):

    وأما في الاصطلاح فعرفه المصنف بقوله: (وهو اتفاق علماء العصر من الأمة على أمر ديني).

    (وهو اتفاق):
    أخذ المعنى اللغوي، حينئذ خرج كل خلاف ولو صدر من واحد.

    (اتفاق)
    : جنس في الحد، إذًا لا بد من وجود المعنى اللغوي، فلو حصل خلاف ولو من واحد ارتفع الإجماع؛ لأن المعنى الحقيقي للإجماع هو الاتفاق، لو اتفق تسعة وتسعون نقول: بقي واحد، هذا خرم الإجماع؛ لأنه لا بد من اتفاق جميع العلماء.

    (وهو اتفاق علماء):
    إذًا ليس اتفاق أي أحد.

    (اتفاق علماء العصر)
    : وليس كل العلماء أيضا، بل مجتهدي العلماء، ليس كل عالم صار مجتهدا؛ لأن العالم قد يُتوَسَع فيه بأنه من حصَّل العلم ولو ظاهرا، لكن كونه مجتهدا من أهل النظر والبحث والتأمل والتدبر هذا قلة، إذًا المراد مجتهدو العصر.

    (من الأمة)
    : يعني من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلا عبرة باتفاق علماء غيرهم، لو اتفق اليهود والنصارى على أمر يتعلق بالشريعة نقول: هذا ليس بإجماع؛ لأن شرط الإجماع أن يكون العلماء والمجتهدون من أمة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ أمة الإجابة.

    (على أمر ديني)
    : خرج على أمر دنيوي؛ كالبيع والشراء ونحو ذلك؛ كالمواد المتعلقة باللغة، وكالفاعل بأنه مرفوع إلى آخره، فكل صنعة فيها إجماع يختص به أهلها، إجماع النحاة يختلف عن إجماع الفقهاء، وإجماع الفقهاء يختلف عن إجماع الأصوليين، إذًا كل فن له علماء مجتهدون، ولكن المراد به هنا الحكم الشرعي الذي يتعلق به، أو يتعلق بكل المكلفين، ولذلك يستوي فيه الجميع.

    ولا بد من قيد "بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-"؛ لأن الاتفاق في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يُسمى إجماعا، ولذلك ينقل بعض الصحابة: "كانوا يفعلون كذا"، هل يُعَد إجماعا؟

    لا يُعَد إجماعا؛ لأن اتفاقهم في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بإجماع؛ لأنه لا إجماع إلا بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك قيل: "كانوا يفعلون كذا": هذا له حكم الرفع، سواء أضافه إلى عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا، "كانوا يفعلون كذا"، أطلق، يحتمل أنه بعد عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإذا قال: "كانوا يفعلون على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا"، هذا قيَّده، هذا أقوى من ذاك؛ لأنه مُقيد بزمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو مُطلق على النوعين يُحمَل ويُعطَى حكم الرفع، إذًا هو اتفاق، خرج به الخلاف، فلا إجماع مع الخلاف؛ لأنه يجوز أن يُصيب الواحد أو الأقل ويُخطئ الأكثر، ولذلك صُوِّب عمر -رضي الله عنه- في أسرى بدر بخلاف من قابله.

    (4)
    (وقيل: اتفاق أهل الحل والعقد على حكم الحادثة قولا):

    هنا زاد: (أهل الحل والعقد)، نقول: إن كان مراده المجتهدين فلا إشكال، وإن كان مراده ما هو أعم من ذلك فيرد الإشكال؛ لأن الشريعة مبناها على أقوال أهل العلم المجتهدين، وأما غيرهم من أهل الحل والعقد في غير الشريعة فحينئذ لا عبرة بأقوالهم.
    (على حكم الحادثة): الواقعة، النازلة، أشار فيه إلى أن النازلة هذه وقعت بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وليست في عهده؛ إذ لا إجماع.

    (قولا):
    يعني لا فعلا ولا غيره؛ ليختص الحد بالإجماع الصريح؛ يعني لا بد أن يكون منطوقا به، لو نطق البعض وسكت الآخرون -الذي هو الإجماع السكوتي- فليس بإجماع عند أرباب هذا الحد، الأصل في الإجماع إذا أُطلق انصرف إلى الإجماع الصريح.

  9. #69

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    حجية الإجماع:

    [المتن]:

    [وإجماع أهل كل عصر حجة خلافا لداود، وقد أومأ أحمد إلى نحو قوله(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وإجماع أهل كل عصر حجة خلافا لداود، وقد أومأ أحمد إلى نحو قوله):

    (إجماع أهل كل عصر):
    من العصور إلى قيام الساعة.

    (كل عصر):
    كل قرن، إذا أجمع علماء ذلك القرن، أو ذلك العصر فهو حجة على من بعده، فليس خاصا بعهد الصحابة كما ظنه البعض، داود نُسب إليه هذا؛ أنه هو الإجماع الذي يمكن ضبطه، أما من بعدهم فدعوى الإجماع أقرب ما يكون للكذب كما قال: الإمام أحمد.

    لكن هل معنى ذلك أنه لا إجماع بعد الصحابة وينحصر دليل الإجماع فيهم فقط؟ أو أنه إذا أمكن -ولو مع التعذر أو العسر- ضبط الإجماع بعد عهد الصحابة فيكون دليلا أو لا؟

    هذا محل المأخذ هنا، يعني لا نقيده بعهد الصحابة، بل هو دليل مطلق، متى ما أمكن الإجماع نقول: هو حجة على من بعدهم، وفرق بين أن يُقال: الإجماع حجة ودليل شرعي، والذي يمكن ضبطه هو إجماع الصحابة، لماذا؟

    لأنه لا يمكن أن يحصر كل العلماء فيسمع منهم لتفرق الأمة وشتاتها .. إلخ.

    (حجة):
    ودليل شرعي يجب العمل به؛ لأن الأدلة الشرعية دالة على حجية الإجماع، وإذا ثبتت حجية الإجماع فلا يخلو عصر منها؛ أي من دلالة تلك الأدلة، فالأدلة شاملة تدل على أن اتباع غير سبيل المؤمنين مُشاقة لله ورسوله، هل هذه المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين خاص بالصحابة؟

    نقول: لا، في كل عصر، ولو لم يمكن إثبات الإجماع.

    (خلافا لداود):
    لأنه خص الإجماع بالصحابة وحدهم، ولو أجمع التابعون وتحقق وثبت الإجماع فليس بإجماع، قال: لأن الخطاب الذي ثبت به الإجماع خطاب للحاضرين فقط، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ للناس}، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، يقول: هذا خاص بالصحابة.

    نقول: إذًا مثل ذلك: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ}، ما الفرق بينهما؟ لمَ خصَّصْتَ هذا بالصحابة دون غيرهم؟! إذًا هذا الدليل فاسد، ليس بصحيح.

    (وقد أومأ):
    يعني أشار.

    (أحمد إلى نحو قوله)
    : إذا قيل: أومأ الإمام أحمد يُفهَم أنه ليس بصريح، هذه الرواية قد يُختَلف فيها، قد يوافق من استنبط هذا القول الموافق لداود، وقد يخالف؛ لأن الرواية قد تكون صريحة، وقد تكون غير صريحة؛ مثل ما قلنا في المنطوق؛ قد يكون صريحا، وقد يكون غير صريح؛ لأنه جاء في مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود قوله: "الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، ثم هو من بعد التابعين مُخيَّر -لا يفيد هذا-؛ لعدم إمكان الإجماع"، لا لكونه لا إجماع، هذا يمكن تأويله؛ لأن النصوص عامة، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} دلّ على أن الإجماع حجة، وأن المشاقة والخروج عن سبيل المؤمنين خروج على الحق، فحينئذ الأدلة عامة فتشمل كل العصور.

  10. #70

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول:

    [المتن]:

    [وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة: اعتبره أبو الخطاب والحنفية(1)، وقال القاضي وبعض الشافعية: ليس بإجماع(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وإجماع التابعين على أحد قولي الصحابة: اعتبره أبو الخطاب والحنفية):

    الصحابة اختلفوا على قولين، ثم أجمع التابعون على أحد القولين، هل يعتبر إجماعا أو لا؟

    الصواب: أنه لا يعتبر إجماعا؛ لأن شرط الإجماع ألا يكون مسبوقا بخلاف؛ لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها، فيبقى القول ولو مات صاحبه، فيعتبر القول كما لو وُجد قائله، فالأقوال لا تموت بموت أصحابها، فإذا اختلف الصحابة على قولين لا يمكن دعوى الإجماع بعدهم، نعم يمكن تقييده، يُقال: أُجمع على أحد القولين، لا إشكال، أما إطلاق الإجماع فيُراد به الإجماع الصريح فلا.

    لا مانع أن يُقال: انعقد الإجماع بعد الخلاف، لا بد من الإشارة، انعقد الإجماع بعد الخلاف، لا بأس بهذه العبارة؛ لأنه إجماع مُقيد، يُفهَم منه أنه ثم خلاف، ثم بعد ذلك حصل نوع اتفاق.

    قال: (اعتبره أبو الخطاب والحنفية): هذا هو القول الأول؛ يعني اعتبره إجماعا؛ لأنه اتفاق من أهل العصر الثاني، وقد دل الدليل على كونه معصوما من الخطأ؛ كما لو اتفق الصحابة على أحد القولين؛ يعني كأنه نزَّل حقيقة الإجماع حيث التعريف عليه، لكن نقول: "اتفاق علماء العصر"، هنا لم يحصل اتفاق؛ لوجود الخلاف، ولو وُجد القول دون قائله، إذًا أين دعوى الاتفاق؟ ليس فيه اتفاق، بل حقيقة الإجماع منتفية، وكون التابعين أجمعوا، نقول: لم يُجمعوا؛ لأن القول الآخر موجود، سواء مات قائله أم بقي.

    (2)
    (وقال القاضي وبعض الشافعية: ليس بإجماع):

    هذا القول الآخر، وهو الصحيح، فيجوز حينئذ الأخذ بالقول الآخر على خلاف القول السابق، إذا قيل: إجماع؛ معناه القول الآخر يُطرَح، لا يجوز الأخذ به، وإذا قيل: ليس بإجماع؛ جاز للمخالف أن يأخذ بالقول الآخر ولو اُدعي إجماع التابعين، ولا يكون القول الآخر مُطرَّحًا؛ لأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها.

  11. #71

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    إجماع الصحابة مع مخالفة تابعي مجتهد لهم:

    [المتن]:

    [والتابعي معتبر في عصر الصحابة عند الجمهور خلافا للقاضي وبعض الشافعية، وقد أومأ أحمد إلى القولين(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والتابعي معتبر في عصر الصحابة عند الجمهور خلافا للقاضي وبعض الشافعية، وقد أومأ أحمد إلى القولين):

    إذا قيل: إجماع الصحابة: اتفاق علماء العصر، لو وُجد تابعي معتبر مُجتهد، وُجدت فيه آلة الاجتهاد، وأدرك أكثر الصحابة، واتفق الصحابة، وخالف التابعي، هل يعتبر نقدا للإجماع أو لا؟

    فيه خلاف.

    (والتابعي معتبر):
    إذا بلغ رتبة الاجتهاد.

    (في عصر الصحابة):
    فإنه يُعتَد به في الإجماع.

    (عند الجمهور):
    وهو رواية عن الإمام أحمد؛ لأنه مُجتهد من علماء الأمة، فلا طريق حينئذ إلى عدم اعتباره، وإذا اعتُبر قولهم في الاجتهاد فليعتبر في الإجماع؛ لأن الصحابة أفتوا، وكبار التابعين -كسعيد بن المسيب وغيره- أفتوا في عهد الصحابة، وسكت الصحابة، وأذنوا لهم بالإفتاء، بل دلوا عليهم الناس؛ وأخذوا ببعض أقوالهم، إذًا اعتبروا اجتهادهم، فحينئذ فليعتبر كذلك إجماعهم.

    وأيضًا الأدلة تشملهم، اتفاق علماء العصر، ثم الدليل على مشروعية أو حجية الإجماع؛ كقوله تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} إلى أن قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} هذا يشمل الصحابة والتابعين معا.

    (خلافا للقاضي):
    أبي يعلى.

    (وبعض الشافعية):
    في أن التابعي المجتهد لا يعتد بخلافه، قالوا: كالعوام؛ لأن التابعين مع الصحابة كالعوام مع العلماء، وهذا ليس بصحيح.

    (وقد أومأ أحمد إلى القولين):
    يعني الإمام عنه روايتان؛ ولكنهما ليستا صريحتين؛ إلى اعتبار التابعي، وإلى عدم اعتبار التابعي.
    ووجهه إلى عدم اعتبار التابعي: أن الصحابة أعلم من غيرهم، وشاهدوا التنزيل، والتقوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وعرفوا مواقع الآيات، والناسخ والمنسوخ .. إلخ، قال: هم أعلم، فحينئذ لو خالف التابعي وأراد إسقاط اتفاق الصحابة بدعوى الإجماع، قالوا: هذا غير معتبر.

    لكن القول الأول أصح؛ لشمول الأدلة له.

  12. #72

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    حكم الإجماع مع مخالفة واحد أو اثنين:

    [المتن]:

    [ولا ينعقد بقول الأكثرين، خلافا لابن جرير، وأومأ إليه أحمد(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ولا ينعقد بقول الأكثرين خلافا لابن جرير، وأومأ إليه أحمد):

    قلنا في الحد: "اتفاق"، فلو اتفق الكل وخالف واحد أو اثنان هل يعتبر الإجماع أو لا؟

    لا يعتبر؛ لانتفاء حقيقة الإجماع، وهنا (اتفاق علماء العصر)، فإذا وُجد أكثر العلماء قائلين بقولٍ ما وخالف واحد أو اثنان حينئذ نقول: هذا نقض للإجماع؛ لأن الشرط هو اتفاق كل علماء الأمة؛ يعني المجتهدين.

    (ولا ينعقد بقول الأكثرين):
    لانتفاء حقيقة الإجماع، ولأن العصمة من الخطأ إنما هي للكل لا للبعض.

    (خلافا لابن جرير):
    -رحمه الله تعالى-؛ فإنه قال: "لا عبرة بخلاف الواحد والاثنين".

    (وأومأ إليه أحمد):
    يعني أشار في إحدى الروايات إلى عدم انعقاد الإجماع بقول الأكثرين، هكذا فسره بعضهم، ويحتمل رجوعه إلى قول ابن جرير، لكن الأظهر أنه لقوله: (ولا ينعقد بقول الأكثرين)، وهناك رواية عن الإمام أحمد تشير إلى هذا.

  13. #73

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    إجماع أهل المدينة:

    [المتن]:

    [وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة):

    هذه كلها مسائل فرضية فقط، أما في الواقع فلا وجود لها، فإن الإجماع لا يمكن اعتباره إلا في الصحابة فقط، هذا هو الظاهر، ومن بعدهم إن وُجد فهو حجة شرعية ولا إشكال؛ لعموم الأدلة، لكن أين هو؟! وعليه يُحمَل قول الإمام أحمد: "من ادعى الإجماع فهو كاذب"؛ يعني في غير الصحابة.

    (وقال مالك: إجماع أهل المدينة حجة)
    : اشتهر هذا عن الإمام مالك؛ أن إجماع أهل المدينة حجة، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- له كلام جيد في هذه المسألة، قال -رحمه الله-: إجماع أهل المدينة على أربع مراتب:

    الأولى:
    ما يجري مجرى النقل؛ مثل الأذان بكلماته، والإقامة، الصاع ومقداره، والمد ومقداره، ما يجري فيه الربا، هذه كلها جارية مجرى النقل، قال: هذه حجة باتفاق.

    الثانية:
    العمل القديم قبل فتنة عثمان -رضي الله عنه-، فهذا حجة عند مالك، وهو المنصوص عن الشافعي، وظاهر مذهب الإمام أحمد؛ لأنه مما سنه الخلفاء الراشدون، فيجب العمل به.

    الثالثة:
    إذا وقع خلاف بين روايتين؛ هل يصح جعل إجماع أهل المدينة من المرجحات أو لا؟ فتُرَجح الرواية التي عليها عمل أهل المدينة دون غيرهم؟

    هذا محل النزاع، والأظهر: أنه لا يعتبر من المرجحات.

    الرابعة:
    العمل المتأخر بالمدينة؛ يعني بعد مقتل عثمان، فالأئمة الكبار متفقون على أنه ليس بحجة.

    وأكثر ما فُسِّر به قول الإمام مالك -رحمه الله تعالى- في كون إجماع أهل المدينة حجة أنه مراده ما كان جاريًا مجرى النقل المستفيض مما كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فإنه لو تغير لعُلم، ما دام الناس قد جروا على هذا فمعناه أن العمل متصل بما كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم وُصل به إلى زمن الإمام مالك، فأما في مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء، هذا أصح ما يُقال: في تفسير مراد الإمام مالك.

  14. #74

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    اشتراط انقراض العصر في حجية الإجماع:

    [المتن]:

    [وانقراض العصر شرط في ظاهر كلامه، وقد أومأ إلى خلافه، فلو اتفقت الكلمة في لحظة واحدة فهو إجماع عند الجمهور، واختاره أبو الخطاب(1)].

    [الشرح]:

    انقراض العصر هل هو شرط أو لا؟ يعني هل يُشترط في انعقاد الإجماع أن يموت كل المتفقين؛ فحينئذ نحتج بالإجماع؟ أو بمجرد الاتفاق حصل الإجماع؟

    هذه مسائل عقلية ما أظن أن لها وجودا في الواقع، يعني إذا قيل: (اتفاق علماء العصر) كيف يتفق هؤلاء؟ متى نحكم بأنهم اتفقوا؟ بمجرد حصول النطق أو لا بد أن يتفقوا ثم يموتوا؛ لأنه يحتمل أن يرجعوا عن أقوالهم؟

    فيه خلاف.

    (وانقراض العصر شرط في ظاهر كلامه)
    : يعني في كلام الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-؛ أي أن يموت أهل الإجماع وينقرض عصرهم، ثم يبدأ الاحتجاج بإجماعهم، لماذا؟

    قالوا: لاحتمال رجوع البعض عن اجتهاده ما دام حيًا.

    (وقد أومأ إلى خلافه):
    أشار الإمام أحمد -رحمه الله- إلى خلاف كون انقراض العصر شرطًا، وهو أنه ليس بشرط، وهذا هو الصحيح؛ أنه لا يعتبر انقراض العصر شرطًا.

    (فلو اتفقت الكلمة في لحظة واحدة فهو إجماع عند الجمهور):
    فيصير حجة على من أراد الرجوع منهم، لو اتفقوا في لحظة واحدة حينئذ صار الإجماع منعقدا؛ فصار حجة على كل واحد منهم، فهل يجوز له أن يرجع عن قوله؟

    الجواب: لا؛ لانعقاد الإجماع في اللحظة الأولى، منذ اتفقت الكلمة حصل الإجماع فصار حجة، فحينئذ لا يجوز لواحد أن يرجع، أما على القول الأول تعذر حصول الإجماع حتى في عهد الصحابة وخاصة على القول بأن التابعي معتبر، فحينئذ إذا اتفقوا ننتظر حتى يموتوا، فيأتي تابعي جديد فيتعلم فيكون أهلا للاجتهاد فيُخالف، إذًا نقض الإجماع على اشتراط انقراض العصر لا يمكن أن يتصور، فهو إجماع عند الجمهور؛ لأن انقراض العصر ليس بشرط.

    (واختاره أبو الخطاب):
    لماذا؟

    لأن الأدلة الدالة على حجية الإجماع ليس فيها ذكر اشتراط انقراض العصر، فهي مطلقة، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} حصل الاتفاق، فحينئذ اشتراط انقراض العصر يحتاج إلى دليل، ولا دليل، فيبقى الأمر على أنه لا يشترط انقراض العصر، فبمجرد اتفاق الكلمة انعقد الإجماع فصار حجة عليهم هم أولا، ثم على غيرهم، فلا يجوز حينئذ لأحد أن يرجع عن قوله.

  15. #75

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    حكم إحداث قول ثالث:

    [المتن]:

    [وإذا اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- على قولين لم يجز إحداث قول ثالث عند الجمهور، وقال بعض الحنفية، والظاهرية: يجوز(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وإذا اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- على قولين لم يجز إحداث قول ثالث عند الجمهور، وقال بعض الحنفية والظاهرية: يجوز):

    (وإذا اختلف الصحابة -رضي الله عنهم- على قولين لم يَجُز):
    لمن بعدهم.

    (إحداث قول ثالث عند الجمهور):
    إذا اختلف الصحابة في مسألةٍ ما على قولين، قيل: مُباح، وقيل: مكروه، هل يجوز أن يأتي ثالث بعدهم فيقول: لا، بل مُحرّم؟

    نقول: لا يجوز؛ لأن اتفاقهم وإجماعهم على القولين حصر للحق في أحد القولين، وإذا جُوِّز أن يكون الحق في غير القولين جاز أن يخلو ذلك العصر من ناطق بالحق، وهذا باطل.

    (وقال بعض الحنفية والظاهرية: يجوز):
    لأن المختلفين لم يُصرحوا بتحريم قول ثالث؛ فجاز إحداثه، والأول هو الأصح؛ أنه لا يجوز.

    لكن اختلفوا في إحداث قول متوسط؛ يعني يكون القول الأول بالمنع، والثاني بالجواز، فيأتي ثالث يأخذ بعض هذا القول وبعض القول الآخر هل يجوز أو لا؟

    هذا محل خلاف، مس الذكر ناقض للوضوء، مس الذكر لا ينقض الوضوء، قولان متقابلان، قال بهذا بعضهم، وقال بهذا بعضهم، جاء الثالث بعدهم قال: إن مس بشهوة فناقض وإلا فلا، هذا القول الثالث بعض هذا وبعض هذا، قول متوسط أخذ من هذا وأخذ من هذا، وهذه طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، كثيرًا ما يقول: "هذا بعض قول الإمام أحمد، وهذا قول بعض الإمام أبي حنيفة مثلا"، وهذه مسألة فيها نزاع.

  16. #76

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    الإجماع السكوتي تعريفه وحكمه:

    [المتن]:

    [وإذا قال بعض المجتهدين قولا وانتشر في الباقين وسكتوا، فعنه: إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية(1)، وقيل: حجة لا إجماع(2)، وقيل: لا إجماع ولا حجة(3)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وإذا قال بعض المجتهدين قولا وانتشر في الباقين وسكتوا، فعنه: إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية):

    هذا شروع منه في بيان الإجماع السكوتي، الكلام السابق في الإجماع الصريح، لا بد من الاتفاق قولا؛ أن ينص كلُ عالم من المتفقين على الحكم صراحة.

    (وإذا قال: بعض المجتهدين قولا)
    : "المجتهدين" قيد في قوله: "علماء العصر"، أو "أهل الحل والعقد".

    (قولا وانتشر في الباقين وسكتوا):
    إذًا لم يتكلم الكل، "الباقين" مراده هنا من؟

    باقي المجتهدين؛ لأنه قال: "بعض المجتهدين".

    (إذا قال: بعض المجتهدين):
    أين البعض الآخر؟ سكتوا.

    (وانتشر في الباقين وسكتوا):
    لكن مع قدرتهم على الاعتراف أو الإنكار، لو أرادوا أن ينكروا على هذا القول لأنكروا، أو أن يقولوا بما قال به ذاك البعض لقالوا، أما إذا وُجد خوف أو نحوه فلا اعتبار حينئذ.

    (فعنه)
    : عن الإمام أحمد.

    (إجماع في التكاليف، وبه قال بعض الشافعية)
    : أي حجة قطعية في الأحكام المتعلقة بالتكليف، وبعضهم يجعل "في التكاليف" هذا قيدا في الإجماع السكوتي؛ أنه لا عبرة به، أو أن الخلاف في الأحكام الشرعية الفرعية، أما العقدية فلا، لا بد من الإجماع الصريح.

    إذًا عنه أنه حجة قطعية في التكاليف، وإذا لم يكن الحكم تكليفيًا لم يكن إجماعًا ولا حجة، لماذا؟

    قالوا: لأن الساكت هنا يُنزَّل منزلة الراضي الموافِق، وإن كان الأصح أنه لا يُنسَب لساكت قول.

    (2)
    (وقيل: حجة لا إجماع):

    (وقيل: حجة):
    أي حجة ظنية.

    (لا إجماع):
    يمتنع مخالفته؛ لأنه إذا قيل: إجماع؛ فإنه لا يجوز مخالفته، وإذا قيل: حجة، لا إجماع؛ صار الحجة يجوز مخالفتها، والإجماع لا يجوز مخالفته.

    هنا قال: (حجة لا إجماع)، السابق: (فعنه إجماع)؛ وعليه فهو حجة، ولم يصرح بالحجة؛ لأن كل إجماع حجة.

    هنا قال: (وقيل: حجة): أي الإجماع السكوتي حجة ظنية، وليس بإجماع؛ لأن الحجة يجوز مخالفتها، يجوز للإنسان أن يُخالف، وأما الإجماع فلا يجوز مخالفته؛ لذلك فُرّق بينهما.

    لماذا اعتبر حجة وليس إجماعا؟

    لعدم تحقق حقيقة الإجماع التي هي "اتفاق"، ولا بد من الاتفاق، والاتفاق الحقيقي إنما يكون بالتصريح؛ أن ينطق ويتكلم كل عالم مجتهد بالحكم، وهنا لم يوجد هذا القيد؛ لذلك صار حجة فقط، لكن لما كان لرجحان دلالة السكوت على الموافقة اعتُبر حجة ظنية؛ يعني لما ورد إيهام أن سكوت البعض للرضا -والرضا هو الظاهر، وهو الراجح- اعتبر حجة ظنية، لا إجماع، إذًا نُفي الإجماع لعدم تصريح الباقين بالحكم الشرعي، واعتبر حجة؛ لأن الظاهر المتبادر أن سكوت الباقين إنما سكتوا للرضا والموافقة، ولذلك فُصِّل بين القولين.

    (3)
    (وقيل: لا إجماع ولا حجة):

    لماذا؟

    لأنه لا يُنسَب لساكت قول.

    لأن سكوت البعض له احتمالات، يحتمل أنه سكت خوفا، أو جُبنا، أو خجلا، يكون المتكلمون كبارا فسكت هو من باب الحياء، ويحتمل أنه لم يبلغه القول، أو أنه لم يعلم حكم المسالة، يحتاج إلى بحث، فالسكوت لا يدل على الرضا المطلق، ولا يدل على الموافقة، بل فيه احتمالات.

  17. #77

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    مستند الإجماع:

    [المتن]:

    [ويجوز أن ينعقد عن اجتهاد، وأحاله قوم، وقيل: يتصور وليس بحجة(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ويجوز أن ينعقد عن اجتهاد، وأحاله قوم، وقيل: يتصور وليس بحجة):

    الإجماع لا بد وأن يكون مستندا إلى نص من كتاب أو سنة، هذا شرط الإجماع، هل يجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد؟

    قالوا: يجوز، هنا قال: نعم، وهذا مذهب الأكثرين؛ أن ينعقد الإجماع لا عن دليل من كتاب أو سنة، لماذا؟

    قالوا: لأنه وقع وحصل، أجمعوا على تحريم شحم الخنزير قياسًا على لحمه، والقياس هذا من باب الاجتهاد والرأي، هذا قول.

    (وأحاله قوم):
    يعني منعوه، قالوا: لا يُتصور عقلا، أحالوه من العقل، قالوا: لا يجوز عقلا أن ينعقد عن اجتهاد؛ يعني لا يُتصور الإجماع عن اجتهاد وقياس؛ لأن القياس مختلف في ثبوته أصلا فكيف يكون الأصل مختلفًا فيه والفرع متفقًا عليه؟! هذا لا يُتصَور.

    (وقيل: يتصور وليس بحجة):
    لأنه اجتهاد ظني، والإجماع دليل قطعي.

    والصواب: الأول؛ أنه يجوز، وهو مذهب الأكثرين؛ لأنه لا يمتنع اتفاق الأمة على حصول ظني الحكم بالقياس، ثم تُجمع على ذلك الحكم؛ يعني يحصل قياس، ثم ما أفاده القياس يكون حكمًا ظنيًا، ثم ينعقد الإجماع على وجود ذلك الحكم الظني الذي حصل بالقياس.

  18. #78

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    هل الأخذ بأقل ما قيل تمسك بالإجماع:

    [المتن]:

    [والأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والأخذ بأقل ما قيل ليس تمسكا بالإجماع):

    يعني إذا اختُلف في مسألةٍ ما؛ قال بعضهم: إزالة النجاسة لا تكون إلا بثلاث، وقال آخرون: بسبع، إذًا من نص على الثلاث نفى الزيادة، ومن قال بسبع قال بالثلاث ثم زاد، إذا تركنا ما زاد على الثلاث وأخذنا بالثلاث -الوسط بين القولين- إذًا هل يكون إجماعا أو لا؟

    لا يكون إجماعًا؛ لجواز مخالفته، لو قيل: إن الثلاث قد أُجمع عليها؛ حينئذ لا يجوز أن يقول قائل بالسبع، فإذا جُوِّز أن يقول: بالسبع دلّ على أنه لا إجماع؛ لأنه لو حصل الإجماع صار حجة، وصار دليلا قاطعًا.

  19. #79

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    قول الخلفاء الأربعة ليس بإجماع:

    [المتن]:

    [واتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع(1)، وقد نقل عنه: لا يُخْرج عن قولهم إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (واتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع):

    لأنهم بعض الأمة، وشرط الإجماع أن يكون اتفاق كل الأمة، والعصمة المرتبة على الإجماع مقرونة بالكل لا بالبعض.

    (2)
    (وقد نقل عنه: لا يُخْرج عن قولهم إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع):

    (لا يُخرَج عن قولهم):
    هذا معروف عن الإمام أحمد، وجعله ابن القيم -رحمه الله- من أصول مذهب الإمام أحمد؛ أنه لا يعدل عن قول، أو لا يأتي بمسألة ليس للصحابة فيها قول، فإذا وُجد قول فيها للصحابة فلا يعدل عنهم، ولكن الظاهر هنا أنه أراد به الخلفاء الأربعة دون غيرهم؛ لذلك قال: (لا يُخرَج عن قولهم)؛ أي الأربعة.

    (إلى قول غيرهم، وهذا يدل على أنه حجة لا إجماع):
    إذًا لا يُعتَبر اتفاق الأربعة الخلفاء إجماعا.

    فإذا قيل: ليس بإجماع، لكن ليس المراد أنه من السهولة أن يُخالَف، لا، إذا وجد حُكم اتفق عليه الأربعة فهو أولى بالاتباع.

  20. #80

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    الاستصحاب تعريفه، وحكمه:

    [المتن]:

    [وأما الأصل الرابع ـ وهو دليل العقل في النفي الأصلي ـ فهو : أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف، فيستمر حتى يرد غيره ويسمى استصحابا، وكل دليل فهو كذلك، فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ، والملك حتى يرد المزيل، والنفي حتى يرد المثبت، ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك(1)، وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم، فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحابا للإجماع فـفاسد عند الأكثرين، خلافا لابن شاقلا، وبعض الفقهاء، فهذه الأصول الأربعة لا خلاف فيها(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وأما الأصل الرابع، وهو دليل العقل في النفي الأصلي، فهو : أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف، فيستمر حتى يرد غيره ويسمى استصحاباً، وكل دليل فهو كذلك، فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ، والملك حتى يرد المزيل، والنفي حتى يرد المثبت، ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك):

    انتقل إلى الأصل الرابع، وهو دليل العقل في النفي الأصلي، وهو أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف حتى يرد غير ذلك.

    وقد ذكرنا أن الأصول المتفق عليها أربعة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والنفي الأصلي، والمراد به استصحاب العدم.

    (وأما الأصل الرابع):
    من الأصول المتفق عليها.

    (وهو دليل العقل في النفي الأصلي):
    هل يثبت بالعقل أحكام شرعية؟

    الجواب: لا، ليس هذا المراد، وإنما مرادهم أن الأحكام الشرعية إثباتها؛ إما بالإثبات، أو بالنفي؛ لأن النفي حكم كما أن الإثبات حكم.

    حينئذ نقول: الأحكام الشرعية إما من جهة الإثبات أو من جهة النفي، الإثبات لا يكون إلا بدليل شرعي، لا تثبت عبادة إلا بدليل شرعي، لكن النفي للعقل فيه مدخل؛ يعني يُحكَم بدلالة العقل الذي يسمى بالبراءة الأصلية على نفي الأحكام قبل ثبوتها، فيقول لك: الأصل عدم التكليف؛ لأنه كما سبق أن العلم بالمُكلف لا بد أن يكون ثابتًا، فإذا لم يكن ثابتًا فلا تكليف، فدلّ العقل على نفي التكليف؛ إذًا للعقل مجال في نفي الأحكام الشرعية التي لم تكن ثابتة بالأصالة، أما ثبوتها فيحتاج إلى دليل؛ لأن الثبوت إيجاد، وهذا لا بد من دليل، والنفي عدم، وإذا كان موافقًا للأصل فلا إشكال.

    أما إذا ورد النفي بعد الإثبات فلا عبرة بالنفي؛ يعني لو ثبت أن الصلوات خمس، فقال قائل: ليست بخمس.

    نقول: نفيه هذا لا يُعتبَر؛ لأن الحكم ثبت.

    لكن لو قال: لا صلاة سادسة واجبة على المكلفين كل يوم.

    نقول: وجوب صلاة سادسة هل ثبت أو لا؟

    لم يثبت، إذًا نفيه بالعقل؛ نقول: هذا هو الاستصحاب الذي سيذكره المصنف هنا، وهو دليل العقل في النفي الأصلي المسمى عندهم بالاستصحاب؛ أي البراءة الأصلية؛ بمعنى أن العقل دلّ على براءة الذمة من الواجبات قبل مجيء الشرع.

    (فهو: أن الذمة قبل الشرع بريئة من التكاليف):
    ذمة المكلف قبل الشرع، قبل إثبات الأحكام ونزول الشريعة بريئة ومنفكة من التكاليف مطلقًا، فلا إيجاب إلا بدليل، ولا تحريم إلا بدليل، ولا كراهة إلا بدليل، ولا توجب أي عبادة إلا بدليل؛ لأن الأصل عدم التكليف، وأن الذمة قبل تعلق الشريعة بالمكلفين بريئة من التكاليف كلها بلا استثناء.

    (فيستمر حتى يرد غيره):
    أي فيستمر النفي الأصلي حتى يرد غيره، وهو الدليل الشرعي الناقل عن الأصلي، فنقول: الأصل عدم إيجاب صلاة مطلقًا في ذمة المكلف، فيستمر هذا النفي حتى يثبت أن ثم خمس صلوات واجبة على المكلف في اليوم والليلة، فهو دليل شرعي ناقل عن البراءة الأصلية.

    (ويُسمى استصحابًا):
    يسمى الدليل العقلي في النفي الأصلي استصحابًا، استفعال من طلب الصحبة؛ كالاستغفار طلب المغفرة.

    واصطلاحًا: استدامة إثبات ما كان ثابتًا أو نفي ما كان منفيًا، هكذا عرّفه ابن القيم -رحمه الله-.

    استدامة إثبات ما كان ثابتًا، فالأصل العموم، الأصل أن اللفظ عام يشمل كل الأفراد ولا يُخرَج عنه إلا بدليل التخصيص، ولا دليل، إذًا الإثبات أو العدم هنا الأصل، الأصل الإثبات؛ استدامة إثبات ما أثبته الدليل حتى يرد المخصص، أو نفي ما كان منفيًا، الأصل عدم وجوب صلاة سادسة فيبقى هذا الأصل حتى يرد دليل يثبت الصلاة السادسة.

    (وكل دليل فهو كذلك):
    كل دليل يصلح أن يكون مُستصحَبًا، كل الأدلة الشرعية، كل دليل يُتصَوّر الاستصحاب فيه.

    (فالنص حتى يرد الناسخ):
    يعني فالأصل الإحكام ولا نسخ، إذا تردد وصار الاحتمال بين أن يكون الحكم منسوخًا أو لا؛ نقول: الأصل عدم النسخ، هذا استصحاب للدليل الشرعي حتى يرد الناقل، ولا يوجد ناقل بالحكم؛ بأن الحكم منسوخ هنا.

    (والعموم حتى يرد المُخَصِّصُ):
    الأصل العموم حتى يرد المُخصص، اللفظ العام يُحمَل الحكم المُعلَق عليه على كل فرد فرد من أفراد موضوعه، ولا يُخرَج فرد واحد إلا بدليل يدل على التخصيص، لو احتمل التخصيص؛ نقول: الأصل بقاء العموم على عمومه حتى يرد المُخصص، هذا استصحاب للدليل الأصلي.

    (والملك حتى يرد المزيل):
    والأصل المُلك حتى يرد المزيل؛ يعني إذا كانت السلعة في يد المكلف نقول: الأصل أنه مالك لها ولا يثبت عكس ذلك؛ عكس الملك إلا بدليل؛ إما بإثبات أنه وهبها أو باعها أو أجّرها .. إلخ، فالأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا كان هو مالكًا للسعلة فنقول: الأصل أنه مالك لها، ولا تزول يده عنها إلا بدليل، ومثله الطهارة، نقول: الأصل الطهارة إذا شك في الحدث؛ استصحاب الأصل، وهو أنه متطهر، وإذا كان الأصل الحدث وشك في الطهارة فنقول: الأصل معتمد، وهو استصحاب الحدث.

    (والنفي حتى يرد المُثبِت):
    الأصل النفي، لا صلاة سادسة، لا إيجاب صوم غير رمضان حتى يرد المُثبت، هذه أمثلة ذكرها المصنف هنا لتدل على أن الاستصحاب أربعة أنواع:

    الأول:
    استصحاب البراءة الأصلية، ومثّل له بقوله: (والنفي حتى يرد المُثبت)، هذا هو الأصل، استصحاب البراءة الأصلية، وهو المراد عند الإطلاق.

    الثاني:
    استصحاب الدليل الشرعي الأصلي حتى يرد الناقل، وإذا أُطلق الاستصحاب أيضًا انصرف إلى هذا، ومثَّل له بقوله: (فالنص حتى يرد الناسخ، والعموم حتى يرد المُخصص).

    الثالث:
    استصحاب الوصف المُثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه، استصحاب الوصف المُثبت للحكم -كالملك- هذا مثبت للحكم، والطهارة المُثبتة للحكم، والحدث المُثبت للحكم، الأصل استصحاب هذا الوصف حتى يرد الناقل.

    الرابع:
    وسيذكره المصنف فيما يأتي: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، إذًا أربعة أنواع للاستصحاب ذكرها في هذه الأمثلة السابقة.

    (ووجوب صلاة سادسة وصوم غير رمضان يُنفى بذلك)
    يعني بالأخير. قال:

    (والنفي حتى يرد المُثبت)
    : مثل ماذا؟

    (وجوب صلاة سادسة):
    الأصل عدم الوجوب، حينئذ يُستصحَب عدم إيجاب صلاة سادسة، سادسة يعني يومية على الخمس صلوات، وأما النذر ونحوه فهذا لا يكون يوميًا، ولا يُقال: صلاة سادسة، سادسة على ماذا؟ أين الخامسة والرابعة؟ المراد بها الخمس صلوات؛ لأنها واجبة بإجماع، هل هناك صلاة سادسة؟ لأنا إذا قلنا: بوجوب الوتر صار الإيجاب ستا لا خمسا؛ لأنه لو ترك الوتر لصار آثمًا، ولو ترك فرضا من الفروض الخمس صار آثما، وإن كان يختلف في بعض الأحكام.

    (ووجوب صلاة سادسة):
    كمن أوجب صلاة الوتر، للنافي أن يقول: لا تجب فيستصحب العدم.

    (وصوم غير رمضان)
    : يُنفى بذلك أيضًا، إيجاب صوم مستمر على كل المكلفين غير شهر رمضان نقول: يُنفى بذلك.

    (2)
    (وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم، فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحابا للإجماع فـفاسد عند الأكثرين، خلافا لابن شاقلا، وبعض الفقهاء):

    (وأما استصحاب الإجماع)
    : وهو النوع الرابع من أنواع الاستصحاب.

    (وأما استصحاب الإجماع في مثل قولهم):
    أي في محل النزاع.

    (مثل قولهم: الإجماع على صحة صلاة المتيمم)
    : المتيمم الذي فقد الماء حسًا أو حكما أجمع العلماء على أنه إذا تيمم صحت صلاته ابتداء وانتهاء؛ لعدم وجود الماء، فله أن يشرع في الصلاة بالتيمم، هذا بالإجماع، لكن لو رأى الماء في أثناء الصلاة فما الحكم؟

    اختلف العلماء، هنا قال:

    (الإجماع على صحة صلاة المتيمم)
    : هذا مُجمَع عليه، ابتداء الشروع في الصلاة متيممًا عند عدم وجود الماء هذا مُجمَع عليه، لكن إذا وُجد الماء في أثناء الصلاة نقول: هذه مسالة أخرى؛ ولذلك وقع النزاع فيها؛ إذ لو كان الإجماع الأول يدل على الثاني لما وقع نزاع.

    (فإذا رأى الماء في أثناء الصلاة لم تبطل استصحابًا للإجماع):
    من رأى استصحابًا للإجماع استصحبه.

    ولكن هذا غير صحيح؛ لأن الإجماع إنما دل على الدوام فيها حال عدم الماء؛ يعني الإجماع على صحة الصلاة المتيمم بشرط عدم وجود الماء، فالإجماع مخصوص بحالة معينة، وليس مطلقًا أن المتيمم تصح صلاته مطلقًا؛ كل من تيمم عند عدم وجود الماء فصلاته صحيحة، ولذلك لو تيمم فوُجد الماء قبل الشروع في الصلاة بطل تيممه، مع أنهم أجمعوا على أن له أن يشرع في الصلاة، كذلك لو وجد الماء بعد شروعه في الصلاة الإجماع الأول لا يشمل الحالة الثانية؛ لأن إجماعهم مُقيَّد بعدم وجود الماء، فإذا وُجد الماء الإجماع لم ينعقد حينئذ، ففرق بين العدم والوجود، فلا يقاس الوجود على العدم.

    بعض أهل العلم استصحب ورأى أنه يصح استصحاب الإجماع فاستصحب الإجماع الأول على الحالة الثانية فصحح الصلاة مع وجود الماء في أثناء الصلاة، ومن قال: بالمنع، قال: بطلت صلاته؛ لأنه وُجد الماء، إنما جاز التيمم له عند عدم الماء.

    (ففاسد عند الأكثرين)
    "ففاسد"، الفاء هذه واقعة في جواب "أما"، (وأما استصحاب الإجماع يعني في محل النزاع، (ففاسد عند الأكثرين)؛ يعني الاستصحاب فاسد؛ لأن الكلام ليس في مسألة الصلاة والتيمم؛ لأن هذه مسألة فرضية، ليس البحث فيها، وإنما هي مثال لما استصحب فيه بعض المجتهدين الإجماع في محل النزاع؛ نقول: الاستصحاب فاسد بقطع النظر عن ماهية وحقيقة المسألة.

    (ففاسد عن الأكثرين):
    يعني عند الجمهور؛ لأن فرقًا بين الحالين، الإجماع انعقد على حال عدم الماء، ومحل النزاع فيما إذا وُجد الماء، وفرق بين الوجود والعدم.

    (خلافًا لابن شاقْلا
    ): "شاقلا" بإسكان القاف وفتح اللام، وبعضهم يقرأها شاقّلا.

    (وبعض الفقهاء):
    في أنه حجة، وابن القيم يميل إلى هذا؛ إلى أنه حجة.

    (خلافًا لابن شاقلا وبعض الفقهاء):
    في أن استصحاب الإجماع حجة؛ لأنه يحسم الخلاف، فيستحيل وقوعه، فالإجماع انعقد على صحة صلاة المتيمم حالة الشروع، والدليل الدال على صحة الشروع دال على دوامه إلا بدليل؛ يعني قلبوا القضية.

    والصحيح أن نقول: الصلاة باطلة؛ لأن الإجماع انعقد في حالة غير حالة الوجود.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •