الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فنعلم أن الله ذكر أمر إيحائه إلى أم موسى. فقال تعالى في سورة طه:
"قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)".
قال القرطبي عند تفسير سورة طه:
"وقوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} قيل: {أ َوْحَيْنَا} ألهمنا وقيل: أوحى إليها في النوم. وقال ابن عباس: أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين."
فأرى أن القول الأخير عن ابن عباس هو الصواب. ولكنها مع ذلك ليست نبية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"َوَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْمَعَالِي وَغَيْرُهُمْ : الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي النِّسَاءِ نَبِيَّةٌ." (مجموع الفتاوى:396/4)
وهناك أمران يشيران إلى أن الوحي الذي أوحي إلى أم موسى هو من قبيل الوحي الذي ينزل على الأنبياء.
الأول: أن الله قال "إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى". فقوله "مَا يُوحَى" يشير إلى أن هذا الوحي هو من نوع الوحي الذي ينزل على الأنبياء. والله قد قال نفس الكلمة لموسى في موضع متقدم من نفس السورة (طه) فقال: "وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)". وقد وردت كلمة "يوحى" بهذه الصيغة نفسها 14 مرة في القرآن. فهذه الكلمة في كل المواضع الأخرى من القرآن تعني نوع الوحي الذي ينزل على الأنبياء. 12 منها كانت في الوحي الذي نزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وواحدة في الوحي الذي نزل على موسى، وواحدة في الوحي الذي نزل على أم موسى. والأخيرتان هما في سورة طه كما تقدم.
الثاني: بعض المعلومات التي أوحيت إلى أم موسى أشبه بأن تكون من نوع الوحي الذي ينزل على الأنبياء، ويستبعد أن تكون مجرد إلهام. فيقول الله في سورة طه:
"إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)".
فقول الله "يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ" يبدو من المعلومات الدقيقة التي يُستبعد أن تكون مجرد إلهام.
وقال تعالى في سورة القصص:
"وَأَوْحَيْنَ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7)".
قوله تعالى "إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" يُستبعد أن يكون إلهاماً أيضا. وقال تعالى في نفس السورة:
"فَرَدَدْنَاه إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)".
إن كانت أم موسى لتعلم أن وعد الله حق، فيلزم من ذلك أن تكون تعلم أن الله وعدها. فكيف تعرف هذا بالإلهام فقط؟ ولهذا فالأرجح أن الله أوحى إليها كما أوحى إلى النبيين.
والله قد أوحى إلى مريم. فقد جائها جبريل وكلمها. قال تعالى في سورة مريم:
"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)".
وقال تعالى في سورة آل عمران:
"إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)".
فهذه الآيات فيها دليل على أن الله أوحى إلى مريم.
والله قد أوحى أيضاً إلى سارة زوجة إبراهيم. قال تعالى في سورة الذاريات:
"هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)".
فالملائكة قد كلمت سارة في هذه الآية الأخيرة وأخبرتها بما قال الله. فهذا وحي.
إذاً، فالله أوحى إلى أم موسى، وأوحى إلى مريم، وإلى سارة زوجة إبراهيم. والله أوحى إليهن كما أوحى إلى النبيين. ولكنهن مع ذلك لسن نبيات، كما تقدم ذكر الإجماع على أنه ليس في النساء نبية. فليس كل من يوحى إليه يكون نبيا. والله أعلم إن كان هناك من الرجال من أوحي إليه وهو ليس بنبي.
هذا والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.