تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 80

الموضوع: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

  1. #21

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تقسيم الخبر باعتبار وصوله إلينا:

    (1) المتواتر:


    [المتن]:

    [والخبر ينقسم إلى: تواتر ، وآحاد(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والخبر ينقسم إلى: تواتر ، وآحاد):

    (والخبر):
    الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته.

    (ينقسم إلى متواتر وآحاد):
    وهذا مجرد اصطلاح، وإنما يُنظر ويناقش في الاصطلاح من حيث ما يترتب عليه من الأحكام، وكل اصطلاح يُنظَر فيه بحد ذاته، بقطع النظر عمن أنشأ ذلك الاصطلاح، أو عمن أتى به، فلا داعي أن نقول: التواتر والآحاد قال به المعتزلة، ثم نقول: كل ما قالت به المعتزلة فهو باطل، بل نقول: التواتر والآحاد من حيث وجودهما لا شك في وجودهما، لكن لا يُشترط أن يقيّد بما قيده به المعتزلة ونحوه، ولذلك من ينسب لابن القيم -رحمه الله تعالى– أنه أنكر وجود التواتر فقد أخطأ، ابن القيم -رحمه الله تعالى– أنكر ترتيب الحكم المرتّب على التواتر والآحاد؛ يعني من يقول: التواتر: أفاد القطع، والآحاد: يفيد الظن، إذًا قسموا السنة إلى متواتر وآحاد، ثم المتواتر يفيد اليقين، والآحاد لا يفيد اليقين، بل يفيد الظن، هذا الحكم دخيل، وهو الذي حُكم بكونه بدعة، وجاء به المعتزلة بناء على أن أكثر أحاديث الصفات والرؤيا والمعاد .. إلخ آحاد، ونفوا أن تنسب تلك الأحاديث للنبي -صلى الله عليه وسلم- بناء على أنها تفيد الظن، والاعتقاد يقولون: لا يُثبَت إلا بقاطع.

    نقول: هذا التفصيل مُحدَث، والقول بأن أحاديث الآحاد أو خبر الواحد لا يفيد إلا الظن هذا أيضا قول محدث، والقول بأنه لا يُقبل في العقائد هذا قول محدث، لكن وجود نفس التواتر ونفس الآحاد، والآحاد أنه ما لم يبلغ حد التواتر هذا موجود، البخاري -رحمه الله تعالى- في جزء القراءة حكم على حديث «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» بأنه متواتر، قال: تواتر، هكذا أطلق اللفظ تواتر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والبخاري لم يتأثر بالمعتزلة، وإنما مفهوم التواتر حينئذ يُقيّد أو يُنظَر فيه، أما إنكار وجود المتواتر عند أهل الحديث نقول: هذا ليس بصحيح، وابن تيمية -رحمه الله تعالى– أنكر كثيرا من المسائل الدخيلة على الدين وخاصة ما ينسب لأهل الحديث ولم يتعرض لهذا؛ بل يقول: "هذا متواتر تواترا معنويا"، "وقد تواترت فضائل أبي بكر -رضي الله عنه- تواترا معنويا"، ويقسم التواتر إلى لفظي ومعنوي، ويثبت إفادة الحكم أو اليقين على التواتر، ويناقش في مسائل الآحاد، ولم يرد عنه -رحمه الله تعالى- أنه أنكر وجود المتواتر والآحاد.

    إذًا قوله: (والخبر ينقسم إلى متواتر وآحاد): لا إشكال فيه، وهذا مجرد اصطلاح، ونقول: العبرة بما اصطلح عليه أهل الحديث وأطلقوه في مصنفاتهم.

  2. #22

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع تقسيم الخبر باعتبار وصوله إلينا:

    (1) المتواتر:


    [المتن]:

    [فالتواتر: إخبار جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (فالتواتر: إخبار جماعة لا يمكن تواطؤهم على الكذب):

    أراد أن يبين لنا التواتر في الاصطلاح، وهذه المسائل -الكلام في الأخبار، والتواتر، والمراسيل، والصحابة، ونحوهم- الأصل أنها تؤخذ من أهل الحديث، وإنما تذكر هنا لأن أهل الأصول يريدون أن يجمعوا كل ما يتعلق بأصول الفقه؛ لذلك يأتون بمباحث من السنة، ومباحث من اللغة، ومباحث من المنطق إلخ، يريدون أن يكون الكتاب جامعا، أن يغنوا طالب العلم النظر في تلك الكتب؛ يعني ما يحتاجه الأصولي من السنة هو الذي يذكره لك الآن، وما يحتاجه من اللغة هو الذي يذكره، لكن نقول: لا، هذه المقتطفات التي تكون في أصول الفقه لا تسمن ولا تغني من جوع، لا بد أن يكون الطالب راجعا إلى مظانها في فنونها، أما أن تأخذ أصول الفقه بآراء الجويني والغزالي ونحوهما ممن تأثر بعلم الكلام وهكذا فليس بصواب.

    (فالتواتر)
    : المراد به في اللغة: التتابع، والتتابع: مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما، لا بد أن يكون بينهما فترة، فإن لم يكن لا يطلق عليه أنه متواتر، {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا}[المؤمنون44]؛ أي رسولا بعد رسول بفترة بينهما، ولا يفهم {تترا} أنهم متتالون، لا، إنما مجيء رسول بعد رسول بفترة بينهما.

    (فالتواتر إخبار
    جماعة): إذًا إخبار؛ لأنه خبر، متواترٌ خبر.

    (إخبار جماعة):
    ليس واحدا، ولا اثنين، بل ثلاثة فأكثر، لا بد أن يكونوا جماعة. وهذه الجماعة تكون متفرقة.

    (لا يمكن):
    يعني يستحيل.

    (تواطؤهم):
    مأخوذ من التواطؤ؛ يعني توافقهم، "أرى رؤياكم قد تواطأت"؛ يعني توافقت. فـ (تواطؤهم): بمعنى توافقهم.

    (على الكذب):
    الاستحالة المنفية هنا أن تكون عادة لا عقلا؛ لأن العقل لا يمنع أن يجتمع عدد يفيد التواتر -كالعشرين مثلا- فيتفقوا على خبر معين فيظنه الظان أنه متواتر، أما العادة -في القديم- أن يروي شخص في المغرب، وشخص آخر في المشرق، وشخص آخر في أوروبا، ونحوها، يُروى خبر واحد، العادة تمنع أن يتفقوا فيما بينهم، هذا يستحيل.

  3. #23

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع المتواتر:

    شروط المتواتر:

    [المتن]:

    [وشروطه ثلاثة: إسناده إلى محسوس، كـ سمعت أو رأيتـ، لا إلى اعتقاد(1)، واستواء الطرفين والواسطة في شرطه(2)، والعدد، فقيل: أقله اثنان، وقيل: أربعة، وقيل: خمسة، وقيل: عشرون، وقيل: سبعون، وقيل غير ذلك(3). والصحيح: لا ينحصر في عدد، بل متى أخبروا واحدا بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حدّ لا يمكن تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم، وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم؛ لِقطعنا بوجود مصر(4)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وشروطه ثلاثة: إسناده إلى محسوس؛ كـ سمعت أو رأيت ، لا إلى اعتقاد):

    يعني متى يعتبر هذا المعنى؛ بأنه متواتر اصطلاحا وإن كان في المعنى أنه متواتر في اللغة؟

    (وشروطه ثلاثة):
    يعني المتفق عليها في الجملة.

    الشرط الأول:
    (إسناده إلى محسوس؛ كـ سمعت، أو رأيت، لا إلى اعتقاد): يعني أن يكون منتهى الخبر أمرا محسوسا، لا إلى الاعتقاد والعلم؛ لأن الأمر المحسوس هو الذي يمكن أن يُتَفق عليه، نرى الشمس طالعة فنخبر أن الشمس طالعة، هذا لا يمكن أن يقع فيه خطأ، والأمر المعتقد أو المعلوم يمكن أن يقع فيه الخلل والوهم والخطأ، ويمكن أن تتفاوت فيه الأشخاص.

    (إسناده)
    : يعني إخباره.

    (إلى شيء محسوس):
    يُدرَك بإحدى الحواس.

    (كـ سمعت، أو رأيت، لا إلى اعتقاد)
    : يعني فإن كان إخبارهم عن علم واعتقاد لا يكون متواترا؛ لأن المتواتر يفيد العلم اليقيني الضروري، فحينئذ لا بد أن يكون المنتهى مما يتفق عليه، لا مما قد يتواطأ بعضهم في وضعه.

    (2)
    (واستواء الطرفين والواسطة في شرطه):

    هذا هو الشرط الثاني، في الأول قال: (إخبار جماعة)، والسند معروف أن له أول، وله أثناء، وله آخر، إخبار الجماعة هل هو مشترط في أول السند، ثم يُتساهل فيه؟ أو في آخر السند؟ أو في الأثناء؟ قال:

    (واستواء الطرفين):
    يعني أن تكون الجماعة مستوية في أول السند، وفي آخره، وفي أثنائه؛ بحيث إنه -كما قيّده ابن حجر في شرح النخبة- لا يقل عن العدد الذي اشترط في حد التواتر، وليس المراد ألا يزيد، لا، ألا يقل، فإذا قيل مثلا: يشترط إخبار عشرة، أقل ما يفيد من العدد: عشرة، نقول: لا بد أن يكون الراوي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عشرة؛ لأن طبقة الصحابة داخلة، آخر الإسناد عند الصحابي -رضي الله عنهم- لا بد أن يكون عشرة رأوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعله، أو عشرة سمعوا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول، ثم يأخذ عشرة عنهم، ثم عشرة، ثم عشرة إلى البخاري، لو نقص عند من يشترط العشرة -صار تسعة في إحدى الطبقات- انتفى كونه متواترا.

    نقول: وهذا لا يكاد أن يكون له وجود، لكن أهل الكلام يثبتون هذه الشروط، لذلك النزاع يكون في الشروط، لا في ثبوت أصل التواتر.

    (والواسطة)
    : يعني ما بينهما.

    (في شرطه)
    : شرطه هذا مفرد مضاف فيعم كل شرط، وبعضهم قيّده بالعدد في الأخير، لكن الصواب أن المراد عندهم المراد به استواء الطرفين والواسطة في جميع الشروط؛ يعني بلوغ الرواة في الكثرة إلى حد يمتنع معه تواطؤهم على الكذب، وأن يكون إخبارهم عن علم لا عن ظن، وأن يكون علمهم مستندا إلى الحس لا إلى الدليل العقلي.

    (3)
    (والعدد، فقيل: أقله اثنان، وقيل: أربعة، وقيل: خمسة، وقيل: عشرون، وقيل: سبعون، وقيل غير ذلك):

    هذا هو الشرط الثالث؛ يعني العدد الكثير؛ لأنه قال: (إخبار جماعة): إذًا لا بد أن يكون جماعة، وأقل الجمع ثلاثة، ثم اختلفوا هل يُعَين عدد معين أو لا؟ هل نقول: لا بد من عدد معين إن وُجد أفاد التواتر أو لا؟

    فيه خلاف، أكثر الأصوليين وبعض متأخري المحدثين على التقييد، لا بد أن يكون عدد معين، ثم اختلفوا في التحديد، هنا قال:
    (فقيل: أقله اثنان): لأن أقل الشهود اثنان، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ منكم}[الطلاق2]، حملت الرواية على الشهادة.

    (وقيل: أربعة):
    أقل ما يكون في السند أربعة رواة؛ باعتبار أعلى الشهادات؛ كما في القذف ونحوه.

    (وقيل: خمسة):
    ليزيد على الشهادة بواحد.

    (وقيل: عشرون):
    استنادا إلى قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون}[الأنفال65].

    (وقيل: سبعون):
    {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا}[الأعراف155].

    (وقيل غير ذلك):
    من الأعداد، قيل: عشرة، وقيل: اثنا عشر، وقيل: أربعون .. إلخ، وكلها أقوال ضعيفة، وقد ذكر السيوطي هذا في ألفيته:

    وما رواه عدد جم يجب
    إحالة اجتماعهم على الكذب
    فالمتواتر، وقوم حددوا
    بعشرة، وهو لدي أجود
    عند السيوطي الأجود أن يُحد بعشرة.

    والقول باثني عشر أو عشرينا
    يحكى وأربعين أو سبعينا
    إذًا قيل أقوال كثيرة، كلٌ نظر إلى دليلٍ من الشرع رُتِّب على عدد معين؛ قد يكون ثم مناسبة مختصة بتلك الواقعة، أو ثم أنه وُجد العلم اليقيني على ذلك العدد في تلك الواقعة المعينة فعمم الحكم على جميع الأخبار.

    وهذا فيه قصور؛ لأنه إن أفاد في موضع لا يلزم أن يفيد في موضع آخر، قد يفيد العدد أربعة التواتر، لكن لا يلزم أنه كلما وُجد الأربعة وُجد التواتر، لا، إنما التواتر ما أفاد العلم اليقيني، ولذلك يقال فيه من ضابط الشروط الثلاثة كلها: الأصل عدم اعتبارها، وهذا الذي يُنتَقد على أهل الكلام والأصوليين؛ أن يقال: الشروط هذه لا وجود لها، وخاصة في مسألة العدد؛ لأنهم يشترطون الكثرة حتى في طبقة الصحابة، وهذا قلّ أن تجده، ولذلك أنكره بعضهم.

    وبعضهم قد ادعى فيه العدم
    وَبَعْضُهُمْ عِزَّتَهُ، وَهْوَ وَهَم
    بل الصواب أنه كثير
    وفيه لي مؤلف نضير
    خمس وسبعون رووا "مَنْ كَذَبا"
    ومنهم العشرة ثم انتسبا
    وكلها متواتر معنوي، وليس لفظيا؛ لأنهم يقسمون التواتر إلى تواتر لفظي ومعنوي.

    اللفظي: أن يكون منقولا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بلفظه، وهذا إن صحّ التمثيل له حديث: «من كذب علي متعمدا» فقط، وما عداه؛ يعني دعوى التواتر اللفظي عزيزة، بل أنكره ابن الصلاح، قال: إن جُوِّز فيكون في حديث «من كذب علي ..»، والسيوطي وغيره ردوا على ابن الصلاح، وابن حجر وهّمَه، قال: "علة ذلك عدم اطلاعه على الطرق"، هذا في أول النزهة.

    لكن الصواب ما قاله ابن الصلاح، وكل ما قيل إنه متواتر، وما ذكر السيوطي وغيره؛ فهو متواتر معنوي، وواضح أن التواتر المعنوي ليس باللفظي؛ أن تُحكى وقائع متعددة بينها قاسم مشترك كلي، نقول: هذا المعنى متواتر؛ كـ "جود حاتم"، رأوا أنه ذبح وأطعم، تصدق بفرس، أعطى .. إلخ، هذه وقائع كلها تفيد أنه جواد، لكن هل تواتر مثلا إعطاؤه فرس ونحو ذلك؟ لم يتواتر عين الواقعة، وإنما تواتر المعنى الكلي الذي يمكن أن يُستقى منه؛ فيُحَكم بأنه قطعي الثبوت، هذا ما يسمى بالتواتر المعنوي.

    بل الصواب أنه كثير
    وفيه لي مؤلف نضير
    خمس وسبعون رووا "من كذبا"
    ومنهم العشرة ثم انتسبا
    لها حديث "الرفع لليدين"
    "والحوض" "والمسح على الخفين"
    وهذه كلها متواترة، نعم لا شك أنها متواترة وثابتة، وأحاديث الرؤية، وأحاديث القبر، كلها متواترة؛ لكن ليس بالتواتر الذي يخصه الأصوليون، وإنما التواتر الذي يعبر عنه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- التواتر الخاص، ويعبِّرُ عن هذا الذي يذكره الأصوليون بالتواتر العام، التواتر الخاص أعلم به أهله، ولذلك إذا تواتر عند أهل الحديث لزم قبول ما حكم عليه أهل الحديث لغيرهم؛ كالأصولي والفقيه وغيرهم، إذا حكم المحدث الشهير الكبير والإمام بأن هذا الحديث متواتر -كما نص البخاري في جزء القراءة خلف الإمام بأن حديث «لا صلاة ..» بأنه متواتر- فحينئذ نقول: هذا إمام معتبر حكم بأن هذا الحديث متواتر فنقبل.
    حينئذ ما أفاد العلم اليقيني العلم الضروري فهو متواتر.

    (4) (والصحيح: لا ينحصر في عدد، بل متى أخبروا واحدا بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حدّ لا يمكن تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم، وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم؛ لِقطعنا بوجود مصر):

    (والصحيح):
    على ما ذكره المصنف هنا، وهو أصح.

    (لا ينحصر في عدد):
    يعني لا ينحصر التواتر -في نقله، أو في كونه إخبار جماعة- في عدد معين.

    (بل متى أخبروا واحدا بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حد لا يمكن تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم):
    متى ما حصل التتابع حصل التواتر، بل قد يحصل التواتر وإفادة العلم اليقيني الضروري باثنين أو ثلاثة أو أربعة؛ ولذلك لو أخبر أبو بكر -رضي الله عنه- بعض التابعين هل يفيد هذا التابعي العلم اليقيني أو لا؟

    يفيده بلا شك، إذًا حصل العلم اليقيني بخبر واحد؛ لما احتفّ به من صفاتٍ تميزه عن غيره، وهذا الذي يعبّر عنه شيخ الإسلام بالتواتر الخاص؛ يعني أفاد العلم اليقيني، والذي يحكم عليه هو المحدث؛ لأنهم يسمعون ما لا يسمع غيرهم، ويروون ما لا يروي غيرهم، فهم أعلم وأعرف بصنعتهم من غيرهم.

    (بل متى أخبروا):
    يعني أخبروا بحدث.

    (واحدا بعد واحد حتى يخرجوا بالكثرة إلى حد):
    ولا يشترط بالكثرة الكاثرة، قد يُفهم من كلام المصنف الكثرة؛ يعني لا بد من عشرة أو عشرين إلخ، لا، قد يحصل باثنين أو ثلاثة أو أربعة، ولا مانع من هذا.

    (إلى حد لا يمكن عادة تواطؤهم على الكذب حصل القطع بقولهم):
    دون أن يكونوا محصورين في عدد معين.

    (وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم):
    إذًا نأخذ من هذا أن التواتر ما رواه عدد جمٌّ يجب إحالة اجتماعهم على الكذب، ثم كل ما أفاد العلم اليقيني -مع هذا الضابط- فهو متواتر، عدد إذا نظر الناظر فيه لا يمكن أن يتفقوا على كذب معين، أو زيادة في خبر، أو نقص في خبر؛ نقول: حصل التواتر بما يذكره المصنف، ونشطب على ما ذكره من الشروط.

    (وكذلك يحصل بدون عدالة الرواة وإسلامهم لقطعنا بوجود مصر):
    إخبار جماعة مسلمة أو كافرة، فساق أو عدول، عام، يحصل التواتر والعلم اليقيني ولو كان المخبرون كفارا أو مسلمين، أو كانوا كفارا ومسلمين، أو كانوا مسلمين عدولا أو فساقا مطلقا، ولكن هذا يقيد بمطلق الخبر، لا بالخبر في الشرعيات؛ لأن كلام الأصوليين عام، يتكلمون في الخبر العام، سواء كان عن زيد أو عن الشرع، فإذا كان الشرع لا بد من العدالة والإسلام، لا بد من التقييد؛ لذلك مثّل بوجود مصر؛ لأن وجود مصر ليس بحكم شرعي، ليس بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا فعله.

    (لقطعنا):
    مثّل بقطعنا، وهذا حكم قطعي؛ يعني علم يقيني لا يحتمل الشك أبدا بوجود مصر؛ يعني أي بلد، وليس خاصا بمصر، وإن كان مصر قد يُستفاد من الشرع {ادْخُلُواْ مِصْرَ}[يوسف99]، هذا جاء في الشرع ذكره؛ يعني التمثيل بمصر قد يكون فيه نوع نظر، لكن أي بلد الإنسان لم يرها حينئذ نقول: العلم بها شهير بين الخاصة والعامة، بلد اسمها فرنسا مثلا، هل أحد يشك في هذا؟ ما ذهبنا ولا رأيناها، لا مباشرة ولا بدون مباشرة، فحينئذ نقول: هذا علم قطعي؛ لأنه تواتر عند الناس، الإنسان منذ الصغر يسمع فرنسا، فرنسا، حينئذ يحكم بوجود هذا البلد -ولم يره ولم يشاهده-؛ لما هو منتشر، وهو إخبار جماعة، ولا يشترط أن يكون المخبر مسلما ولا غيره، أما في الشرعيات فلا.

  4. #24

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع المتواتر:

    ما يفيده الحديث المتواتر:

    [المتن]:

    [ويحصل العلم به، ويجب تصديقه بمجرده، وغيره بدليل خارجي(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ويحصل العلم به، ويجب تصديقه بمجرده، وغيره بدليل خارجي):

    (ويحصل العلم به):
    أي أن المتواتر يفيد العلم اليقيني؛ يعني إذا وُجدت تلك الشروط الثلاث مع الضابط العام حصل العلم به؛ يعني أفاد العلم، والعلم المراد به العلم اليقيني الضروري، وسيأتي خلاف هل المراد به الضروري أو النظري؟

    نقول: الصواب: أنه الضروري -وهو قول جمهور أهل الحديث-؛ أن المتواتر يفيد العلم اليقيني، وهو القطع بصحة نسبة الخبر إلى من نقل عنه، هذا المراد في الخبر هنا، ليس المراد بالمدلول فحسب، لا في النسبة، هل هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا؟

    البحث في هذا، ثم مدلوله وما يستفاد منه، هذا قد يكون من جهة الدلالة قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ لأنه يقسّم النص إلى أربعة أقسام:

    ** قطعي الثبوت من جهة السند -وهو المراد هنا-؛ يعني طريقه في الثبوت إلينا في الحكم بكون هذا النص قرآنا حقيقة، أو خبرا عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أو فعلا، أو تقريرا .. إلخ، نقول: قد يكون طريقه قطعي الثبوت، والقرآن قطعي الثبوت ولا إشكال، يبقى الكلام في السنة.

    وقد يكون ظني الثبوت، وهذا كما في القراءة الشاذة ونحوها، ظني الثبوت فيما زاد عن القراءات العشر، وكذلك في السنة يكون ظني الثبوت؛ يعني لا نقطع بكون هذا القول للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولذلك من أثبت أن خبر الآحاد يفيد الظن تنبني عليه هذه المسألة؛ أنه لا يلزم أن هذا القول قد قاله النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهذه مشكلة.

    (ويجب تصديقه)
    : لأنه مفيد للعلم، وكل ما أفاد العلم لا يجوز تركه؛ كما كان في حق الصحابي، قال: (فقاطع به): الصحابي قاطع به؛ لأنه سمع مباشرة، وهنا يُنزل في الحكم منزلة المباشر، إذا كان المباشر قد قطع بكون هذا القول قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، كذلك إذا وصل إليه بطرق تفيد العلم اليقيني يقطع، ولا يجوز له أن يُجوّز أن كون هذا القول ليس للنبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا المراد بقوله: (ويجب تصديقه) أي المتواتر.

    (بمجرده)
    : يعني بالنظر إلى ذاته دون نظر في عدالة، دون نظر في ضبط، دون نظر في دليل آخر، بمجرد الخبر، إخبار جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب مع الشروط، بمجرد ثبوت هذا الطريق أفاد العلم وجب التصديق لذاته؛ لا لأمر خارج؛ لأنه قد يفيد الشيء العلم اليقيني، لكن بقرينة خارجة، وليس الكلام في هذا، الكلام فيما يفيد من الأخبار القين بذاته دون النظر إلى عدالة أو ضبط، ولهذا لا يبحثون في المتواتر في العدالة، ولا يبحثون في الضبط، بل لا يبحثون في الإسلام أيضا.

    (وغيره)
    : أي غير المتواتر يحصل القطع به، ويجب تصديقه، لكن بدليل خارج؛ كأن يكون الحديث في البخاري ومسلم، أو أن تكون الأمة أجمعت على قبول الحديث، أو أن تكون الأمة أجمعت على العمل بمدلول هذا الحديث ولو كان في سنده بعض الشيء، حينئذ يُقطَع به، لكن لدليل خارج، لا لذات الخبر.

  5. #25

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع المتواتر:

    نوع العلم الحاصل بالمتواتر:


    [المتن]:

    [والعلم الحاصل به ضروري عند القاضي، ونظري عند أبي الخطاب(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والعلم الحاصل به ضروري عند القاضي، ونظري عند أبي الخطاب):

    (والعلم الحاصل به):
    يعني المتواتر، إذًا أثبت أن المتواتر يفيد العلم، ثم هذا العلم نوعان: علم ضروري، وعلم نظري.

    والضروري: ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال.

    والنظري: ما احتاج إلى نظر واستدلال.

    يعني إفادة العلم قد تحصل بالنظر والبحث وطلب الدليل، وقد تحصل هكذا دفعة بدون بحث ولا نظر ولا استدلال، الأول: يسمى النظري، والثاني: يسمى الضروري.

    والنظريْ ما احتاج للتأمـــل
    وعكسه هو الضروريُّ الجلي
    والنظري ما احتاج للتأمل: إذًا يحتاج إلى بحث ونظر في الكتب والأسانيد إلخ، ثم يفيد العلم، وبعضه قد يفيد العلم دون نظر ودون استدلال، ما المراد بالعلم هنا الذي أفاده المتواتر؟ هل هو العلم الضروري -الذي يحصل بدون نظر واستدلال، وإنما يحصل دفعة واحدة- أو النظري؟

    الجمهور على أنه الضروري لذلك قال المصنف:

    (والعلم الحاصل به):
    يعني بالمتواتر.

    (ضروري)
    : وهو اليقيني، يُعَبر عنه باليقيني، وهو ما لا يحتاج إلى نظر واستدلال.

    (عند القاضي):
    أبي يعلى، وهو قول الجمهور.

    (ونظري عند أبي الخطاب):
    نظري لأنه يحتاج إلى مقدمتين:

    أولا: إثبات كثرة المخبرين، لا بد أن تثبت أن هذا الخبر أخبر به كثيرون لينطبق عليه حد التواتر.

    الثاني: أن خبر هؤلاء يفيد اليقين.

    فإذا أثبت كثرة المخبرين، ثم أثبت بالمقدمة الثانية أن خبرهم يفيد اليقين؛ حينئذ نحكم بأن هذا الخبر المعين -لا مطلقا- أفاد اليقين، فيكون مبنيا على مقدمتين.

    لكن هذا مردود بأن العلم اليقيني حاصل في البديهيات وفي نحوها للصبيان والنساء والكبار والصغار إلخ، كل ما هو معلوم من أمور الدنيا بالضرورة يستوي فيه الصغير والكبير، مثلا وجود مصر هذا يعرفه الصغير، يعرف أن بلدا اسمها مصر ولم يرها، هذا حكم يقيني أو لا؟

    يقيني.

    هل حصل بمقدمتين؟

    ما حصل بمقدمتين، وإنما حصل دفعة واحدة؛ ولذلك سمي ضروريا، قيل: من الضرورة لا يمكن دفعه، لو أراد الإنسان أن يدفع بعض المعلومات عن نفسه لا يمكن؛ مثل وجودك الآن في المسجد، لو أردت أن تقنع نفسك أنك لست في المسجد، ما تستطيع؛ لأنه علم ضروري يقيني، وهذا يسمى بالعلم الحُضوري عند المناطقة، العلم الحضوري: وهو الذي تعلمه بما أنت فيه من حال، اليوم السبت أو الأحد؟ هل يحتاج إلى دليل؟ ما يحتاج إلى بحث.

    إذًا (والعلم الحاصل به ضروري عند القاضي، ونظري عند أبي الخطاب): كلاهما من الحنابلة، وما ذهب إليه القاضي أرجح.

  6. #26

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع المتواتر:

    ما أفاد العلم في واقعة ولشخصٍ بدون قرينة أفاده في غيرها:

    [المتن]:

    [وما أفاد العلم في واقعة ولشخصٍ بدون قرينة أفاده في غيرها أو لشخص آخر(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وما أفاد العلم في واقعة ولشخصٍ بدون قرينة أفاده في غيرها أو لشخص آخر):

    يعني مراده أن العلم أو الخبر المتواتر إذا أفاد العلم اليقيني في واقعة معينة لشخص أفاد العلم اليقيني في واقعة أخرى كما أفاده في الأولى، والشخص الذي استفاد العلم اليقيني من واقعةٍ ما لو جاء آخر وأُخبر بنفس الخبر لاستفاد العلم اليقيني، إذًا لا يتفاوت؛ لأن النظر هنا إلى ذات المتواتر، فإذا قلنا: ذات المتواتر -بذاته، بمجرده، لا بدليل آخر، لا بقرائن تحتف به- أفاد العلم اليقيني؛ حينئذ إذا سمعه زيد وقرأه بكر هل يحصل العلم لهما؟

    هذا هو محل الخلاف، هل يحصل العلم لهما؟

    نقول: نعم؛ لأن الخبر المتواتر هنا أفاد العلم بذاته، وإذا كان بذاته؛ فكل قارئ، كل سامع يستفيد العلم اليقيني، ولا يتفاوت، لو قيل بالتفاوت للزم منه أن ثم أمرا خارجا عن مدلول المتواتر احتف به فأفاد العلم في حق زيد، ولم يفده في حق بكر، والمسألة مفروضة في متواتر لم تحتف به قرائن، ولذلك قال:

    (وما أفاد)
    : يعني خبر أفاد العلم في واقعة، ولشخص دون قرينة، دون قرينة هذا قيد لا بد منه؛ لأن القرينة يستلزم منها تفاوت المعلوم؛ لأن الشيء إذا احتف بقرينة، قد تؤمن أنت بدلالة؛ كقرينة، وقد لا تؤمن بها، أليس كذلك؟ إذا قيل مثلا: ما انفرد به البخاري مقدَّم على ما انفرد به مسلم، هل هذا مُسلَّم عند الكل؟

    المغاربة يقدمون مسلما على البخاري، فحينئذ إذا احتفت قرينة بهذا الخبر لكونه مما رواه البخاري، هذا لا يستلزم أن يكون مطردا في حق كل أحد، قد يقول قائل: لا، أنا أقدم ما رواه مسلم على ما رواه البخاري، إذًا الخبر واحد، ولكن كون البخاري راويًا، هذه قرينة خارجة، قد يُسلِّم بها زيد، وقد لا يسلم بها عمرو، فحينئذ النظر يكون لذات الخبر، فما أفاد في واقعة ولشخص لا بد وأن يفيد في واقعة ولشخص آخر نفس الخبر، وليس ما استفيد منه، فلو لم يترتب ذلك العلم كان طعنا في المتواتر.

    (وما أفاد العلم)
    : أي أن العدد الحاصل بالعلم اليقيني لا يتفاوت بحسب الوقائع والأشخاص، ما أفاد العلم اليقيني بإخبار جماعة في عدد معين أو لا -على حسب ما ذكره المصنف- نقول: لا يتفاوت بحسب الوقائع والأشخاص، بل ما أفاده في واقعة ولشخص معين -كبكر- أفاده في غيرها، نفس العدد أفاده في غيرها، أو لشخص آخر، وعبارة صاحب المختصر (مختصر التحرير)، وفيها بعض الركة: "ومن حصل بخبره علم بواقعة لشخص معين حصل بمثله بغيرها لآخر"، "ومن حصل بخبره علم بواقعة لشخص معين"، واقعة معينة لشخص معين، قال: "حصل بمثله بغيرها لآخر"، لا بد أن يكون مطردا، وإلا كان نقضا للتواتر، وهذا إذا كان بدون قرينة، أما بالقرينة فلا؛ لأنها تختلف من شخص إلى شخص آخر، هذا ما يتعلق بالمتواتر.

  7. #27

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع تقسيم الخبر باعتبار وصوله إلينا:

    (2) الآحاد:


    [المتن]:

    [والآحاد ما لم يتواتر(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والآحاد ما لم يتواتر):

    (والآحاد):
    أي القسم الثاني للخبر باعتبار وصوله، باعتبار الواسطة إلى من تبلغه السنة النبوية: الآحاد.

    الآحاد في اللغة: جمع "أحد"، أصله "أأحَاد"، سكنت الهمزة الثانية، وقُلبت ألفا فصار "آحاد"؛ كـ "آدم" أصله "أأدم"، جمع أحدٍ؛ كـ "أجل"، و "آجال"، و "بطل"، و "أبطال"، أفعال، "آحاد"، و "أحد": فعل، إذا فَعَل يُجمع على أفعال، و "أحد" يُجمع على "آحاد"، و"آحاد": بمعنى واحد، الهمزة منقلبة عن واو، وهو لغة: ما يرويه الواحد.

    أما في الاصطلاح: فقال:

    (ما لم يتواتر):
    أي لم تبلغ نقلته مبلغ الخبر المتواتر، وعليه يكون التقسيم عندهم ثنائيا، فلا وجود للمستفيض، ولا للمشهور، فيكون المستفيض والمشهور داخلا في الآحاد، وأهل الحديث ما يوافقون على هذا.

  8. #28

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع الآحاد:

    ما يفيده خبر الآحاد:


    [المتن]:

    [والعلم لا يحصل به في إحدى الروايتين، وهو قول الأكثرين ومتأخري أصحابنا، والأخرى: بلى، وهو قول جماعة من أصحاب الحديث، والظاهرية، وقد حُمل ذلك منهم على ما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم، وتلقته الأمة بالقبول؛ لقوته بذلك؛ كخبر الصحابي(1)، فإن لم يكن قرينة أو عارضه خبر آخر فليس كذلك(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والعلم لا يحصل به في إحدى الروايتين، وهو قول الأكثرين ومتأخري أصحابنا، والأخرى: بلى، وهو قول جماعة من أصحاب الحديث والظاهرية، وقد حُمل ذلك منهم على ما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم، وتلقته الأمة بالقبول، لقوته بذلك، كخبر الصحابي):

    (والعلم لا يحصل به):
    إذًا ما رواه شخص واحد -على ما نص المصنف-، أو شخصان، أو ثلاثة، أو أربعة، ولم يصل إلى حدٍ يفيد هذه الكثرة، أو هذا الجمع يفيد اليقين، ولم يكن منتهى خبره من حس، ولم يستو الطرفان؛ حكموا عليه بأنه آحاد؛ يعني المشهور داخل في الآحاد، والمستفيض داخل في الآحاد، ثم يختلفون هل يفيد الظن أو لا؟

    (والعلم لا يحصل به)
    : يعني لا يفيد الآحادُ اليقينَ، وإنما يفيد الظن، وما هو الظن؟ ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.

    الـظـن تجـويـز امـرئ أمرين

    مـرجـحـًا لأحــد الــأمرين

    فالـراجحُ المذكور ظنًا يُسْمَى

    والطرف المرجوحُ يُسْمَى وَهْمَا

    إذًا المراد به هنا ترجيح صدق الراوي على كذبه في كون الخبر ثابتا للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا، فحينئذ إذا قيل: الآحاد -الذي هو لم يتواتر- لا يفيد العلم؛ حينئذ لا تقطع بكون هذا القول منسوبا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أو كون هذا الفعل، أو هذا التقرير منسوبا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وإنما يترجح، فتقول: قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما الأعمال بالنيات»، هذا غير متواتر عندهم، هذا الراجح أنه قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، ويحتمل أنه غير قوله؛ لوجود السلسلة، وكل منهم بشر يصيب ويخطئ، إذًا يحتمل الوهم، فلا نقطع بصدقه.

    وهذا من الأمور الدخيلة، هذه بدعة؛ كون غير المتواتر لا يفيد العلم دون تفصيل، دون النظر إلى أحوال الرواة، دون قرائن .. إلخ، نقول: هذا من البدع، وهذا مما أحدثه المعتزلة.

    أما التفصيل في شأن خبر الواحد؛ حينئذ لا إشكال، أو القول بأنه يفيد العلم مطلقا لا إشكال، أما أن يُقال: إنه لا يفيد العلم مطلقا، ولو كان مشهورا، ولو كان مستفيضا، ولو كان في البخاري ومسلم، لا يفيد إلا الظن، ولا يُقطع بنسبته للنبي -صلى الله عليه وسلم-، هذه بدعة، وحدث في الدين، وهذا مما دخل به المعتزلة على أهل السنة، فنثبت الآحاد، ونناقش في الحكم، نثبت الآحاد؛ لأن الحس يدل عليه، أنت في أمور الدنيا قطعا لو أخبرك عشرة وكلهم من كبار أهل العلم، وشخص أخبرك بخبر واحد، هل يستوي العلم؟

    لا تصدق الواحد كما تصدق العشرة، هذا أمر حسي وعقلي، وأمر شرعي أيضا ثابت؛ لذلك جاء {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات6]، إذًا فرق بين الفاسق وبين العدل، فرّق {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}، {فتثبتوا}، مفهومه: إن جاءكم ثقة عدل بخبر فالأصل القبول.

    فالصحيح أن نثبت الآحاد، ولا إشكال، ونثبت المتواتر، ولا إشكال، لكن لا نخص الخبر بأنه لا يفيد العلم اليقيني، ونقطع بكون هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إلا إذا كان متواترا، ثم نأتي بالمتواتر ونخنقه خنقا بشروط لا يكاد أنها تُوجد، ونأتي للآحاد ونقول: هذا لا يفيد إلا الظن؛ لأنه لا نقطع بأن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-، بل نُرجح صدق الراوي مع جواز كذبه ووهمه.

    نقول: لا، هذا من المسائل الدخيلة، فحينئذ نفرق بين المصطلحات من حيث الاسم، ومن حيث الحكم، الحكم يُناقش فيه ولا إشكال، ومن حيث المصطلح الأمر فيه سعة.

    (والعلم لا يحصل به في إحدى الروايتين):
    عن الإمام أحمد، وهذا ضعّفه ابن القيم، قال: لا تصح رواية أن الإمام أحمد قال: "خبر الآحاد لا يفيد إلا الظن، ولا يحصل به العلم".

    (والعلم لا يحصل به)
    : يعني اليقين والعلم الضروري أو النظري لا يحصل بخبر الآحاد في إحدى الروايتين، بل يفيد الظن؛ الذي هو رجحان صحة نسبته إلى من نُقل عنه.

    (وهو قول الأكثرين):
    يعني قول جمهور العلماء، لكنهم المتأخرون، ليسوا المتقدمين، وغالبا هذه الأمور تأتي عند المتأخرين؛ أتباع المذاهب الأربعة، أما الأئمة: أبو حنيفة، والشافعي، ومالك، ومن قبلهم؛ هؤلاء في الغالب يَسلَمون من مثل هذه الأقوال.

    (ومتأخري أصحابنا)
    : يعني الحنابلة؛ وبعض الحنابلة يختار مسائل الإمام أحمد ينص على خلافها، وخاصة في أصول الفقه.

    (والأخرى بلى):
    يعني يفيد العلم، خبر الآحاد يفيد العلم مطلقا، والمراد بخبر الآحاد يفيد العلم مطلقا هنا ليس مما وقع فيه نزاع، لا، هذا لا يكاد أن يقع فيه خلاف أنه يفيد الظن؛ يعني ما ضُعِّف، الذي يُسمى بالمُضعّف، ليس الضعيف، الضعيف: ما حُكم بكونه ضعيفا، والمُضعَّف: ما اختلف في تضعيفه وتصحيحه، هذا يفيد الظن لا يفيد القطع، أما الحديث الذي اتفق الأئمة على صحته، فهذا الرواية تُنزل عليه أنه يفيد العلم.

    (وهو قول جماعة من أصحاب الحديث والظاهرية):
    بل المشهور عن أكثر المحدثين: أن خبر الواحد يفيد العلم؛ يعني القطع بكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا القول، أو فعله، أو أقرّه، والعبرة في مثل هذا أن نرجع إلى أهل الحديث؛ فإنهم أولى من يُؤخذ عنهم.

    (وقد حُمِل ذلك منهم على ما نقله الأئمة):
    يعني حُرف القول السابق، قالوا: كيف يفيد العلم مطلقا؟ لماذا قلتم: إن خبر الواحد يفيد الظن مطلقا؟

    قالوا: لو حصل بخبر الواحد العلم، كل خبر نسمعه لا بد أن يحصل العلم يكون مطردا معه، وهذا هل يشعر به الإنسان؟

    لا يشعر به، قد تسمع خبرا فتشك فيه، وقد تسمع خبرا فتصدقه، وقد تسمع خبرا فيكون تصديقك له أعلى درجات التصديق، إذًا حصل الخلاف، فكيف نقول إذًا: خبر الواحد يفيد الظن أو يفيد العلم ونحن لا نشعر بهذا العلم أنه مطرد في كل خبر؟ فدل على أنه لا يفيد العلم.

    كذلك قالوا: أعدل الرواة بشر، يجوز عليه الصدق والكذب، يجوز عليه الوهم، يجوز عليه الغلط، حينئذ ما جاز عليه الغلط فكيف يُحكَم بكونه يفيد العلم؟

    نقول: المسألة شرعية، وهذه المسائل عقلية، ولا اجتهاد في مقابلة النص كما سيأتي.

    إذا كونه يفيد العلم هذا القول الثاني في المسألة.

    القول الثالث:
    التفصيل، إن احتف به قرائن توجب العلم أفاده، وإلا فلا، وهذا يختاره الكثير من المتأخرين؛ كابن حجر وغيره.

    (وقد حُمل ذلك منهم على ما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم، وتلقته الأمة بالقبول؛ لقوته بذلك، كخبر الصحابي):
    خبر الصحابي إذا أجمعت عليه الأمة صار حجة، كذلك خبر الصحابي إذا تكلم عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأقره صار أعلى درجة، احتفت به قرينة، ليس كخبر الصحابي المجرد الذي لم تُجمع عليه الأمة، أو كخبر الصحابي الذي لم يقف عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- فيسكت على ذلك القول؛ لأن الثاني يكون مقرًّا عليه مؤيدًا من جهة النبي -صلى الله عليه وسلم-، إذًا كما اختلف خبر الصحابي قبل القرينة وبعد القرينة؛ قالوا: كذلك أخبار النبي -صلى الله عليه وسلم-، فما احتفت به قرائن تفيد العلم أفاد العلم، وإلا أفاد الظن.

    لكن المشهور عند أهل الحديث أنه يفيد العلم ما لم يحصل فيه نزاع أو خلاف، وابن حزم -رحمه الله تعالى- في كتاب (الإحكام) صال وجال في إثبات هذه المسألة، إذًا خبر الآحاد من حيث إفادة العلم فيه ثلاثة أقوال:

    ** يفيد الظن مطلقا.

    ** يفيد العلم مطلقا.

    ** يفيد العلم إذا احتفت به قرائن، وإلا أفاد الظن، وهذا بعضهم يجعله فيما رواه البخاري ومسلم، إذًا مما اختلف فيه أو مما احتفت به قرائن.

    حد الصحيح مسند بوصله
    بنقل عدل ضابط عن مثله
    ولم يكن شذ ولا معللا
    والحكم بالصحة والضعف على
    ظاهره، لا القطع إلا ما حوى
    كتاب مسلم أو الجُعفي سوى
    ما انتقدوا فابن الصلاح رجحا
    قطعًا به، وكم إمام جنحا
    والنووي رجح في التقريب
    ظنا به، والقطع ذو تصويب
    يعني ما رواه البخاري ومسلم مما لم يُنتقدا فيه اختلف فيه هل يفيد القطع أو الظن؟

    النووي رجح في التقريب ظنا به؛ يعني يفيد الظن مطلقا، كل ما رواه البخاري ومسلم ولو اتفقا عليه فهو يفيد الظن؛ يعني لا نجزم بأنه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، والقطع ذو تصويب، هكذا رجح السيوطي مذهب ابن الصلاح أنه مقطوع به، فنجزم، لو قال إنسان: والله الذي لا إله غيره إن ما رواه البخاري ومسلم -اتفقا عليه- مما قاله النبي -صلى الله عليه وسلم- يحنث أو لا؟

    نقول: لا يحنث.

    (2)
    (فإن لم يكن قرينة أو عارضه خبر آخر فليس كذلك):

    (فإن لم يكن قرينة)
    : يعني دلت على صدق الخبر.

    (أو عارضه خبر آخر فليس كذلك):
    فحينئذ حصل التعارض، وهذا لا إشكال فيه، القول بأنه يفيد الظن فيما حصل تعارض بينهما لا إشكال فيه، أما الحديث الصحيح السالم عن المعارضة أنه يفيد الظن هذا محل إشكال.

  9. #29

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع الآحاد:

    التعبد بخبر الواحد عقلا:


    [المتن]:

    [وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلا؛ لاحتماله، وقال أبو الخطاب: يقتضيه، والأكثرون: لا يمتنع(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلا؛ لاحتماله، وقال أبو الخطاب: يقتضيه، والأكثرون: لا يمتنع):

    (وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلا):
    هل يجوز بالعقل أن يتعبدنا الرب بخبر واحد واثنين وثلاثة؟

    محل نزاع عند المتكلمين

    (وقد أنكر قوم جواز التعبد به عقلا):
    لماذا؟ قالوا:

    (لاحتماله):
    أن يكون كذبا أو خطئا، والعمل بما احتمل أنه كذب أو خطأ عمل بشك وجهل، وهذا لا ينبغي عقلا للشارع -هكذا يقولون- أن يتعبد الخلق بخبر واحد أو اثنين.

    وهذه عقول فاسدة، في مثل هذه المسائل نقول: عقول فاسدة ولا إشكال.

    لا يجوز للشارع أن يتعبد الخلق بخبر واحد أو اثنين، لماذا؟

    لأن خبر الواحد يحتمل الصدق والكذب، يحتمل أنه أخطأ، يحتمل أنه سها .. إلخ، فحينئذ إذا عُمِل بما أخبر به الواحد والاثنان ما لم يصل إلى حد التواتر يكون عملا بما هو مشكوك، وبما هو فيه جهل، وهذا لا ينبغي، فأنكروا عقلا.

    وهذه مكابرة، هذه تسمى مكابرة؛ لأنهم لو وقفوا مع عقولهم لما منع العقل أن يتعبد بواحد، ومن هم الرسل إلا واحد.

    (وقال أبو الخطاب: يقتضيه):
    عكس الأول؛ يعني يجب عقلا.

    (يقتضيه):
    أي وجوب قبول خبر الواحد ثابت بالعقل، فإذا روى الواحد أو الاثنان -ولم يصلوا إلى حد التواتر- يجب عقلا قبول خبره.

    وهذا أيضا مكابرة؛ لوجود الأمر السابق، وهو أنه قد يخطئ ويصيب، ما دامت المسألة عقلية فالعقل يُجوّز المستحيل.

    (والأكثرون لا يمتنع):
    يجوز عقلا أن يتعبدنا الشارع، وقد لا يتعبدنا، الأمر بين الجواز، والعمل به جائز عقلا عند جماهير العلماء؛ لأنه لا يلزم منه مُحال، وليس احتمال الكذب والخطأ بمانع، هذه المسألة من جهة العقل.

  10. #30

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع الآحاد:

    التعبد بخبر الواحد سمعا:


    [المتن]:

    [فأما سمعا فيجب عند الجمهور، وخالف أكثر القدرية، وإجماعُ الصحابة على قبوله يرد ذلك.(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (فأما سمعا فيجب عند الجمهور، وخالف أكثر القدرية، وإجماعُ الصحابة على قبوله يرد ذلك):

    (فأما سمعا)
    : الآن اختلفوا في جواز التعبد به عقلا، خبر الواحد من جهة العقل ومن جهة الشرع، هل أذن لنا الشرع بأن نعمل بخبر الواحد أو لا؟ قال:

    (فأما سمعا):
    أي من جهة السمع والنقل عن الشرع.

    (فيجب عند الجمهور):
    يعني يجب العمل به عند الجمهور.

    والصواب أن نقول: فيجب العمل به إجماعا، ليس عند الجمهور، خبر الواحد مُجمَع عليه بين الصحابة، ولا يجوز أن نلتفت لأي خلاف حادث بعد الصحابة، وخاصة أن المخالفين قدرية ومعتزلة، إلى آخر ما يمكن أن يقال من أهل البدع ومن على شاكلتهم، بل نقول: إجماعًا، فيجب العمل بمدلول خبر الواحد مطلقا سواء كان في العقيدة أم في غيرها، في العلميات وفي العمليات بلا تفريق؛ لأن الأدلة التي أثبتت وجوب العمل به في العمليات عامة، ولم تفرق بين عقيدة وبين غيرها، فيجب العمل.

    (وخالف أكثر القدرية):
    قالوا: لا يجوز العمل بخبر الواحد.

    (وإجماع الصحابة على قبوله يرد ذلك)
    : وهذا عجيب من المصنف، (فأما سمعا فيجب عند الجمهور): مراعاة لمخالفة القدرية، ثم يحكي إجماع الصحابة على وجوب العمل به، هل هذا صواب؟

    نقول: ليس بصحيح، العلماء نحترمهم ونقدرهم ونجلهم، لكن الخطأ خطأ، نقول: هذا خطأ، فإذا أجمع الصحابة على شيء ما، على أمر ما، وخاصة إذا كان المخالف من شر أهل البدع، حينئذ لا يُجعَل المبتدع في مقابلة الصحابة، فإذا أجمعوا الحمد لله كُفينا، لماذا نقتفي أثر المبتدعة؟!

    ولذلك جاء قوله جل وعلا: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُو اْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلِيهِم}[التوبة122]، هل النذارة تحصل بواحد؟

    تحصل، والطائفة تطلق في اللغة على الواحد فصاعدا، إذًا رتب الرب -جل وعلا- وجوب النِّذارة والعمل بها على طائفة، والطائفة تصدق بالواحد وصاعدا.

    حينئذ نقول: يجب العمل شرعا، وهذا لا خلاف فيه بين الصحابة؛ ولذلك جاء في حديث ابن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: "بينما الناس بقباء في صلاة الصبح جاءهم آت فقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة"، في صلاة العشاء صلوا إلى القبلة، وهو أمر قطعي معلوم في تلك الساعة من الدين بالضرورة، جاءهم خبر واحد في صلاة الفجر فنقلوا القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، استداروا مباشرة، هذا يفيد العلم أو يفيد الظن؟

    يفيد العلم قطعا.

  11. #31

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    شروط الراوي:

    (1) الإسلام:


    [المتن]:

    [وشروط الراوي أربعة(1): الإسلام، فلا تقبل رواية كافر ولو ببدعة، إلا المتأول إذا لم يكن داعية في ظاهر كلامه(2)].

    [الشرح]:

    (1)
    (وشروط الراوي أربعة):

    الراوي الذي ينقل لنا الخبر لا بد من وجود صفات، إن وُجدت في الراوي رجحنا اعتقاد صدقه على كذبه؛ لأنه -كما سبق- أن راوي حديث الآحاد يُبحث عن عدالته وضبطه؛ لأنه ليس كالمتواتر؛ لأنه لا يفيد العلم، لماذا لا يفيد العلم على حسب ما قرره المصنف؟

    لأن الراوي يحتمل الصدق والكذب، إذًا لا بد من وضع قيود وشروط وضوابط من أجل أن يُعيَّن الراوي الذي تُقبَل روايته من عدمه، والبحث في الآحاد من حيث القبول والرد متوقف على معرفة الإسناد، والإسناد -كما هو معلوم- من موضوع علم الحديث.

    عِلمُ الحديثِ ذُو قوانِينْ تُحَدْ
    يُدْرَى بِها أَحْوَالْ مَتْنٍ وَسَنَـدْ
    فَذَانِكَ الموضوعُ والمقصودُ
    أَنْ يُعرَفَ المقبُولُ والمَـردُودُ
    والـسنـدُ: اْلإِخْـبـارُ عنْ طَـرِيـقِ مَتْن ......................

    إذًا السند: هو الطريق الذي يحكي لنا المتن.

    والمتن: هو ما انتهى إليه السند من الكلام.

    إذًا عندنا سند ومتن، والسند والمتن هما موضوع علم الحديث، يُبحَث في السند من حيث القبول والرد؛ يعني متى ما توفرت الصفات المعتبرة في قبول رواية الراوي وُجد قبول الحديث، وإلا رُدت عليه.

    (وشروط الراوي أربعة): يعني الشروط التي تعتبر في تحقق صفة القبول في الراوي أربعة باستقراء كلام أهل العلم:

    (2) (الإسلام، فلا تقبل رواية كافر ولو ببدعة، إلا المتأول إذا لم يكن داعية في ظاهر كلامه):

    الشرط الأول:
    (الإسلام): وهذا يقابل المتواتر هناك؛ لأنه قال: (لا يُعتَبر إسلامه)، إذًا الإسلام شرط في قبول خبر الآحاد، هذا مقصوده، إن وُجد الإسلام مع بقية الشروط ترتب عليه؛ لأننا نقول: هذا شرط، والشرط يلزم من عدمه العدم، لا يلزم من وجود إسلام الراوي أن نقبل، لا، وإنما كلما انتفى الإسلام انتفى القبول؛ لأنه شرط، والشرط يلزم من عدمه العدم، حينئذ يلزم من عدم الإسلام عدم قبول رواية الراوي.

    والإسلام شرط للأداء لا للتحمل؛ لأن عندنا أداء، وعندنا تحمل، التحمل: هو السماع، أو كتابة الحديث، والأداء: هو إبلاغه للغير.

    متى يُشترط الإسلام؟

    يشترط في الأداء، لا في التحمل، فلو تحمل كافر، ثم أدى بعد إسلامه قُبِل منه، لماذا؟

    هنا انتفى الإسلام وقت التحمل، لا وقت الأداء، والمعتبر عند أهل الحديث: أن يؤدي ويُبلغ الحديث مسلما، فإن حفظه أو سمعه أو كتبه وهو كافر، ثم أسلم فأداه؛ قُبِل منه، ولو أداه وهو كافر لم يُقبل منه.

    إذًا الإسلام هنا شرط بالإجماع، وهو شرط للأداء، لا للتحمل؛ ولذلك جاء في صحيح البخاري عن جُبير بن مُطعم -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قرأ في المغرب بالطور"، سمع هذا وهو كافر قبل إسلامه؛ لأنه كان أسيرًا من أسارى بدر، ثم أدّاه بعد إسلامه، ولذلك قال ابن حجر: هذا دليل على أن أهل الحديث إنما يشترطون الإسلام في الأداء، لا في التحمل.

    وشرط الإسلام تتفرع عنه مسائل، قال:

    (فلا تقبل):
    الفاء للتفريع.

    (رواية كافر):
    الكافر لا تُقبل روايته، فإذا أخبرنا مُخبِرٌ وهو كافر -سواء كان يهوديا أو نصرانيا- لا نقبَل روايته؛ لأنه لا يُؤمَن عليه الكذب، هو عدو لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فحينئذ لا يُؤمن عليه أن يكذب وأن يفتري، إذًا أي خبر يصدر عن الكافر فالأصل فيه عدم القبول.

    والمراد بالكفر هنا: الكفر الذي يخرج به الإنسان عن الملة؛ كاليهودية والنصرانية، أو الكفر الذي يكون لا بتأويل؛ لأن الكفر أقسام:

    كفر متفق عليه؛ كاليهودية والنصرانية، فهذا لا يُقبَل خبره.

    كذلك لو كفر ببدعة مكفّرة لا بتأويل -يعني لا باجتهاد، لا بنظر، لا ببحث- هذا أيضا لا تقبل روايته قولا واحدا.

    ابن حجر -رحمه الله تعالى- ذكر في (شرح النخبة) أنه لو أطلق القول بعدم قبول رواية الكافر -وكثير من الطوائف يكفِّر بعضهم بعضا- لما جُعل ضابط للرد من حيث الكفر وعدمه، قال: إذًا لا بد من ضبطه بما إذا أنكر أمرا معلوما من الدين بالضرورة، وما عداه لو وقع في بدعة مُكفِّرة؛ إذا انضم إليه: التقوى والورع والضبط والصدق قُبلت روايته.

    أما من أتى ببدعة مُغلَّظة مُكفرة -كمن ادعى عليًا -رضي الله عنه- إلها مثلا- أجمع أهل العلم على كفر معتقده.

    قال: (فلا تقبل رواية كافر ولو ببدعة): يعني ولو كان كفره بسبب بدعة، فحينئذ إذا قابل الكافر بالبدعة المكفرة يكون الكافر الأول في ظاهر كلامه الكافر الأصلي، فلو سمع يهودي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم أخبر، لا نقبل روايته؛ لأنه ليس بمسلم، لو سمع نصراني، كذلك لا نقبل روايته؛ لأنه ليس بمسلم، والعجب أن الناس الآن وقع عندهم فتنة، وهو ما شاع بأنه سُجِّل أرواح الناس يعذبون في القبور، وجاءت عن طريق الشيوعية، وتجد الأغبياء من المسلمين يسجلون ويوزعون، ويقولون: إن هذا خبر ثابت، وهذا خبر حق.

    نقول: الآن نقرر قاعدة: لا تُقبَل رواية الكافر، وتجد أن بعض طلاب العلم يحتارون في الأمر يقول: هل نصدق أو لا؟

    هذا من عجائب الدهر! طلاب العلم! بل بعض الدعاة يستغرب، أو يعني يقف، أو يحتار هل نصدق أو لا؟

    ثم أيضا هو مخالف لأصل، عذاب القبر لو قيل بجواز كشفه فهو للبعض لا للكل، وهذا قد أصبح للكل، ما صار غيبا، ثم لو فُتح الباب وسُجلت مثل هذه الأشياء، غدا يأتون بالمرئيات، اليوم بصوتيات وصدقنا، غدا تجد أشرطة الفيديو، وترى القنوات يقولون: هذا عذاب القبر، وأنتم مسلمون صدقتم الأول، لمَ لا تصدقون الثاني؟ وغدا قد يأتوك بأشياء أخرى؛ صوت جبريل .. إلخ، إذا فُتح الباب لمثل هذه الأمور ما تُغلَق؛ فلذلك نقول: (فلا تقبل رواية كافر): سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو شيوعيا.

    (ولو ببدعة)
    : يعني ولو كان كفره بسبب بدعة، فالبدعة المُكفرة سبب لرد الرواية.

    (إلا المتأول)
    : نفهم منه أن قول المصنف: (ولو ببدعة) خص به صاحبَ البدعة غير المتأول، ومراده بالمتأول: الذي استند إلى الكتاب والسنة فأدّاه إلى أن وقع في بدعة، وهذه البدعة تكون مكفرة، إلا أنه لو كُفر حينئذ تُقبَل روايته، خاصة إن انضم إليه الضبط والصدق.

    (إذا لم يكن داعية):
    يعني إذا لم يدعو إلى بدعته، إذا لم يروِ ما يُؤيد بدعته؛ لأنه متهم حينئذ؛ لأن الهوى يُزين له تحسين البدعة، فحينئذ لا يُؤمَن عليه أن يزيد حرفا أو يُنقِص من الحديث -مثلا- من أجل أن يُروّج بدعته، فلما كانت الرواية التي تؤيد بدعته مظنة لترجيح الكذب على الصدق قُدِّم في هذا النوع، وما عداه فيكون على الأصل.

    إذًا المتأول يُفرَّق فيه؛ إن كان مبتدعا داعية إلى بدعته فلا تُقبَل روايته، وإن لم يكن داعية إلى بدعته تُقبل روايته، قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "هذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة"، فهذا هو الذي رجحه ابن حجر والنووي والسيوطي في ألفيته.

    (في ظاهره كلامه):
    يعني في ظاهر كلام الإمام أحمد؛ أنه فرّق بين المبتدع الداعي وغير الداعي؛ لأنه ورد عنه أنه قال: "يُكتَب حديث القدري إذا لم يكن داعية"، قال أصحابه: "والقدرية عند الإمام أحمد كفار"، إذًا هم أصحاب بدعة مُكفرة، وقال الإمام أحمد: "يُكتب حديثه إذا لم يكن داعية، فإن كان داعية فلا ولا كرامة"، هذا ظاهر كلام الإمام أحمد.

    وعنه رواية أخرى بالرد مطلقا.

    لكن كثير من المحققين يرون أن مدار البدعة وعدمها على الصدق، متى ما ثبتت ثقة الراوي وكان صادقا -سواء كان داعية أو لا- تُقبَل روايته؛ ولذلك في الصحيحين عن بعض أهل البدع، وهم دعاة، ولكن خرّج لهم أرباب الصحيح من أجل أن مدار الرواية على الصدق، فمتى ما انضم إلى صاحب البدعة: صدق، وضبط، وتقوى، وورع؛ تُقبَل روايته؛ لأنه إن كان ورعا تقيا فيعتقد أنه على حق، ولذلك ابن حزم شنّع على من يشترط هذا، يقول: "هو في باب المعتقد مبتدع، كيف تشترطون في قبول رواية المبتدع إن لم يكن داعية؟! هو يعتقد أنه حق، وأنه من الإسلام، وكل من اعتقد حقا فالأصل أنه يكون داعية"، فحينئذ اشتراط كونه داعية إلى بدعته أو لا؛ هذا يُنظر فيه من جهة الصدق وما ينضم إلى الراوي من التقوى والورع، فإن وُجد فحينئذ الأصل القبول، وإلا إذا وُجدت التهمة، فالأصل العدم.

  12. #32

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع شروط الراوي:

    (2) التكليف:


    [المتن]:

    [والتكليف حالة الأداء(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والتكليف حالة الأداء):

    الشرط الثاني
    قال:

    (والتكليف):
    يعني يشترط في الراوي الذي تقبل روايته: أن يكون مُكلَفًا، وقد اصطلح أهل العلم أنهم إذا أطلقوا التكليف فمُرادهم به: البلوغ، والعقل؛ إذًا يشترط التكليف؛ بأن يكون الراوي -الذي يترجح صدقه على خطئِه وكذبه- مُكلفا.

    (حالة الأداء)
    : والأداء قلنا: المراد به: إبلاغ الحديث للغير، ليس كالتحمل.

    إذًا التكليف المراد به: البلوغ، والعقل، واشتراط العقل هذا بالإجماع، لماذا؟

    قالوا: إذ لا وازع لغير العاقل يمنعه من الكذب، هو لا يميز بين الكذب وغيره أصلا، فكيف يُقال: بأنه تُقبَل روايته؟!

    ولذلك شرط العقل هذا للتحمل والأداء، فيُفَصّل في كلام المصنف هنا؛ لأنه أطلق، وأما البلوغ فهو شرط في الأداء كما قال المصنف.

    إذًا العقل شرط لقبول رواية الراوي، هو أصل الضبط، والبلوغ هو الوازع عن الكذب، ولذلك الصبي الصغير لا يقبل خبره، والمجنون كذلك لا يُقبَل خبره؛ لكونه لا يعرف الله تعالى، ولا يخافه؛ ولذا اتفق الصحابة على قبول أخبار أصاغر الصحابة -كابن عباس، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والحسن، والحسين، والنعمان بن بشير- إذا أدوا ذلك بعد البلوغ، تحملوا وهم صغار، ثم أدوا ذلك بعد البلوغ، فيكون البلوغ شرطا للأداء، لا للتحمل، بل كان كثير من أهل الحديث يأتون بأبنائهم في مجالس رواية الحديث من أجل أن يكتبوا، ولذلك اختلفوا متى يكتب الصبي؟

    قيل: خمس سنين، وقيل: بالتمييز، إلى آخر الخلاف، لكن قال السيوطي رحمه الله:

    وَكَتْبُهُ وَضَبْطُهُ حَيْثُ اسْتَعَـدّ
    وَإِنْ يُقَدِّمْ قَبْلَـهُ الْفِقْـهَ أَسَـدّ
    "وكتبه": أي كتب الصبي الصغير.

    "وضبطه": يعني تشكيله.

    "حيث استعد": متى ما كان مستعدا عقليا فليجلس وليكتب وليضبط.

    "وَإِنْ يُقَدِّمْ قَبْلَـهُ الْفِقْـهَ أَسَـدّ": هذا على طريقة الأقدمين؛ أنه كان يُقدم الفقه على دراسة الحديث.

    إذًا التكليف هو الشرط الثاني حالة الأداء، نقول: العقل إجماعا؛ إذ لا وازع لغير عاقل يمنعه من الكذب.

    والبلوغ عند الأئمة الأربعة؛ لاحتمال كذب من لم يبلغ؛ كالفاسق، بل أولى؛ لأنه غير مُكلف، فلا يخاف العقاب، الصبي قد يكذب، فلو أدى قد يزيد، قد ينقص؛ لأنه لا يخاف، بل لا يدرك قدر الحديث، ولا أداء الحديث، ولا ما يترتب على كذبه، ونحو ذلك؛ ولذلك قيل: البلوغ شرط للأداء، لا للتحمل، والعقل لهما معا.

  13. #33

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع شروط الراوي:

    (3) الضبط:


    [المتن]:

    [والضبط سماعا وأداء(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والضبط سماعا وأداء):

    (والضبط):
    أي والشرط الثالث باعتبار قبول رواية الراوي: الضبط، ولم يقيده بالتمام؛ لكون الشرط عاما لمطلق الرواية التي تُقبَل، والذي يُقبَل لا يُختَص بالصحيح لذاته، قد يكون صحيحا لذاته، لغيره، حسنا لذاته، حسنا لغيره، فحينئذ يشترط مطلق الضبط، لا التمام؛ لأن المبحث هنا مبحث عام.

    (والضبط سماعا وأداء):
    الضبط لئلا يُغير اللفظ والمعنى؛ فلا يوثق به، والمراد به: غلبة ضبطه؛ لأن الخطأ اليسير لا بد منه، هو بشر، فإذا وقع في سهوٍ ما أو غلطٍ ما ونحو ذلك يقبل، ويكون تام الضبط.

    وكيف يحكم عليه بكونه ضابطا؟

    يُقارن بينه وبين غيره من الأئمة الحُفّاظ -وهم الضابطون- فإن وُجِد أنه موافق لهم في الأغلب الأعم عُد ضابطا، وإلا فلا.

    والضبط سماعا وأداء: أن يؤدي ما تحمله على وجهه من غير زيادة فيه ولا نقص سماعا وأداء، يسمع فيكتب، أو يحفظ فلا يزيد ولا ينقص، ثم يؤدي ذلك كما سمعه، يؤدي ما سمع كما سمع لا يزيد ولا ينقص، ولا يضر يسير خطأ؛ لعدم سلامته، وهذا يكاد يكون اتفاقا بين أئمة الحديث.

  14. #34

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تابع شروط الراوي:

    (4) العدالة:


    [المتن]:

    [والعدالة فلا تقبل من فاسق، إلا ببدعة متأولا عند أبي الخطاب والشافعي(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والعدالة فلا تقبل من فاسق، إلا ببدعة متأولا عند أبي الخطاب والشافعي):

    الشرط الرابع:
    فيمن تُقبل روايته أو تُرد.

    (والعدالة):
    أن يكون عدلا، وهذا بالإجماع.

    والعدالة لغة: التوسط في الأمر من غير زيادة ولا نقصان.

    وفي الاصطلاح: صفة راسخة في النفس تحمله على ملازمة التقوى والمروءة وترك الكبائر والرذائل بلا بدعة مُغلَظة؛ يعني من كان آتيًا بالواجبات، مُجتنبا للكبائر والمحرَّمات، واقفا مع ما يخرم المروءة، متلبسًا بالآداب والأخلاق، آتيًا بما يحمده الناس، مُجتنبا ما يذمه ويُبغضه الناس، هذا هو العادل، تام العدالة.

    (فلا تُقبل من فاسق)
    : وهذا منصوص عليه، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}[الحجرات6]؛ أي "تثبتوا" كما في القراءة الأخرى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ}؛ يعني من اتصف بالفسق، {فَتَبَيَّنُوا}، {فتثبتوا}، إذًا لا تقبَلوا خبره هكذا، وإنما لا بد من التبين والتثبت.

    (إلا ببدعة متأولا)
    : صاحب البدعة في الموضعين -سواء كانت البدعة مُكفرة أو مُفسقة- قد يكون صاحب هوى، غير متأول، مستندا إلى عقله دون كتاب أو سنة؛ هذا لا حكم له، ولا يُلتفت إليه، وأما صاحب البدعة المتأول -الذي اجتهد، وطلب الحق، ونظر إلى الكتاب والسنة، وكان مستنده قول الله تعالى وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم- هذا أمره أخف، وأهل البدع ليسوا على مرتبة واحدة، هذا لا بد من الوقوف معه، أهل البدع ليسوا على مرتبة واحدة، وإذا كانوا كذلك فيكون التعامل معهم على تفاوتهم ومراتبهم في بدعهم؛ ولذلك وقع الخلاف عند أئمة السلف في التفريق بين مبتدع ومبتدع، بين بدعة وبدعة، بدعة مُكفرة متأول أو غير متأول، بدعة مُفسقة متأول أو غير متأول، لو كانت على مرتبة واحدة لما اختلفوا، لو كان أهلها على مرتبة واحدة لهُجروا كليا، ولكن لمّا وقع التخفيف ولمّا وقع الاستثناء علمنا أن البدعة تختلف، ويكون أهلها على طبقات ومراتب.

    (إلا ببدعة متأولا عند أبي الخطاب والشافعي):
    وهذا ما يسمي بالفسق الاعتقادي؛ لأنهم يقولون: من كان متأولا ببدعة؛ مرادهم: البدعة الاعتقادية؛ كأمور الصفات ونحوها، وأما الجوارح فهذا الأصل أنه لا يُغتفر؛ لعدم الشبهة، ولأنها داخلة في مسمى العدالة.

    العدالة ما هي؟

    سلامته من ترك الواجبات وفعل المحرمات.

    حينئذ لو فُسّق من جهة الجوارح ليس كمن فسّق من جهة الاعتقاد متأولا، وهنا نفرق في الفسق؛ فسق اعتقادي، وفسق عملي، وهناك يذكرون عند المتأخرين بدعة اعتقاديه مكفرة فقط، ونضيف إليها بدعة أيضًا مُكفرة عملية؛ لأن الكفر قد يكون اعتقادا، وقد يكون عملا، هو ضد الإيمان، فنقول: الكفر ضد الإيمان، كما أن الإيمان يكون قولا واعتقادا وعملا، الكفر ضده يكون بالاعتقاد، ويكون بالقول، ويكون بالعمل؛ يعني قد يكفر عملا ولو لم يعتقد، وقد يكفر باللسان ولو لم يعتقد، وقد يكفر بالاعتقاد ولو لم يعمل، وكذلك الإيمان مركّب من ثلاثة أركان، وأعمال الجوارح -كما هو مذهب السلف- داخلة في مسمى الإيمان، ولذلك يذكرون في كتب المصطلح عند المتأخرين -تنبه إلى هذا يا طالب العلم- البدعة المكفرة يقصدون بها الاعتقادية، ولا يذكرون العملية، وهنا يذكرون البدعة المفسقة الاعتقادية والعملية؛ لأن أكثر المتأخرين أشاعرة، وعندهم الكفر اعتقادي فقط، ولا يكون الكفر عمليا، وهذا ليس بصحيح، بل هو مذهب الجهم بن صفوان، حصر الكفر في الاعتقاد؛ أنه لا كفر إلا بالاعتقاد، هذا مذهب الجهمية.

    (والعدالة فلا تقبل من فاسق):
    لأن الخبر أمانة، علل بعضهم، ومنهم القرطبي -رحمه الله تعالى-، قال: "لأن الخبر أمانة، والفسق قرينة تبطلها"، الخبر أمانة، والفاسق لا أمانة له.

    (إلا ببدعة)
    : أي إلا من فسق من جهة الاعتقاد، لا من جهة الجوارح عند أبي الخطاب والشافعي.

    هذه أربعة شروط: الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة، لا بد من وجودها، وأهل الحديث يذكرون اثنين فقط، ويدرجون بعضها تحت بعض.

    لِنَاقِلِ الأَخْبَارِ شَرْطَانِ هُمَـا
    عَدْلٌ، وَضَبْطٌ: أَنْ يَكُونَ مُسْلِمَا
    مُكَلَّفًا لَمْ يَرْتَكِـبْ فِسْقًـا
    ولا خَـرْمَ مُـرُوءَةٍ وَلا مُغَفَّـلا
    يَحْفَظُ إِنْ يُمْلِ، كِتَابًا يَضْبُـطُ
    إِنْ يَرْوِ مِنْهُ عَالِمًا مَا يُسْقِطُ
    إِنْ يَرْوِ بَالْمَعْنَى، وَضَبْطُهُ عُرِفْ
    إِنْ غَالِبًا وَافَقَ مَنْ بِهِ وصِفْ
    هكذا قال السيوطي في (ألفية المصطلح).

  15. #35

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    حكم رواية المجهول:

    [المتن]:

    [والمجهول في شرط منها لا يقبل كمذهب الشافعي، وعنه: إلا في العدالة، كمذهب أبي حنيفة(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والمجهول في شرط منها لا يقبل كمذهب الشافعي، وعنه: إلا في العدالة، كمذهب أبي حنيفة):

    (والمجهول):
    من هو المجهول؟

    الذي لا تعرف عينه، "عن رجل"، "حدثني رجل"، هذا ما عُرفت عينه، أو سماه: "حدثني زيد"، و "زيد" هذا لا يُعرَف، لم يُزكه أحد، أو يُجرَح، أو لم يرو عنه إلا شخص واحد؛ نقول: هذا مجهول.

    (والمجهول في شرط منها)
    : يعني لا يُعرَف هل هو مسلم أو لا؟ هل هو مكلف أو لا؟ هل أدى مكلفا؟ هل تحمل عاقلا؟ هل هو ضابط؟ هل هو عدل؟ إذا لم يُعرَف.

    (لا يُقبَل):
    لأن هذه شروط وجودية، ليست من الشروط العدمية، لو كانت شروطا عدمية لاستصحبنا الأصل، لكن لا يمكن أن يكون الإنسان في الأصل ضابطا، أو في الأصل مسلما إلا إذا كان نشأ بين مسلمين، ولا يكون الأصل أنه عدل، وإنما هذه شروط وجودية، وإذا كانت الشروط وجودية لا بد من التحقق، ولا بد من التثبت، لا بد من العلم، فيكون العلم في الوجود، وليس عدم العلم بالوجود هو الشرط؛ يعني هل يشترط أن نعلم فسقه أو سلامته من الفسق؟ أو الأصل العلم بعدم الفسق؟

    الأول؛ لأن العدالة وجود، ولا بد أن نُثبت العدالة بعلمنا بالعدالة، أما عدم علمنا بالعدالة ليس بعدالة، عدم علمنا بالفسق ليس بتعديل له من جهة الفسق، وهلم جرا.

    حينئذ نقول: هذه الشروط الأربعة إنما هي شروط وجودية، والشيء إذا كان مشروطا للوجود لا بد من تحققه؛ وجوده بالفعل، ولا بد من تعلق الإدراك والعلم به، وإلا الأصل عدم وجوده.

    ولذلك نقول: "من شك في ركن فكتركه"، هكذا المذهب؛ كأنه تركه، الشك هنا غير معتبر؛ لأنه هل فعل أو لم يفعل؟

    الأصل عدم الوجود، والركن مطلوب الوجود، إذًا لا بد أن يعلم ويتحقق أنه ركع، أو قرأ الفاتحة، أو أنه سجد، فإذا لم يتحقق أنه سجد فالأصل عدم السجود، فلا بد أن يأتي بها.

    فإذا شك في السجود سجد أو لم يسجد؟

    نقول: الأصل أنه لم يسجد.

    وإذا شك في الركوع هل ركع أو لا؟ شك في الفاتحة هل قرأ أو لا؟

    نقول: الأصل عدم القراءة؛ لأن هذه أركان وجودية، والشيء إذا كان وجوديًا يتعلق العلم بوجوده، وعدم العلم هذا ليس بشيء.

    (والمجهول في شرط منها لا يقبل كمذهب الشافعي):
    وهو مذهب الجمهور، قول الجمهور أنه لا يُقبَل مطلقا.

    (وعنه):
    أي عن الإمام أحمد رواية أخرى.

    (إلا في العدالة)
    : لأن الشرط عدم العلم بالفسق، ليس العلم بالفسق، لا، نقول: العكس هو الأصح.

    (وعنه إلا في العدالة):
    يعني مجهول العدالة يُقبَل، أما مجهول الإسلام، ومجهول الضبط، ومجهول التكليف؛ لا يُقبَل.

    إذًا اتفقوا على شيء، واختلفوا في شيء.

    اتفقوا على أن الجهل بالإسلام وبالتكليف وبالضبط لا يُقبَل.

    ويكون الخلاف في الرابع فقط، وهو الجهل بالعدالة.

    ولا فرق في الشك في العدالة وباقي الشروط، فلا يُفرَّق بينهما، والقياس على الشهادة -كما ادعاه بعضهم؛ لأن الشاهد لا بد وأن يكون عدلا- والقياس على الشهادة؛ يعني شهادة مجهول العدالة لا تقبل؛ يعني نقيسه على ماذا؟

    يكون العكس هو الدليل، عدالة الشاهد لا بد أن تكون معلومة، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[الطلاق2]، {ممن ترضون من الشهداء}، ولا ترضى إلا من كان عدلا، حينئذ نقيس الراوي على الشاهد.

    إذًا لا بد من العلم بالعدالة، على العكس من يستدل بالتفريق بينهما، بل هما سيان، والمجهول في الأصل غير عدل.

    (وعنه إلا في العدالة؛ كمذهب أبي حنيفة)
    : لأنه لا تُقبل عنده إذا كان مجهول الإسلام أو التكليف أو الضبط، واستثنى مجهول العدالة فتُقبَل، وبعضهم يرى أن الأصل في المسلم العدالة، وهذا توسع فيه ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-، في مسألة العدالة؛ لأنه يقول: كيف تثبت العدالة؟

    إما بالاستفاضة، وإما بالنص.

    ** إما بالاستفاضة؛ أن يكون مشهورا؛ كالأئمة الأربعة؛ كالبخاري، ومسلم، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وغيرهم، نقول: هؤلاء مشهورون بالعدالة، فلا يُسأَل عنهم.

    ** أو بالنص من إمام عالم بأسباب الجرح والتعديل إلى آخره بأن فلانا عدل.

    وَاثْنَانِ إِنْ زَكَّاهُ عَدْلُ وَالأَصَحْ
    إِنْ عَدَّلَ الْوَاحِدُ يَكْفِي أَوْ جَرَحْ
    أَوْ كَانَ مَشْهُورًا، وزَادَ يُوسُفُ
    بِأَنَّ كُلَّ مِـنْ بِعِلْـمٍ يُعْـرَفُ
    عَدْلٌ إِلَى ظُهُورِ جَرْحٍ، وَأَبَوْا .............................

    من هو يوسف؟

    ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-، أن كل من عُرف بطلبه للعلم فهو عدل حتى يثبت الجرح، الأصل العدالة، وأبوا: رُد عليه -رحمه الله تعالى-.

    إذًا الاستفاضة والشهرة بها تُعلَم العدالة، وكذلك بالتنصيص من عالم، والأصح أنه يكفي واحد، لو نصّ عالم إمام في الجرح والتعديل على أن فلانًا عدل نقبل، والقول بأنه لا بد من اثنين قول مرجوح، بل أكثر المحدثين على أن واحدا يكفي.

    وَاثْنَانِ إِنْ زَكَّاهُ عَدْلُ وَالأَصَحْ

    إِنْ عَدَّلَ الْوَاحِدُ يَكْفِي أَوْ جَرَحْ

    فلو جرح واحد كفى، ولو عدّل واحد كفى، واشتراط الاثنين كالشهادة ليس بسديد.

  16. #36

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    شروط الراوي المختلف فيها:

    [المتن]:

    [ولا يشترط ذكوريته، ولا رؤيته، ولا فقهه، ولا معرفة نسبه(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ولا يشترط ذكوريته، ولا رؤيته، ولا فقهه، ولا معرفة نسبه):

    لأن بعضهم اشترط هذه الأمور.

    (ولا يشترط):
    يعني للراوي.

    (ذكوريته):
    أن يكون ذكرا، كم وكم روت عائشة -رضي الله عنها- من أحاديث! وأسماء، وأم عطية .. إلخ، فقَبل أئمة السلف رواية عائشة، وهي أنثى، إذًا لا يشترط ذكوريته.

    (ولا رؤيته):
    يعنى رؤيته للنبي -صلى الله عليه وسلم- لو كان من جهة الصحابي، فالضرير تُقبَل روايته، كذلك لو كان من وراء سِتر، كم من الصحابة ممن رووا عن عائشة وهي من وراء حائل؟! إذًا لا يشترط الرؤية.

    (ولا فقهه):
    لا يشترط أن يكون فقيها كما نصّ عليه بعضهم، «فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ»، إذًا لا يشترط أن يكون الراوي فقيها، وإنما اشترطه بعضهم من أجل أنه إذا روى بالمعنى يكون عالما بما يروي.

    (ولا معرفة نسبه):
    فتُقبَل رواية مجهول النسب، بل عديم النسب؛ كولد الزنا ونحوه؛ لأن هذه لا مدخل لها في تحقق صفة قبول رواية الراوي أو رده، كونه ذا نسب ليس لها دخل، وإنما النظر في ضبطه، في إسلامه، في تكليفه، في عدالته، فإذا توفرت هذه ليس لنا دخل في النسب، سواء كان له نسب مجهول، أو ليس له نسب، بل عديم النسب.

  17. #37

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    حكم رواية المحدود بالقذف إن كان شاهدا:

    [المتن]:

    [ويقبل المحدود في القذف إن كان شاهدا(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (ويقبل المحدود في القذف إن كان شاهدا):

    شهادة الزنا لا بد أن تكون من أربعة، فلو وُجد ثلاث ولم يتم النصاب يُجلَد الثلاث؛ يُحد، حينئذ إذا حُدّوا في القذف نقول: يُحدوا للشرع، وتُقبل روايتهم؛ لأن الحد هنا ليس لكونهم ارتكبوا مُفسَّقًا، وإنما لنقص النصاب، وإخراجهم للشهادة هنا مخرج الخبر لا مخرج القذف، فالحد هنا لعدم تمام النصاب، لا لكونهم قاذفين؛ لأنه لو قذف لصار فاسقا، فلا بد من التوبة، فإذا علمنا توبته وثبتت؛ تُقبَل روايته؛ يعني من تاب عن فسق كمن لا ذنب له.

    ولكن هنا المراد به: إن حُدّ المحدود في القذف؛ بحيث إنه كان أحد الشهداء ولم يتم النصاب، هل نعتبر هذا؟ لأن أبا بكرة وبعض الصحابة حُدّوا، وبعضهم طعن في من حُدّ في قذف عائشة -رضي الله عنها- من أجل ألا تُقبَل روايتهم.

    نقول: لا، هذا ليس من أجل كونه فسقا، وإنما لأمر خارج عن العدالة، وهو عدم إتمام النصاب.

    قال أصحاب الإمام أحمد: إن قَذَفَ بلفظ الشهادة قُبلت روايته؛ لأنه قد يَقذف بلفظ الشهادة؛ يعني يكون شاهدا، فلا يتم النصاب فيُقذف، وقد يَقذف فيقول: "يا زانٍ"، هذا فرق بين أن يُحد من أجل شهادة لم تتم، وبين أن يكون قاذفا "يا زانٍ" مثلا، نقول: قذف بنفسه، فلا بد من توبة؛ لأنه يُعَد مُفسقا.

  18. #38

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    عدالة الصحابة:

    [المتن]:

    [والصحابة كلهم عدول بإجماع المعتبرين(1)].

    [الشرح]:

    (1)
    (والصحابة كلهم عدول بإجماع المعتبرين):

    (والصحابة)
    : لم تكلم عن هذه الشروط الأربعة ومحترزاتها؟

    ذكر الصحابة لأنهم هم الطبقة الأولى في رواية الأحاديث، وهل يُتعرض لهم بتعديل أو تجريح؟ وهل هذه الشروط تشملهم أو لا؟

    (والصحابة كلهم)
    : هذا تأكيد.

    (عدول):
    بتعديل الله تعالى لهم، عدّلهم الله -عز وجل-.

    (بإجماع المعتبرين):
    من يُعتَد به، بإجماع المعتمدين.

    وَهُمْ عُدُولٌ كُلُّهُـمْ لا يَشْتَبِـهْ
    النَّوَوِيْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِـهْ
    قال النووي: "أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِـهْ"؛ من أهل العلم، أما من كان من أهل البدع -كالرافضة ونحوهم- فلا عبرة بهم في إجماعات أهل السنة والجماعة.

    وإذا كان الصحابة عدولا فلا حاجة إلى البحث عن عدالتهم، فجهالة الصحابي لا تضر، ويُبنى على هذه المسألة -كما سيأتي- مرسل الصحابي.

    وَمُرْسَلُ الصَّاحِبِ وَصْلٌ فِي الأَصَحْ

    لأن الغالب أن الصحابي لا يروي إلا عن صحابي، فإذا أسقط الصحابي الواسطة بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- نقول: الصحابي جهالته لا تضر؛ لأن القاعدة أنهم كلهم عدول بإجماع العلماء المعتبرين.

    وَهُمْ عُدُولٌ كُلُّهُـمْ لا يَشْتَبِـهْ
    النَّوَوِيْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِـهْ
    إذًا فهذا مبني على هذا، وأما من فصّل بأنهم عدول إلى زمن الفتنة، ثم لا بد من البحث .. إلخ، نقول: هذه الأقوال كلها ضعيفة ومردودة، قال تعالى في شأنهم: {وَالسَّابِقُون الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ}[التوبة100]، وقال جل وعلا: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}[الفتح18]، وقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء}[الفتح29]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرني»، وقال: «لا تؤذوني في أصحابي»، ثم فيما تواتر من صلاحهم وطاعتهم لله ولرسوله غاية التعديل، حبهم لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، وجهادهم، وتضحيتهم من أجل الدين هذا يكفي لعدالتهم، ولا نحتاج إلى أن نبحث، وما وقع فيما بينهم من خلاف؛ نقول: نسكت عما شجر بينهم، ولا يُعد ذلك طعنا، كلٌ مجتهد وإن كان فيهم مصيب وفيهم مُخطئ، لكن نقول: هذا حصل من باب الاجتهاد، والقاضي إذا اجتهد وأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ له أجر واحد، ولا نبحث ولا نستفصل ولا نتحامل على شخص معين، بل ولا نقرأ ولا نذكر هذا للناس عموما، وإنما تطوى ولا تُروى.

  19. #39

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    تعريف الصحابي:

    [المتن]:

    [والصحابي من صحبه ولو ساعة، أو رآه مؤمنا(1)].

    [الشرح]:

    (1) (والصحابي من صحبه ولو ساعة، أو رآه مؤمنا):

    (والصحابي)
    : من هو الصحابي؟

    (من صحبه)
    : يعني صحب النبي -صلى الله عليه وسلم-.

    (أو رآه)
    يجعلنا نعمم قوله: (صحبه)؛ لأن المراد به الصحبة؛ فالصحبة المراد بها اللقاء؛ فحينئذ يعم البصير والأعمى.

    (ولو ساعة)
    : يعني لا يُشترط طول الصحبة كما هو مذهب كثير من الأصوليين، هذا التعريف جارٍ على مذهب أهل الحديث، أن شرف اللقاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أعطى الصحبة لكل من رأى النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولو لم يجلس معه، ولو رآه عن بعد؛ فحينئذ نقول: لا يشترط طول الصحبة.

    حَدُّ الصَّحَابِي مُسْلِمًا لاقَى الرَّسُولْ
    وَإِنْ بِلا رِوَايَـةٍ عَنْهُ وَطُـولْ
    "وَإِنْ بِلا رِوَايَـةٍ": ولو لم يرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو صحابي، وإن لم تطل صحبته، بل لو رآه ساعة؛ لو لحظة نحكم بصحبته، وإن كانوا يتفاوتون فيما بينهم، لذلك من لزم النبي -صلى الله عليه وسلم- مدة بعثته ليس كمن رآه قبل وفاته بعشرين يوم مثلا، لا يستويان قطعا.

    (من صحبه ولو ساعة): حينئذ (ولو ساعة) فيه رد على من اشترط طول الصحبة كما هو مذهب كثير من الأصوليين وبعض أهل الحديث المتأخرين.

    (أو)
    : للتنويع.

    (رآه):
    يعني رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو لم يجتمع به، رآه يقظة حيا، فلو رآه مُسَجّى لا تثبت الصحبة.

    لو رآه في المنام؟

    كان الصوفية كلهم صحابة!

    قال ابن الصلاح: "وهذا لشرف منزلة النبي -صلى الله عليه وسلم- أعطوا كل من رآه حكم الصحبة"، ولابن حجر -رحمه الله تعالى– تعريف مشهور: "من اجتمع بالنبي -صلى الله عليه وسلم- مؤمنا به، ومات على ذلك ولو تخللت ردة في الأصح"، وله شرح جيد في المسألة.

  20. #40

    افتراضي رد: "مباحث الأدلة" مصححة منقحة .. للعلامة أحمد بن عمر الحازمي

    طرق معرفة الصحابي:

    [المتن]:

    [وتثبت صحبته بخبر غيره عنه، أو خبره عن نفسه(1)]

    [الشرح]:

    (1)
    (وتثبت صحبته بخبر غيره عنه، أو خبره عن نفسه):

    (وتثبت الصحبة):
    بماذا؟

    نقول: بالتواتر؛ كالخلفاء الأربعة الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة، كذلك تثبت بالاستفاضة أو الشهرة؛ كضمام، وعكاشة، لكن دون التواتر.

    أو (بخبر غيره عنه): لو أخبر صحابي بأن فلانا صحابي تثبت الصحبة.

    (أو بخبره عن نفسه):
    عند الجمهور، لو قال: أنا صحابي، أنا التقيت بالنبي -صلى الله عليه وسلم- يُقبَل بشرط المعاصرة والعدالة؛ لأنه ثقة مقبول القول فقُبل في ذلك؛ كروايته بشرط أن يكون معاصرا؛ يعني وقت النبي -صلى الله عليه وسلم- عدلا.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •