بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده, أما بعد :
فبين أيديكم درة من درر الحافظ السيوطي، لم تظهر في عالم الطباعة فيما أعلم، ولعل السبب في ذلك أنها لم توجد كاملة إلا وريقات منها، وهي من مخطوطات مكتبة جامعة الملك سعود بالرياض, ومتوفرة على موقعهم, وهي مكتوبة بخط مقروء غالبًا, ومليء بالأخطاء الإملائية, وقد نهجت طريقة إثبات الصواب في المتن والإشارة للخطأ في الهامش, نظرا لأن مرد هذه الأخطاء من الناسخ, فلا يعطي إثباتها في الأصل بيان علمية المؤلف كما هو معروف في علم التحقيق, وقد تجنبت قصدًا ترجمة الأعلام؛ لضيق الوقت .
أسأل الله أن ينفع بها الكاتب والقارئ, وأهيب بالقراء الكرام ممن وقف على نسخة أخرى أن يفيدني بها جزاه الله خيرًا, لاستكمال النقص, فإن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
النص المحقق
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه رسالة أنشأتها وسميتها :
(الصواعق على النواعق)
إني قلتُ في مَقامةٍ لي مخاطبًا بعضَ الحَسَدةِ(1)المتكبرينَ على العُلى,الغامضين شرفًا بما نُسِبَ مِن العلوم إليّ, وبما جُمِعَ مِن فنونِ المعارفِ لدّي, ما نصه :" وكيف لا أتكلمُ في ذلك, وأنا الحاملُ للشريعةِ المحمّديةِ على كاهلي, والراقمُ لها في تصانيفي بأناملي, وأنا الذي بالعلمِ حقيقٌ, وأعلمُ(خلق الله) الآن قلمًا وفمًا, إنْ لم أكن أحق بالتكلمِ فمن ؟! " .
قلت في آخرها : " فقولوا له : " إني حاملُ لواءَ العلمِ لمن يُريد أنْ يهتدي, والإمامُ المقَدَّمُ فيه لمن يَرومُ أنْ يقتدي, ومني يَستمدُ كل دانٍ وناءٍ, وما في المشرق والمغرب الآن أحدًا إلا وهو في العلمِ تحت لوائي, فأنكَرَ هو ومُنكرون, إذا ذكروا بالحق لا يذكرون, وإذا رأوا آية يستسخرون, وأكثروا من النعيق, وتتابعوا كالـحُمُرِ في النهيق, وليسوا ممن يُعيا بأفكارهم, ولا يُؤوى إلى أوكارهم, ولكني أُحبُّ العلمَ ونشره, وأستنشقُ طِيبَهُ ونشره, فلو سمعتُ كلمة جهلٍ من مُغَنٍّ قَررتُ بالعلمِ جوابها, وحررتُ للطلبةِ صوابها, فأنشأتُ هذه الرسالة, فأقول : الـمُنكرون لذلك, فريقان :
الفريق الأول : قالوا : لا خيرَ في هذه العبادة, إلا أنها من باب الفخر وتزكية النفس, ولا شك أن التواضعَ مطلوب .
والثاني : زادوا على ذلك : أن هذه العبارة مُنكَرة؛ لأنها شاملة, فجبريل وميكائيل وسائر الملائكة وعيسى(2) بن مريم والخضر, فإن جميع مَن ذُكِرَ أحياءٌ موجودون الآن, فيَدخلون في لفظ : (خلقِ الله).
وضموا إلى ذلك وجهًا آخر, وهو أنه قد يكون في أقاصي البلدان مَن هو أعلم, فَمِن أين الاطلاع على جميع مَن في المشرق والمغرب, حتى يصح هذا الاطلاق ؟!
فهذه ثلاثة اعتراضات نُبين الجواب عنها :
فأقول : قد استَعملَ مثل هذه العبارة ونحوها [1/أ] خَلْقٌ من الصحابة والتابعين فمَن بعدهم من علماء الإسلام وأئمة الدين, وهم قدوتي في ذلك, وَوَجّه الناسُ كلامَهم بما يَنفي الاعتراضات الثلاثة, فنبدأ بما ورد من ذلك عن المذكورين, ثم نذكر ما وُجّه به إطلاقهم .
أخرج عبد الرزاق في "مصنفه": عن نصر بن عاصم, قال : قال رجل : " ليس على المجوس جزية", فأنكرَ ذلك المستورد بن علقمة(3), فذهبا إلى علي بن أبي طالب, فذكرا له, فقال : " اجلسا, والله ما على الأرض اليوم أحدٌ أعلمُ مني(4), إنَّ المجوس كانوا أهل كتاب..", ثم ذكر الحديث بطوله(5) .
وأخرج ابن عساكر في "تاريخ دمشق": عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : أنه أتاه رجل فأثنى عليه فأطراه, وكان قد بلغه عنه قبل ذلك شيء, فقال : " أنا فوق ما في نفسك, ودون ما تقول"(6).
وأخرج أبو نُعيم في "الحِلية" : عن علي, قال : " والله ما نزلتْ آية, إلا وقد علمتُ فيما نزلتْ, إن ربي وهب لي قلبًا عقولًا, ولسانًا سؤولًا"(7).
وأخرج ابن جرير(8)عن ابن مسعود, أنه قال : " والذي لا إله غيره, ما نزلتْ آية من كتاب الله, إلا وأنا أعلمُ فيمن نزلتْ, وأين نزلتْ, ولو أعلمُ مكان أحدٍ أعلمُ بكتاب الله مني تناله المطايا, لأتيته" (9) .
وأخرج مسلم : عن حذيفة بن اليمان, أنه قال : " والله, إني لأعلمُ الناس بكلِ فتنة كائنة فيما بيني(10)وبين الساعة "(11).
وأخرج ابن سعد في "الطبقات": عن ابن حلبس(12), قال : خطبنا معاوية بدمشق, فقال : "يا أيها الناس, اعقلوا عني, فإنكم لا تجدون بعدي أحدًا أعلمُ بأمر الدنيا والآخرة مني"(13).
وأخرج ابن سعد : من طريق سعد بن إبراهيم عن سعيد بن المسيب, أنه قال : " ما بقي أحدٌ أعلمُ بكل قضاء قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبكل قضاء قضاه أبو بكر, وكل قضاء [1/ب] قضاه عمر, وكل قضاء قضاه عثمان, وكل قضاء قضاه معاوية, مني " (14).
ذكر كلام الناس في أن هذا ليس من باب الفخر وتزكية النفس
لهم في هذا وجهان :
أحدهما : أن هذا من باب تعريفِ العالم بحاله, إذا جُهِلَ مَقامه .
قال النووي في "الأذكار": باب : مدح الإنسان نفسه, وذكر محاسنه .
(اعلم أن ذكرَ محاسنه ضربان: مذموم; ومحبوب، فالمذمومُ أن يذكرَه للافتخار وإظهار الارتفاع وشِبه ذلك، والمحبوبُ أن يكونَ فيه مصلحة دينية، وذلك بأن يكون آمراً بالمعروف، أو ناهياً عن المنكر، أو ناصحًا أو مشيرًا بمصلحة، أو معلمًا، أو مؤدبًا، أو واعظًا، أو مذكِّرًا، أو مُصلحًا بين اثنين، أو يَدفعُ عن نفسه، أو نحو ذلك، فيذكرمحاسنَه ناوياً بذلك أن يكون هذا أقربَ إلى قَبول قوله واعتماد ما يذكُره، أو أن هذا الكلام الذي أقوله لا تجدوه عند غيري فاحتفظوا به، فقد جاء في مثل هذا المعنى كثير من النصوص، كقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أنا النَّبِي لا كَذِبْ "(15)," أنا سَيِّدُ وَلَد آدَم "(16)," أنا أوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأرْضُ"(17), " أنا أعْلَمُكُمْ باللَّهِ وأتْقاكُمْ"(18)," أنا أبِيتُ عنْدَ ربي"(19).وأشباهه(20) كثير.
وقال يوسف عليه الصلاة والسلام : (اجْعَلْني على خَزَائِنِ الأرْضِ إني حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف: 55] , وقال شعيب عليه الصلاة والسلام : (سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) [القصص: 27] .
وقال عثمان رضي الله عنه حين حُصِرَ ما رويناه في "صحيح البخاري" و"مسلم"(21)أنه قال : "ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مَنْ حَفَرَ رُومَة فَلَهُ الجَنَّةُ"؟, فإني حفرتها, وصدّقوه بما قال"(22).
وروينا في " صحيحيهما " عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه : أنه شكاه أهل [2/أ] الكوفة إلى عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: لا يُحسن يصلي، فقال سعد: والله, إنّي لأول مَن رمى بسهم في سبيل الله تعالى، ولقد كنّا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وذكر تمام الحديث(23).
وروينا في " صحيح مسلم " عن عليّ رضي الله عنه, أنه قال: "والذي فلق الحبَّة وبرأَ النسَمَةَ، إنه لعهدُ(24) النبيّ صلى الله عليه وسلم إليّ : أنه لا يحبني إلا مؤمنٌ ولا يبغضني إلا منافق"(25).
وروينا في "صحيحيهما"(26)، عن أبي وائل قال: خطبنا عبد الله بنُ مسعود رضي الله عنه فقال: " والله لقد أخذتُ من فِي رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة(27)، ولقد علمَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله تعالى، وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أن أحدًا(28) أعلمُ منّي لرحلتُ إليه "(29).
وروينا في " صحيح مسلم " عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه سُئل عن البدنة(30), فقال: على الخبير سقطتَ - يعني نفسَه - ... وذكر تمام الحديث(31).
ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر، وكلُّها محمولة على ما ذكرنا)(32) هذا آخر كلام النووي رحمه الله.
قال صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى, حكاية عن يوسف عليه الصلاة والسلام:( قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي) [يوسف: 37] الآية .
فيه أن العالم إذا جُهلت منزلته في العلم, فوصف نفسه بما هو بصدده, لم يُكره في(33)باب التزكية(34) .
وقال أيضًا في موضع آخر(35) : [لا]( 36)تُذم التزكية إذا كانت لغرض صحيح في الدين وطابقه الواقع, بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له : "اعدل في القسمة!(37)", : "ومن يعدل إذا لم أعدل؟!"(38).
وقوله : "والله, إني لأمين في السماء, أمين في الأرض"(39) .
واستُدل لذلك بما أخرجه الترمذي وابن حبان في "صحيحه", فقال : "ألست أحق الناس بها(40)؟, ألست أول من أسلم؟, ألست صاحب كذا؟, ألست صاحب كذا؟"(41).
وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن عثمان بن عفان, أنه قيل له وهو محصور : إن فلانًا ذكر كذا وكذا, فقال عثمان : ومن أين وقد اختبأتُ عند [2/ب] عشرًا, إني لرابع الإسلام, وقد زوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته, ثم ابنته, وقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هذه, فما مسست بها ذكري ولا تغنيتُ,ولا تمنيتُ, ولا شربت خمرًا في الجاهلية والإسلام, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من يشتري هذه الرَّبْعَةَ؟ ويزيدها في المسجد, له بيت في الجنة" , فاشتريتها, وزدتها في المسجد"(41).
وبما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف", وأبو نعيم في "الحلية" عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال على منبره : "وإني فقأت عين [الفتنة](42)ولو لم أكن فيكم ما [قوتل](42)فلان وفلان وأهل النهروان, وأيم الله لولا أن تتكلوا (43)فَتَدَعُوا العمل لحدثتكم بما يسبق لكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم,... ثم قال : "سلوني فإنكم لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلا حدثتكم به "(44) .
وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن علي كرم الله وجهه أنه قال على المنبر : "أنا عبد الله, وأخو رسول الله, وأنا الصديق الأكبر,[لم يقلها أحدقبلي](45), ولا يقولها أحد بعدي, إلا كذاب مفترٍ, ولقد صليت قبل الناس سبع سنين "(46).
وبما أخرجه ابن أبي شيبة عن زيد بن يُثيع, قال : بلغ عليًا أن أناسا يقولون فيه, فصعد المنبر, فقال :أنشد الله رجلا سمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا إلا قام, فقام نفر, فقالوا : نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال :"من كنت مولاه, فعلي مولاه, اللهم وال من والاه, وعاد من عاداه"(47).
وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما, أنه بلغه عن عمرو بن العاص, ومعاوية(48) [شيء الخطب](49) , فقال في كلامه :"ولو سرتم ما بين المشرق والمغرب,لم تجدوا مَن جده نبي غيري, وغير أخي "(50).
وبما أخرجه ابن سعد في "الطبقات" عن محمد بن المرتفع, قال : سمعت الزبير يقول : "يا معشر الحاج, سلوني فعلينا كان التنزيل, ونحن حضرنا التأويل"(51) .
وبما أخرجه ابن سعد بن عبد الرحمن عن أبيه, قال : "تفاخر قوم من قريش, فذكر كل رجل ما عنده [3/أ] فقال معاوية للحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما : "ما يمنعك من القول, فما أنت بكليل(52) اللسان؟", فقال : "ما ذكروا مكرمة, ولا فضيلة إلا ولي محضها ولبابها(53), ثم قال : (شعر) فيم الكلام وقد سبقت مبرزا سبق الجواد من المدى المتنفس" (54)
وما أخرجه ابن سعد عن ابن أبي عون(55), قال : فخرت(56) عائشة على صفية, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصفية :"ألا قلتِ : أبي(57) هارون, وعمي(58) موسى"(59) .
ورأيت في مجموع بخط شيخنا الإمام تقي الدين الشمني رحمه الله تعالى قال نقلت من خط الشيخ كمال الدين الدميري قال نقلت : من خط الشيخ جمال الدين ابن هشام قال رأيت قصة بخط الشيخ جمال الدين ابن مالك رفعها إلى الملك الظاهر بيبرس , صورتها الفقير محمد بن مالك ينهي(60) إلى السلطان أيد الله جنوده وأيد سعوده, أنه أعلم أهل زمانه بعلوم القرآن والنحو واللغة وفنون الأدب, وسيرد باقي القصة (61).
الوجه الثاني :أن هذا من باب التحدث بنعمة الله شكرًا؛ امتثالًا لقوله تعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى :11].
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن بن علي بن أبي طالب, في قوله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) قال : "إذا أصبت خيرًا, فحدث إخوانك" (62).
وأخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في "زوائد المسند", والبيهقي في "شعب الإيمان" عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما, قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "التحدث بنعمة الله شكر, وتركها كفر"(63).
وأخرج ابن جرير في "تفسيره" عن أبي نضرة, قال : " كان المسلمون يرون أن من شكر النعمة, أن يحدث بها"(64).
وأخرج البيهقي عن الحسن, قال :"أكثروا ذكر هذه النعمة, فإن ذكرها شكر"(65).
وأخرج البيهقي عن الـجُريري, قال:"كان يقال : إن تِعداد(66) النعم من الشكر"(67).
وأخرج [3/ب] البيهقي عن يحيى بن سعيد, قال: " كان يقال إن تعديد(68) النعم من الشكر"(69).
وأخرج البيهقي عن فضيل بن عياض رحمه الله, قال:"كان يقال : من شكر النعمة, أن يحدث بها"(70).
وأخرج سعيد بن منصور في "سننه" عن عمر بن عبد العزيز, قال : "إن ذكر النعم, شكر" (71) .
وأخرج البيهقي عن أبي الحَواري, قال :"جلس فضيل بن عياض وسفيان بن عيينة رحمهما الله ليلة إلى الصباح يتذاكرون النعم, أنعم الله علينا في كذا, أنعم الله علينا في كذا" (72).
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح, قال :"كان عمرو بن ميمون إذا لقي الرجل من إخوانه قال : رَزَقَ الله البارحة من الصلاة كذا وكذا, وَرَزَقَ الله البارحة من الخير كذا وكذا " (73).
وقد عَرَّفَ العلماء (الشكر) : بأنه اعتقاد بالجنان, وذكر باللسان, وعمل بالأركان, وأنشدوا على ذلك : (شعر) : أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
وقال العلامة شمس الدين ابن القيم : الشيء الواحد يكون صورته واحدة, وهو ينقسم إلى : محمود, ومذموم, فمن ذلك : التحدث بالنعمة شكرًا, والفخر بها .
فالأول : القصد به إظهار فضل الله وإحسانه ونعمته و[.......](74) وفيه حديث : التحدث بالنعمة شكر وكتمه [كفر](75) .
والثاني : القصد به الاستطالة على الناس والبغي عليهم والجور والتعدي وإهانتهم واستعبادهم, وهذا هو المذموم (76).
ومما أورده (77) ما أخرجه ابن سعد عن عائشة, قال : فضلت (78) على نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعشر, قيل : ما هن يا أم المؤمنين؟ قالت :لم يكن ينكح بكرًا قط غيري, ولم ينكح امرأة أبواها مهاجران غيري, وأنزل الله تبارك وتعالى براءتي من السماء, وجاء جبريل عليه الصلاة والسلام بصورتي من السماء في حريرة, وقال : تزوجها فإنها امرأتك, وكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد, ولم يكن يصنع ذلك بأحد من نسائه غيري, وكان [4/أ] يصلي وأنا معترضة بين يديه, ولم يكن يفعل ذلك بأحد من نسائه غيري, وكان ينزل عليه الوحي وهو معي, ولم يكن ينزل عليه وهو مع أحد من نسائه غيري, وقبض الله نفسه وهو بين سحري ونحري, ومات في الليلة التي كان يدور علي فيها, ودفن في بيتي (79).
ذكر كلام الناس في أن مثل هذه العبارة تختص بعالم الفاعل أو المفعول فيه وزمانه
أطبق المحققون على أن مثل هذه العبارة إذا أطلقت إنما تنصرف إلى أهل عالم الفاعل أو المفعول فيه أهل زمانه فقط, ولا يدخل فيها أهل عالم آخر ولا أهل زمان آخر, ثم منهم من جعل ذلك اصطلاحًا عرضيًا, ومنهم من قال : هو موكول إلى تخصيص العقل, وحاصله أنه من العام المراد به الخصوص, الذي بيانه في علم أصول الفقه, وذكروا لذلك أمثلة وشواهد منها :
قوله تعالى : (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين ) [البقرة :40 ]
أطبق العلماء من المفسرين وغيرهم على أن المراد : على عالمي زمانهم, إذ مِن المقطوع به, أنه لم يُفضلوا على مَن تقدمهم من الأنبياء, و[لا](80) من جاء بعدهم و[لا](80) على أمة نبينا صلى الله عليه وسلم ولا على من كان في زمانهم من غير عالمهم : كالملائكة والمقربين والكروبيين, كجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ومنكر ونكير والروح وغيرهم .
قال الطِيبي في "حاشية الكشاف" : العالمَ إذا أطلق يتبادر إلى السماء والأرض وما بينهما عرفًا؛ لأنه المشاهد ما غاب عن الأبصار مما سائر الملكوت(81).
ومنها : قوله تعالى : (قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين) [الأعراف :140]
قال الشيخ سعد الدين في حاشية "الكشاف" : أي على جميع من سواكم إلا ما يخصه العقل من الأنبياء والملائكة (82) .
ومنها : قوله تعالى : (ولقد اخترناهم على علم على العالمين ) [الدخان:32] قال الفريابي في تفسيره(83) [4/ب] . (84) .