بين البدعة والمصلحة المرسلة :
وضع شيخ الإسلام ابن تيمية قيدين لوصف الأمر المستحدث بأنه (بدعة) ممنوعة وليس (مصلحة مرسلة) جائزة ، فهذان القيدان الآتيان (المشار إليهما) إنما وضعهما شيخ الإسلام للتفريق بين (البدعة) و( المصلحة المرسلة) ، لا لتعريف البدعة ، فوقع خلط في فهم كلامه ، وغُفل بسببه عن معنى البدعة !!
وهذان القيدان هما : أن الأمر المستحدث لا يكون بدعة ؛ إلا إذا :
1- قام الداعي لوجوده في زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
2- وكان عمله ممكنا غير ممتنع .
يعني : لا يكون الأمر المستحدث بدعة وليس مصلحة مرسلة إلا إذا تحقق فيه هذان الشرطان ، ومع ذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن عدم فعله مع تحققهما ، يدل على أن الترك كان مقصودًا للشرع ، فيكون إحداثه مخالفا لمقصود الشرع .
أما ما لم يقم داعيه في زمنه صلى الله عليه وسلم ( كالأذان الأول يوم الجمعة ، والذي ظهرت الحاجة إليه بعد اتساع المدينة المنورة في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه) ، أو قام ولا أمكن فعله ( كجمع المصحف في كتاب واحد ، بسبب استمرار تنزل الوحي في حياته صلى الله عليه وسلم ) = فهذا هو المصلحة المرسلة .
وهذا تفريق متقن ، لكن يغفل كثير من الباحثين المعاصرين ومن الموسومين بالتخصص : عن أن هذا التحرير ليس تعريفا لـ(لبدعة) ، ولا يلغي تعريف (البدعة) في العبادات ، وأنه ليس بديلا عن ذلك التعريف . وهو التعريف الذي يشترط في الأمر المبتدع في العبادات أن يكون عامله يعمله على وجه التقرب والتعبد به ، كما قيل : (( يُقصد بالسلوك عليها ما يُقصد بالطريقة الشرعية)) ، أو : (( يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه)) .
فمثلا : الأذان الأول وجه كونه ليس بدعة ( كما سبق في مقالي : سنة الخلفاء الراشدين) : إما أنه موقوف له حكم الرفع ، وإما لكونه مصلحة مرسلة . ولكنه لن يكون مصلحة مرسلة لو ظننا أنه هو بذاته عبادة يُتقرب بها إلى الله تعالى ؛ أما أن يُتقرب بتيسيره للعبادة وتحقيقه لمصلحتها فهذا لا يجعله عبادة بذاته ، ويُبقيه في حيز ( المصلحة المرسلة) . وهذا كمن وقف سيارات توصل الناس إلى المساجد ، يتقرب بالمصلحة التي يحققها هذا الوقف ، ولا يتقرب بالوسيلة نفسها ؛ لأنها ليست قربى .
فينسى بعض المعاصرين تمام تقرير شيخ الإسلام ، في التفريق بين البدعة والمصلحة المرسلة ، أو ما يجب أن يكون عليه تقريره ، أو ما يجب أن يكون عليه التقرير الصحيح ( لأن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ليس حجة بذاته ، كغيره من أهل العلم ) . فيبدّع هؤلاء الغافلون عن تمام فقه الباب كلَّ عملٍ وُجد داعيه في زمن الوحي ولم يكن ممتنعا فعله ، أي يبدعون الأمر المستحدث الذي اجتمع فيه القيدان المذكوران دون النظر إلى شرط التبديع في العبادات ، وهو اعتقاد التقرب بها ( التعبد ) ، أو لا يفرقون بين التقرب بالوسيلة ( وهو البدعة ) والتقرب بالمصلحة الشرعية ( وهو المصلحة المرسلة ) .
ومما يؤكد عدم إتقان عامة هؤلاء لفقه الباب : أنهم هم أنفسهم مرتضون لتعريف الشاطبي للبدعة ، والذي يشترط فيه قصد التعبّد فيها ، ثم هم أنفسهم يمارسون تبديع بعض المصالح المرسلة ، مع عدم تحقق شرط قصد التعبّد بها .
فلقد وُجد من يُبدّع المحاريب والمآذن والزيادة في عدد درجات المنبر وخطوط السجاد التي تعين على تسوية الصفوف ، بحجة أنها ليست مصالح مرسلة ؛ لأن داعيها موجود منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا كان هناك عجز عن فعله قالوا : فترك النبي صلى الله عليه وسلم يدل على تعمد الترك لعدم المشروعية ؛ لأنها تحقق فيها : قيام الحاجة ، وعدم نعسر العمل ، فضلا عن تعذّره !
وهم بذلك قد جهلوا أن شرط البدعة قصد التعبّد بها ، أما أن لا يُقصد بها التعبد ، وإنما يُقصد بها تيسير تحقيق العبادة أو تحصيلها ، بطريقة لم يمنع منها الشرع ، فهي مصلحة مرسلة ، ليست من البدعة في شيء .
والغريب أنهم من تناقضهم : يأتون لأمور أخرى تقع في حيز البدعة حسب تقريرهم ، فيسكتون عنها !! كالفصل بين صفوف الرجال والنساء في المساجد بالسُّتر الغليظة ، والتي قد تصل حد البناء والعزل التام . فالفصل بين صفوف الرجال والنساء كان ممكنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، والداعي هو الداعي ، ألا وهو الميل الغريزي للجنسين إلى بعضهما . ومع ذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم !! فكان يجب عليهم تبديع ذلك أيضًا ، بتقريرهم الخاطئ نفسه .
لكن يبدو أن عين التبديع لا تعرف الموضوعية العلمية ، وتنتقي بالهوى ما تبدعه وما لا تبدعه .
وعندي أن وضع هذه الأستار بين الرجال والنساء في المساجد ليست بدعة ، لكني أرى منعها لأسباب أخرى ، منها :
- أنها كثيرا ما تؤثر في حسن الائتمام ، فلا يستطيع النساء الاقتداء بالإمام بسببها .
- أن الشرع لم يرد عزل النساء عن الرجال بالكلية ، وأن هذا العزل المبالغ فيه له نتائج عكسية على العلاقة بين الجنسين ، كما نشاهده عيانا في المجتمعات التي تبالغ في هذا العزل . ولو كان مقصودا للشارع ، لما تأخر عنه . لكنه سمح بنوع خلطة يسيرة : تعين على منع المفاسد , وتحقيق المصالح .
د/حاتم العوني.