21-04-2014 | د. عامر الهوشان
وفي هذا المقال سأتناول موضوع تسليم بيت المقدس لأعداء المسلمين بين الماضي والحاضر, حيث التاريخ يعيد نفسه بشكل أو بآخر, بوجوه جديدة ومضمون واحد, فكما أن تاريخنا الإسلامي حافل بالأبطال والعظماء والفاتحين, فإنه لا يخلو من بعض الخيانات والانتكاسات التي جرت على يد أناس باعوا أنفسهم لأهوائهم وأطماعهم الشخصية, وحادوا عن منهج السلف الصالح من هذه الأمة, إما طلبا للمتعة الدنيوية الزائلة, أو نتيجة حقد وكره للإسلام والمسلمين.

لم تشهد منطقة في الأرض صراعا فكريا وأيديولوجيا عقائديا -ناهيك عن الصراع العسكري- كما شهدت مدينة القدس, فعلى الرغم من انتكاس اليهود عن طاعة أمر الله تعالى ونبيه موسى عليه السلام بدخول الأرض المقدسة, والتي ذكرت في القرآن الكريم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} المائدة/21, إلا أنهم يزعمون أن هذه الأرض أرضهم, وأن الله وعدهم بها وخصها لهم, متمسكين بنصوص توراتية وتلمودية محرفة ما أنزل الله بها من سلطان.
وعلى غرار اليهود يزعم النصارى أن هذه المدينة المقدسة لهم, وأن جميع مقدساتهم فيها, كما أن النصارى البروتستانت المعاصرين يعتقدون أن عودة اليهود إلى فسطين والقدس وتمكنهم فيها أمر لا بد منه لخروج مسيحهم المنتظر المزعوم, وعلى هذا الأساس يمكن فهم الدعم الأمريكي –خاصة في عهد المسيحيون الجدد- اللامحدود لليهود في فلسطين المحتلة.
ونتيجة لهذا الصراع الفكري القائم منذ مئات السنين, كان من الطبيعي نشوء الصراع العسكري على هذه المدينة -بغض النظر عن المحق من المبطل– والذي امتد منذ زمن ابراهيم عليه السلام ويوشع بن نون عام 1186 ق.م, ثم كانت معركة طالوت وجالوت التي ذكرت في القرآن الكريم, مرورا بالاسكندر المقدوني عام 332 ق م, فالصراع الروماني الفارسي على هذه الأرض, اللذان لم يتوان كل منهما عن إحراق هذه المدينة المقدسة وتدميرها وتدنيس مسجدها الأقصى المبارك, ليأتي الفتح الإسلامي أخيرا ليخلص هذه المدينة من عبث وفساد السابقين, وذلك في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 15هجري 636م.
ومنذ ذلك الوقت لم تسقط القدس بيد الصليبيين قديما أو اليهود حديثا إلا بخيانة من يزعمون انتماءهم للإسلام وهم منه براء –الفاطميون وأمثالهم في العصر الحديث مثالا– أو بانشغال قادة الدول الإسلامية بأطماعهم الشخصية الضيقة, وتفرقهم وتشرذهم وتناحرهم فيما بينهم, وتفريطهم بأبخس الأثمان ملكا بذل أسلافهم دماءهم وأرواحهم ثمنا لتحريره وتخليصه من ظلمات الكفر والظلم والفساد, وإدخاله في نور الإيمان والعدل والإسلام, –الكامل بن العادل وأمثاله في العصر الحديث مثالا-.
وفي هذا المقال سأتناول موضوع تسليم بيت المقدس لأعداء المسلمين بين الماضي والحاضر, حيث التاريخ يعيد نفسه بشكل أو بآخر, بوجوه جديدة ومضمون واحد, فكما أن تاريخنا الإسلامي حافل بالأبطال والعظماء والفاتحين, فإنه لا يخلو من بعض الخيانات والانتكاسات التي جرت على يد أناس باعوا أنفسهم لأهوائهم وأطماعهم الشخصية, وحادوا عن منهج السلف الصالح من هذه الأمة, إما طلبا للمتعة الدنيوية الزائلة, أو نتيجة حقد وكره للإسلام والمسلمين.
تسليم بيت المقدس قديما وحديثا
كان التسليم الأول للقدس قديما في عهد الدولة العبيدية –الفاطمية– التي استعادت القدس من السلاجقة أثناء انشغالهم بصد هجمات الحملة الصليبية الأولى على بلاد المسلمين شمال بلاد الشام عام 1098م, وكأنهم أخذوا المدينة من السلاجقة ليسلموها إلى الصليبيين بعد عام واحد فقط, بل إن العبيديين أثناء حصار الصليبيين لأنطاكية, أرسلوا سفارة للتحالف معهم لقتال السلاجقة, على أن يكون القسم الشمالي (سوريا) للصليبيين, والقسم الجنوبي (فلسطين) للفاطميين, وقد أرسل الصليببيون وفدا إلى مصر للتفاوض في هذا الشأن.
وبسبب فرقة السلاجقة بعد وفاة السلطان السلجوقي (ملكشاه), واقتتال أبنائه من بعده فيما بينهم, وخاصة رضوان صاحب حلب ودقاق صاحب دمشق, وبسبب خيانة الفاطميين وتقاعسهم عن الدفاع عن المدينة المقدسة, سقطت القدس في سنة 1099م, بعد حصار دام أكثر من شهر, استنجد خلاله أهلها بالفاطميين والممالك الإسلامية دون جدوى, ليدخل ريموند دي تولوز بيت المقدس بألف فارس و5000 من المشاة فقط.
لقد ظهرت الخيانات من قبل أعداء هذا الدين –العبيديين– في هذا الوقت العصيب, و انكشف التخاذل الفاضح من قبل ملوك إمارات المدن التي حرصت كل منها على نفوذها وكسب ود الصليبيين أثناء توسعهم في فلسطين, بدلا من توحدهم واجتماعهم للدفاع عنها والذود عن محيطها, فاتصل صاحب إقليم شيزر بالصليبيين وتعهد بعدم اعتراضهم وتقديم ما يحتاجون من غذاء ومؤن, بل وأرسل لهم دليلين ليرشداهم على الطريق!!، وعقدت معهم مصياف اتفاقية!! أما طرابلس فدفعت لهم الجزية بعد هزيمتهم، ودفعت بيروت المال، وعرضت عليهم الدخول في الطاعة إذا نجحوا في احتلال بيت المقدس, وأما عكا فقد قام حاكمها بتموين الصليبيين.
وما أشبه الأمس باليوم, فهل كان يمكن لليهود أن يدخلوا فلسطين عام 1948 لولا بعض الخيانات التي ظهرت أثناء الحرب, سواء من ناحية قلة الأسلحة بيد المقاتلين على الجبهات رغم تكدسها في المخازن, أو فضيحة صفقات الأسلحة الفاسدة, أو قبول الهدنة التي طلبها اليهود لينقضوا بعد ذلك على جيوش الدول العربية, ناهيك عن فرقة حكام العرب والمسلمين وانشغال كل منهم بأغراضه الشخصية الضيقة, والمسارعة لإرضاء أمريكا والغرب على حساب مقدسات المسلمين, تماما كما حصل في سقوط القدس وتسليمها للصليبيين عام 1099م.
لقد عاشت القدس وفلسطين قرونا من الزمان وهي بيد المسلمين معززة مكرمة, تنعم بالأمن والأمان والاهتمام, حيث قام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بتنظيف المسجد الأقصى بعد أن حوله النصارى لمكان إلقاء القمامة والقاذورات, وأمر ببناء المسجد الأقصى من جديد, كما أن عبد الملك بن مروان اهتم ببناء وتوسيع المسجد الأقصى, وقد رصد لهذا البناء خراج مصر سبع سنين, وقد أكمل البناء من بعده ابنه الوليد, وأصبحت القدس وفلسطين في عهد سليمان بن عبد الملك قبلة المسلمين لما فيها من حضارة عمرانية وعلمية وروحية.
وفي العهد العباسي أمر المنصور بترميم المسجد الأقصى كاملا بعد الزلزال الذي أصابه, وكذلك فعل ابنه المهدي من بعده مع التوسعة في مساحته, وكان التسامح سياسة المسلمين مع النصارى طوال تلك الفترة, فقد سمح هارون الرشيد (لشرلمان) امبراطور بيزنطة بترميم كنائس القدس, وفرض حماية لكل مسيحي يريد أن يزور الأماكن المقدسة فيها.
ورغم هذا التسامح الإسلامي العظيم مع جميع النصارى إلا أن الصليبيين لم يحفظوا هذا الصنيع, بل قابلوه بالحقد على المسلمين والانتقام من سماحتهم وعفوهم بالقتل والذبح, فقد ذكرت كتب النصارى فظاعة ما فعل الصليبيون حين دخلوا القدس في أعقاب الحملة الصليبية الأولى, حيث تم قتل وذبح أكثر من 70 ألفا من المسلمين, ونقل الكاهن "ريمون" عن شاهد عيان لهذه المجزرة الرهيبة: "ما استطعت أن أشق طريقي بين الجثث إلا بشق الأنفس ووصل الدم إلى الركب".
وأما التسليم الثاني لهذه المدينة المقدسة فكان في عهد الكامل بن العادل سلطان مصر في عام 626هجرية, والذي أذهل العالم الإسلامي لغرابة وفظاعة ما أقدم عليه.
وكما أن أولاد السلطان السلجوقي (ملكشاه) تنازعوا من بعده واختلفوا واقتتلوا على الملك والسلطان, والذي كان سببا بسقوط القدس مع خيانة الفاطميين, رغم ضعف القوة الصليبية المهاجمة, لم يختلف الوضع في التسليم الثاني للقدس, فما إن توفي صلاح الدين الأيوبي بعد إنجازات عظيمة باستعادة القدس من أيدي الصليبيين في معركة حطين حتى اختلف أبناؤه من بعده واقتتلوا, حتى وطد الأمر لنفسه أخو صلاح الدين الملك العادل, ليعود الخلاف والقتال بعد وفاته بين أبنائه الكامل بن العادل والمعظم عيسى والأشرف موسى.
لقد تحول الجهاد والقتال في عهد أمثال هؤلاء الملوك عن مصداقيته وفاعليته الدينية الإسلامية, إلى قتال من أجل المحافظة على السلطان والملك والمصالح الشخصية الضيقة, فرغم أن الأخوة الثلاثة كانوا سويا في مواجهة الحملة الصليبية الخامسة التي أطلقها (أنوسنت الثالث) مستغلا وفاة الملك العادل الذي كان يقف لحملاتهم بالمرصاد, إلا أنهم لم يكونوا يقاتلون من أجل حفظ وحدة البلاد ودفاعا عن المقدسات, وإنما من أجل محافظة كل واحد منهم على ملكه وسلطانه.
والدليل على ذلك أن الحملة الصليبية حين استطاعت احتلال دمياط والتحفز للانقضاض على القاهرة, عرض الإخوة على الصليبيين الجلاء عن دمياط والتخلي عن عزمهم مهاجمة القاهرة, لقاء التنازل عن مدينة القدس وعسقلان وطبرية وجميع ما حرره صلاح الدين من أرض الساحل في فلسطين ولبنان, إلا أن الفرنجة رفضوا ذلك العرض, واشترطوا تسليمهم أيضا قلعتي الكرك والشوبك, وبعد أن وافق الأخوة أيضا على هذا الشرط أيضا الشرط, فشل الاتفاق بسبب طلب الفرنجة في اللحظة الأخيرة دفع مبلغ قدره 300,000 دينار, وقد فشلت هذه الحملة بسبب فياض نهر النيل وانكشاف الصليبيين.
وهذا إن دل على شئ فإنما يدل على روح الهزيمة والتفاوض على الفتات مقابل احتفاظ كل واحد من الملوك على ملكه وسلطانه, على عكس ما كان عليه الحال أيام نور الدين وصلاح الدين, حيث روح الجهاد والنصر التي كانت سائدة في ذلك العصر, والتي أدت في النهاية إلى دحر الصليبيين عن القدس بعد مائة عام من احتلالها.
وبعد انسحاب الجيوش الصليبية عن بلاد الشام عادت خلافات الإخوة من جديد, وخاصة بين المظفر عيسى والكامل, حيث استعان المعظم عيسى ملك دمشق بجلال الدين بن الملك خوارزم شاه, والذي كان نفوذه يتسع في تلك الفترة, فخاف الكامل على ملكه وسلطانه, فما كان منه إلا أن راسل الإمبراطور فريدريك الثاني, وطلب منه الحضور بجيشه إلى أرض الفرنجة على الساحل الفلسطيني, ليعينه على خطر تحالف أخيه مع ملك خوارزم, وترغيبا له على الحضور عرض عليه مدينة القدس -وكأن المدينة ملكا له أو سلعة يتاجر بها من أجل المحافظة على سلطانه– ولعل الملك الكامل يعلم جيدا أهمية ما يتنازل عنه, فاستعادة القدس كان حلما يراود كل مسيحي في ذلك الوقت, خاصة بعد انتزاع صلاح الدين لها من بين أيديهم, و إخفاق الحملات الصليبية الرابعة والخامسة في استعادتها من المسلمين.
ورغم أن فريدريك كان يوصف بأنه عاق للمسيحية وقليل الحماسة للقيام بحملات لاستعادة القدس كما هو شأن غيره من ملوك أوربا, إلا أن هذا العرض أغراه للظهور بمظهر المسيحي البطل, والتخلص من صفة العقوق التي ألصقتها به الكنيسة وقتها, ورغم أن الحملة لم يتجاوز عدد جنودها 6000 مقاتل فحسب, ورغم وصول هذا الملك إلى ميناء عكا جاء متأخرا جدا, حيث كان قد مضى على وفاة المعظم عيسى سنة كاملة, ولم يعد هناك أي خطر يهدد الملك الكامل, وبالتالي زال سبب تسليم القدس للفرنجة, ناهيك عن النقمة التي ألمت بالإمبراطور فريدريك من قبل البابا, الذي أصدر قرارا بالحرمان البابوي ضده, وأن إمبراطوريته أصبحت تحت وصاية البابا, الأمر الذي يلح على فريدريك بالعودة إلى إمبراطوريته, إلا أنه لم ييأس من إمكانية الحصول على القدس من الكامل.
وفي أغرب وأعجب حادثة تسليم لمدينة مقدسة وعزيزة على المسلمين, والتي لم ترجع إلى سلطان المسلمين إلا من عقود من السنين فقط, بعد جهود مضنية ودماء عزيزة وكثيرة , يأتي تسليم القدس للفرنجة.
لقد راسل فريدريك الكامل وأكثر من مراسلاته, ومع كثرة الهدايا واللجوء إلى لغة الاستعطاف والتذلل, والتي وصلت إلى حد البكاء أمام رسول الكامل كما ذكر, والتذرع بالحرج الشديد وانكسار الهيبة والجاه أمام ملوك أوربا والبابا, والتأكيد على عدم الطمع بالمقدسات الإسلامية وخاصة المسجد الأقصى, بدأ الكامل يصغي إلى مطلب الإمبراطور, ويميل لقبول تسليم القدس دون قتال, وبالفعل فقد سلمت المدينة في 22 ربيع الأول من عام 626 هجري, الموافق 18 فبراير 1229 م تحت مسمى اتفاقية يافا, والتي أثارت موجة سخط وغضب وأسى عارم في البلاد الإسلامية.
وقد نصت هذه الاتفاقية على ما يلي:
1- تسليم القدس للامبراطور على أن تظل أسوار المدينة خرابا ولا تجدد.
2- ألا يكون للفرنجة موطأ قدم خارج مدينة القدس وأن تظل قرى بيت المقدس بيد المسلمين ويديرها وال مسلم.
3- أن يظل الحرم القدسي بما فيه من المعالم (الصخرة والمسجد الأقصى) بيد المسلمين.
4- ألا يسمح للفرنجة بدخول القدس إلا بغرض الزيارة.
وإذا كان الكامل قد تعذر بأسباب واهية لهذا التنازل المخزي, من وجود الخطر الخوارزمي على ملكه وسلطانه, خاصة بعد استنجاد الناصر داود ابن المعظم عيسى به لنجدته, فهي في الحقيقة أعذار وأسباب أقبح من الذنب, حيث التمسك بالأطماع الشخصية للتفريط و التنازل المهين, وهو ما يعتبر الخطر الداهم الدائم على ديار المسلمين, التي تجعل من الاستقواء بالعدو الحقيقي للإسلام والمسلمين, هو الطريقة المثلى كي يحافظ بها ملوك الماضي والحاضر على سلطانهم وممالكهم.
ولعل الخطورة الكبرى لهذه الفاجعة والمصيبة, تكمن في الروح الانهزامية السلبية التي تسربت إلى نفوس المسلمين جراء هذا التسليم, بعد روح الجهاد والقتال والنصر التي أعادها عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين إلى نفوس هذه الأمة, ناهيك عن بث روح الحماسة في نفوس أعداء هذا الدين, الذين استثمروا نقطة ضعف المسلمين المتمثلة في تفرقهم واختلافهم وانتشار روح الهزيمة في نفوسهم , ليحققوا من خلالها انتصاراتهم الوهمية.
لم ينته مسلسل تسليم القدس عند هذا الحد, بل ما زال مستمرا إلى يومنا هذا بشكل جديد واسم حديث, والذي سنحاول تتبع أحداثه وتفاصيله في المقال التالي بإذن الله.