مِئَةٌ لَا مَائَةٌ : لقد درجَ أكثرُ النّاطقين بالضّاد من العامّة،وبعض الخاصّة،على لفظِ كلمة (مِئَة) بفتح الميم مع زيادة الألف بعدها،كذا (مَائَة)،وهما – لعمري[1] - خَطآن لا تكاد تسمع أحدًا ممّن يُظنّ به أنّ له في العلم سابقة إلاّ لَفَظَهُ خَطَأً،ورَسَمَه ُ غَلَطًا؛وما ذلك إلاّ مجاراةً لإلف العادة،من غير بَصَرٍ،ولا إمعانِ نَظَر في مَلفُوظ لسانه،ومَرْقُوم يَراعته ؟!،بل حتّى مصادر اللّغة العربية،لم تخل من هذا الغلط[2]،ولك أن تتبيّن شيئًا من ذلك في:v لسان العرب (15 /269-271) .بسم الله الرّحمن الرّحيممِن آفات الكتابة
v المصباح المنير (349 ع2) .
v مختار الصحاح (ص613 ع1) .
v أساس البلاغة (ص 221، 382، 419) .
v فصيح ثعلب (ص103) .
v المعجم الوسيط (ص107 ع2،و ص852 ع2،و ص1040 ع3) .
ولولا الغَيرة على هذه اللّغة الشريفة،لغة الوحيين،واللِّس ان المبين عن مراد ربّ العالمين،لما أرهقت النّفس،فيما تلوكه الألسنة من الغلط،وترقمه الأكفّ من الشَّطَط.هذا و(العربية) كامنٌ حبُّها في شَغاف القلب؛فبها تعرّفنا تاريخ الأسلاف،ومن روافدها نهلنا علوم الأشراف .فتصّور – يارعاك اللّه – مدى الضّرر البالغ،والخطر السّابغ،إذا غُضَّ الطّرف عن هذا الغلط،وأمثاله،ف لم يُبيّن،ولم يُكشَف عُواره لأبناء العروبة،النّاشئ ين في أحضان الضّاد !.وهذا أوان الكشف عن الغلط في مَرسوم لفظة (مِئَة)،وملفوظها .فأقول:إنّه غَلَطٌ قديمٌ،انبنى على أساس سليم إبّان حقبة من الزّمن،كان أهلها أهل عذر،ومحلّ فضل وشكر . أمّا كونه غلطاً قديماً،فذلك راجع إلى فترة جمع القرآن الكريم ثمّ تدوينه في مصحف جامع زمن الخليفة الرّاشد عثمان بن عفّان t.فقد رُسِمَت فيه[3] لفظة (مِئَة) بالألف[4]،وكذا لفظة (مِائَتَيْن).وكا وا حينها لا ينقطون،ولا يشكلون؛احترازًا من الوقوع في اللَّبس الحاصل من الشَّبَه بين هذه اللّفظة (مِئَة)،وبين ما يُشاكلُها في الرّسم من الكلمات العربيّة،مثل كلمة:(فِئَة)،و (فيه) و (منه) ... فطردًا لهذا الإشكال،وصيانة لكلام اللّه من وقوع اللّحن فيه؛حال قراءته ومدارسته،زيدت الألف في لفظة (مِئَة)؛فصارت (مِائَة).يؤيِّد هذه المقالة تقريرات بعض الأعلام فمنهم :1. الآلوسي في روح المعاني (7 /19 /84 سورة النّمل) قال – رحمه اللّه - نقلاً عن ابن خلدون في مقدمة
تأريخه[5]:" إنّ الكتابة العربية كانت في غاية الإتقان والجودة في حِمير ومنهم تعلّمها مُضَر إلاّ أنّهم لم يكونوا مجيدين لبُعدهم عن الحضارة،وكان الخطُّ العربي أوّل الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإتقان والجودة وإلى التوسُّط؛لمكان العرب من البداوة والتَّوحُّش،وبُ عدهم عن الصّنائع.وما وقع في رسم المصحف من الصّحابة رضي اللّه تعالى عنهم من الرّسوم المخالفة لما اقتضته أقيسة رسوم الخط وصناعته عند أهلها،كزيادة الألف في ( لَأَاْذْبَحَنَّ هُ )؛من قِلّة الإجادة لصَنعة الخط.واقتفاءُ السّلف رسمَهم ذلك من باب التَّبرُّك ... " .
2. الزّرقاني في مناهل العرفان (1 /255)قال – رحمه اللّه -:" ب - رسم المصحف:رسم المصحف يُراد به
الوَضعُ الذي ارتضاه عثمان t في كتابة كلمات القرآن وحروفه،والأصل في المكتوب أن يكون موافقًا تمامَ الموافقة للمنطوق من غير زيادة ولا نقص ولا تبديل ولا تغيير،لكنّ المصاحف العثمانية قد أُهمِل فيها هذا الأصلُ فَوُجِدَت بها حروفٌ كثيرةٌ جاء رسمُها مخالفًا لأداء النُّطق؛وذلك لأغراضٍ شريفةٍ ظهرت وتظهر لك فيما بعد ... " .
3. ابن قتيبة في أدب الكاتب (ص200 - 201):" باب ما زيد في الكتاب: ... ومائة زادوا فيها ألفًا
ليفصلوا بها بينها وبين منه،ألا ترى أنّك تقول:أخذتُ مِائَةً وأخذتُ مِنه.فلو لم تكن الألف لالتبس على القاريء " .
4. الرّاغب في محاضرات الأدباء (2 /4 /434) قال – رحمه اللّه -:" ما في القرآن من تغيير الكتابة:كان
القوم الذين كتبوا المصحفَ لم يكونوا قد حذقوا الكتابة؛فلذلك وُضِعَت أحرفٌ على غير ما يجبُ أن تكونَ عليه " .
ثمّ أجمع العلماء على اعتماد هذا الرّسم الّذي خُطّ به القرآن الكريم زمن عثمان t،وعدم جواز مخالفته.ولذلك أضحى يُسمّى ب(الرّسم العثماني).قال في مناهل العرفان (1 /261):" وانعقاد الإجماع على تلك المصطلحات في رسم المصحف دليل على أنّه لا يجوز العدول عنها إلى غيرها ".ونقل في:البرهان في علوم القرآن (1 /376) عن ابن درستويه قوله:" خطّان لا يُقاس عليهما،خطّ المصحف،وخطّ تقطيع العروض ".و مثلَه نقل عن أبي البقاء في كتاب اللّباب[6] .وأمّا كونه بُنِي على أساس سليم؛فلأنّ النّقط والشّكل لم يُوضَع على الكلمات العربية إلاّ بعد عمليّة جمع وتدوين القرآن الكريم؛ وقد كانوا قبل ذلك لا ينقطون ولا يشكلون الكلمات؛ويقرؤون ها وهي غفلٌ من النّقط والشّكل.واستمرّ الحال على ذلك حتى قام أبو الأسود الدؤليّ بنقط الكلمات[7]،ثمّ جاء بعده نصر بن عاصم اللّيثي ويحيى بن يعمر العدواني ليضعا الشّكل[8] عليها بأمر من الحجّاج ابن يوسف .ثمّ استقرّ الإعجام في رسم الكلمات من أَمَدٍ بعيدٍ؛فلا ضرورة تدعو للإبقاء على هذه الألف،الّتي زال سببها فخرجت عن كونها " فارِقَة ".قال في معجم القواعد الإعرابية (حروف الزيادة):" 2- القسم الثاني:زيادتها في نحو:" مِائَة "فرقًا بينها و بين " مِنْهُ " (هذا حين لم يكن همزٌ ولا إعجامٌ – أي تشكيل أمّا وقد اختلف الحال فينبغي أن ترجع إلى أصلها،فتكتب " مِئَة " نحو " فِئَة " وكتابتها " مِائَة " أفسد على كثير من النّاس النّطق بها على ما يجب أن تُنطق به،وإنّما ينطقون بها بألف ... " .وقال الغلايني في جامع الدروس العربية (1 /2 /139):" ما خالف رسمه لفظه ... (2) ما يكتب ولا يلفظ: ... ومن الفضلاء من يكتبها بياء بلا ألف،هكذا:"مِئَة". ومنهم من يكتبها بألف بلا ياء،هكذا "مأة".ووجه القياس أَن تكتب بياءُ بلا ألف.وهذا ما نميل إليه.وإنّما كانوا يكتبونها بزيادة الألف،يوم لم تكن الحروف تنقط،كيلا تشتبه بكلمة (منه)،المركبة من "من" الجارة وهاء الضمير،كما قالوا.قال أبو حيان:"وكثيراً ما أَكتب أَنا (مئة) بلا أَلف،مثل:كتابة "فئة"،لأنّ زيادة الألف خارجة عن الأقيسة " .وبعدُ،فهذا الذي اخترته في رسم كلمة (مِئَة) بحذف الألف،في غير مرسوم المصحف الشريف،اختاره العدنانيّ في معجم الأخطاء الشائعة،وانتصر له وأيّده بجملة من الأدلّة،لك أن تطالعها في (ص232 - 233 رقم 973) .وقال أطفيش في كتاب الرسم في تعليم الخطّ (ص33 - 35):" قال ابن خروف:وكتابة مائة بغير ألف جيّد ... قال أبو حيّان:وكثيرًا ما أكتب أنا مِئَة بغير ألف كفِئَة؛لأنّ كَتْبَ مِائَة بالألف خارج عن القياس ... قال:وحكى صاحب البديع أنّ منهم من يحذف الألف من مائة في الخطّ " .و يراجع :1- أخطاء ألفناها (ص149) .
2- تطهير اللّغة (ص21 - 22 رقم35) .
3- القاموس المحيط (1 /1718 فصل الميم) .
4- كتاب الرسم في تعليم الخطّ (ص33 - 35) .
5- كيف تكون فصيحًا ؟ (ص34) .
6- معجم الأخطاء الشّائعة (ص256 رقم 1092) .
7- مناهل العرفان (1 /256، 264، 266 -267) .
8- نصوص في فقه اللّغة (1 /139، 145 - 148) .
يتبع / وكتب : محمّد تبركان
[1] - ذا من أساليب العرب في الخطاب والكتاب،ولستُ أقصد به القسم،كما يدلُّ عليه ظاهر اللّفظ .
[2] - أعني زيادة الألف بعد الميم المكسورة .
[3] - نعم،لقد رُسِمت لفظة (مِائَة)،بالألف في القرآن الكريم في ثمانية مواضع،ورُسمت في موضعين منه بلفظ (مِائَتَيْن)،كلّ ُ ذلك في خمس سور،وهي:البقرة/259 ،261،والأنفال/65 - 66 ،والكهف/25 ،والنّور/2 ،والصّافات/147 .
[4] - تسمّى هذه الألف ب(الألف الفارقة) – عن كيف تكون فصيحًا ؟ (ص34) - .
[5] - (ص418 - 419 الفصل 309.واعلم أنّ العلاّمة الآلوسي نقل كلام ابن خلدون بتصرُّف .وقد كان ينبغي أن يوضع كلام ابن خلدون أعلاه!،ومن ثَمَّ الاستغناء عن الواسطة .
[6] - (2 /481 باب الخطّ) .
[7] - مناهل العرفان (1 /280) .
[8] - مناهل العرفان (1 /281) .