1 – كلام شيخ الإسلام ابن تيمية
سئل رحمه الله عن الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحق فأجاب بقوله :
(( هذه المسألة فيها مذهبان مشهوران للعلماء ، وكل منهما مذكور عن طائفة من السلف ، وذكر أبو يعلى في ذلك روايتين عن أحمد ، ونصر أنه إسحق ، إتباعاً لأبي بكر عبدالعزيز ، وأبو بكر اتبع محمد بن جرير . ولهذا يذكر أبو الفرج بن الجوزي : أن أصحاب أحمد ينصرون أنه إسحق ، وإنما ينصره هذان ، ومن اتبعهما ، ويحكى ذلك عن مالك نفسه لكن خالفه طائفة من أصحابه .
وذكر الشريف أبو علي بن أبي يوسف : أن الصحيح في مذهب أحمد أنه إسماعيل ، وهذا الذي رواه عبدالله بن أحمد عن أبيه ، قال : مذهب أبي أنه إسماعيل ، وفي الجملة فالنزاع فيها مشهور ، لكن الذي يجب القطع به أنه إسماعيل ، وهذا الذي عليه الكتاب والسنة والدلائل المشهورة ، وهو الذي تدل عليه التوراة التي بأيدي أهل الكتاب .
وأيضاً فإن فيها أنه قال لإبراهيم : اذبح ابنك وحيدك . وفي ترجمة أخرى : بكرك . وإسماعيل هو الذي كان وحيده وبكره باتفاق المسلمين وأهل الكتاب ، لكن أهل الكتاب حرفوا فزادوا إسحق ، فتلقى ذلك عنهم من تلقاه ، وشاع عند بعض المسلمين أنه إسحق ، وأصله من تحريف أهل الكتاب .
ومما يدل على أنه إسماعيل قصة الذبيح المذكورة في سورة الصافات . قــال تعـــالى : { وبشرناه بغلام حليم } ، وقد انطوت البشارة على ثلاث : على أن الولد غلام ذكر ، وأنه يبلغ الحلم ، وأنه يكون حليما . وأي حلم أعظم من حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح فقـال : { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ؟ وقيل : لم ينعت الله الأنبياء بأقل من الحلم ، وذلك لعزة وجوده ، ولقد نعت إبراهيم به في قوله تعالى : { إن إبراهيم لأواه حليم } ، { إن إبراهيم لحليم أواه منيب } ، لأن الحادثة شهدت بحلمهما : { فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ؟ قال يا أبت افعل ما تؤمر ، ستجدني إن شاء الله من الصابرين – إلى قوله – وفديناه بذبح عظيم ، وتركنا عليه في الآخرين ، سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين ، إنه من عبادنا المؤمنين ، وبشرناه بإسحق نبياً من الصالحين ، وباركنا عليه وعلى إسحق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين } .
فهذه القصة تدل على أنه إسماعيل من وجوه :-
أحدها : أنه بشره بالذبيح وذكر قصته أولاً ، فلما استوفى ذلك قال : { وبشرناه بإسحق نبياً من الصالحين ، وباركنا عليه وعلى إسحق } ، فبين أنهما بشارتان : بشارة بالذبيح ، وبشارة ثانية بإسحق ، وهذا بين .
الثاني : أنه لم يذكر قصة الذبيح في القرآن إلا في هذا الموضع , وفي سائر المواضع يذكر البشارة بإسحق خاصة كما في سورة هود : من قوله تعالى:{ وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب } ، فلو كان الذبيح إسحق لكان خلفا للوعد في يعقوب . وقال تعالى:{ فأوجس منهم خيفة قالوا:لا تخف وبشرناه بغلام عليم ، فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم } ، وقال تعالى في سورة الحجر:{ قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم ، قال أبشرتموني على أن مسّني الكبر فبم تبشرون ؟ قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين } ، ولم يذكر أنه الذبيح ، ثم لمّا ذكر البشارتين جميعا: البشارة بالذبيح والبشارة بإسحق بعده ، كان هذا من الأدلة على أن إسحق ليس هو الذبيح .
ويؤيد ذلك انه ذكر هبته ، وهبة يعقوب لإبراهيم في قوله تعالى :{ ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين } ، وقوله : { ووهبنا له إسحق ويعقوب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين } ، ولم يذكر الله الذبيح .
الوجه الثالث : أنه ذكر في الذبيح أنه غلام حليم ، ولما ذكر البشارة بإسحق ذكر البشارة بغلام عليم في غير هذا الموضع ، والتخصيص لا بد له من حكمة وهذا مما يقوي اقتران الوصفين ، والحلم هو مناسب للصبر الذي هو خُـلق الذبيح .
وإسماعيل وصف بالصبر في قوله تعالى:{ واذكر إسماعيل و اليسع و ذا الكفل كل من الصابرين } ، وهذا أيضا وجه ثالث فإنه قال في الذبيح : { يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ، وقد وصف الله إسماعيل أنه من الصابرين ، ووصف الله تعالى إسماعيل أيضا بصدق الوعد في قوله تعالى :{ إنه كان صادق الوعد } ، لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به .
الوجه الرابع : أن البشارة بإسحق كانت معجزة ، لأن العجوز عقيم ، ولهذا قال الخليل عليه السلام : { أبشرتموني على أن مسني الكبر ؟ فبم تبشرون؟ } وقالت امرأته : { أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا؟!} وقد سبق أن البشارة بإسحق في حال الكبر ، وكانت البشارة مشتركة بين إبراهيم وامرأته .
وأما البشارة بالذبيح فكانت لإبراهيم عليه السلام ، وامتحن بذبحه دون الأم المبشرة به ، وهذا مما يوافق ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصحيح وغيره : من أن إسماعيل لما ولدته هاجر غارت سارة ، فذهب إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة ، وهناك أمر بالذبح . وهذا مما يؤيد أن هذا الذبيح دون ذلك .
ومما يدل على أن الذبيح ليس هو إسحق أن الله تعالى قال :{ فبشرناها بإسحق ، ومن وراء إسحق يعقوب }، فكيف يأمر بعد ذلك بذبحه ؟ والبشارة بيعقوب تقتضي أن إسحق يعيش ويولد له يعقوب ، ولا خلاف بين الناس أن قصة الذبيح كانت قبل ولادة يعقوب ، بل يعقوب إنما ولد بعد موت إبراهيم عليه السلام ، وقصة الذبيح كانت في حياة إبراهيم بلا ريب .
ومما يدل على ذلك : أن قصة الذبيح كانت بمكة ، والنبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة كان قرنا الكبش في الكعبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للسادن : " إني آمرك أن تخمر قرني الكبش فإنه لا ينبغي أن يكون في القبلة ما يلهي المصلي " .
ولهذا جعلت منى محلاً للنسك من عهد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وهما اللذان بنيا البيت بنص القرآن .
ولم ينقل أحد أن إسحق ذهب إلى مكة ، لا من أهل الكتاب ، ولا غيرهم ، لكن بعض المؤمنين من أهل الكتاب يزعمون أن قصة الذبح كانت بالشام ، فهذا افتراء . فإن هذا لو كان ببعض جبال الشام لعرف ذلك الجبل ، وربما جعل منسكاً كما جعل المسجد الذي بناه إبراهيم وما حوله من المشاعر.
وفى المسألة دلائل أخرى على ما ذكرناه ، وأسئلة أوردها طائفة كابن جــرير، والقاضي أبي يعلى ، والسهيلي ، ولكن لا يتــسع هذا الموضع لذكــرها والجواب عنها والله عز وجل أعلم )) اهـ . انظر مجموع الفتاوى [ 4/ 331 – 336 ] .
2 – كلام ابن القيم
قال ابن القيم رحمه الله (( وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم .
وأما القول بأنه إسحق فباطل بأكثر من عشرين وجهاً ، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه يقول : هذا القول إنما هو متلقى عن أهل الكتاب ، مع أنه باطل بنص كتابهم ، فإن فيه : إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره ، وفي لفظ : وحيده ، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده ، والذي غرّ أصحاب هذا القول أن في التوراة التي بأيديهم : اذبح ابنك إسحق ، قال وهذه الزيادة من تحريفهم وكذبهم ، لأنها تناقض قوله : اذبح بكرك ووحيدك ، ولكن اليهود حسدت بني إسماعيل على هذا الشرف ، وأحبوا أن يكون لهم ، وأن يسوقوه إليهم ، ويحتازوه لأنفسهم دون العرب ، ويأبى الله إلا أن يجعل فضله لأهله . وكيف أن يسوغ أن يقال : إن الذبيح هو إسحق ، والله تعالى قد بشر أم إسحق به وبابنه يعقوب ، فقال تعالى عن الملائكة : إنهم قالوا لإبراهيم لمــا أتوه بالبشرى : { لا تخف إنا أرسِـلْنا إلى قوم لوط . وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب } [ هود : 70 – 71 ] فمحال أن يبشرها بأنه يكون لها ولد ، ثم يأمر بذبحه ، ولا ريب أن يعقوب عليه السلام داخل في البشارة ، فتناول البشارة لإسحق ويعقوب في اللفظ واحد ، وهذا ظاهر الكلام وسياقه .
فإن قيل : لو كان الأمر كما ذكرتموه لكان يعقوب مجروراً عطفاً على إسحق ، فكانت القراءة { ومن وراء إسحق يعقوب } أي : ويعقوب من وراء إسحق . قيل لا يمنع الرفع أن يكون يعقوب مبشراً به ، لأن البشارة قول مخصوص ، وهي أول خبر سار صادق . وقوله تعالى : { ومن وراء إسحق يعقوب } جملة متضمنة لهذه القيود ، فتكون بشارة ، بل حقيقة البشارة هي الجملة الخبرية . ولما كانت البشارة قولاً ، كان موضع هذه الجملة نصباً على الحكاية بالقول ، كأن المعنى : وقلنا لها : من وراء إسحق يعقوب ، والقائل إذا قال : بشرت فلانا بقدوم أخيه وثَـقلِه في أثره ، لم يعقل منه إلا بشارته بالأمرين جميعاً )) .
ثم ذكر ابن القيم آيات من سورة الصافات ودلالتها على أن الذبيح هو إسماعيل ، لأنه بشر بعدها بإسحق ، ثم قال ابن القيم (( وأيضاً فلا ريب أن الذبيح كان بمكة ، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها ... )) إلى أن قال (( ولو كان الذبح بالشام كما يزعم أهل الكتاب ومن تلقى عنهم لكانت القرابين والنحر بالشام ، لا بمكة )) .
ثم قال رحمه الله : (( وأيضاً فإن الله سبحانه أجرى العادة البشرية أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده ، وإبراهيم عليه السلام لما سأل ربه الولد ، ووهبه له ، تعلقت شعبة من قلبه بمحبته ، والله تعالى قد اتخذه خليلا ، والخُلة منصب يقتضي توحيد المحبوب بالمحبة ، وأن لا يشارك بينه وبين غيره فيها ، فلما أخذ الولد شعبة من قلب الوالد ، جاءت غيرة الخلة تنتزعها من قلب الخليل ، فأمره بذبح المحبوب ، فلما أقدم على ذبحه ، وكانت محبة الله أعظم عنده من محبة الولد ، خلصت الخلة حينئذ من شوائب المشاركة ، فلم يبق في الذبح مصلحة ، إذ كانت المصلحة إنما هي في العزم وتوطين النفس عليه ، فقد حصل المقصــود ، فنُسخ الأمر ، وفُدي الذبيح ، وصدّق الخليل الرؤيا ، وحصل مراد الرب .
ومعلوم أن هذا الامتحان والاختبار إنما حصل عند أول مولود ، ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول ، بل لم يحصل عند المولود الآخر من مزاحمة الخلة ما يقتضي الأمر بذبحه ، وهذا في غاية الظهور . )) اهـ باختصار . انظر زاد المعاد [ 1 / 71 – 74 ] .
3 – كلام ابن كثير
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية بعد أن سرد آيات سورة الصافات (( يذكر تعالى عن خليله إبراهيم أنه لما هاجر من بلاد قومه سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً ، فبشره الله تعالى بغلام حليم ، وهو إسماعيل عليه السلام ، لأنه أول من ولد له على رأس ست وثمانين سنة من عمر الخليل .
وهذا ما لا خلاف فيه بين أهل الملل ، لأنه أول ولده ، وبكره )) .
ثم قال (( وهذا هو الظاهر من القرآن ، بل كأنه نص على أن الذبيح هو إسماعيل ، لأنه ذكر قصة الذبيح ثم قال بعده { وبشرناه بإسحق نبياً من الصالحين } ومن جعله حالاً فقد تكلف، ومستنده أنه إسحق إنما هو إسرائيليات وكتابهم فيه تحريف )) .
ثم قال رحمه الله : (( وقد قال بأنه إسحق طائفة كثيرة من السلف وغيرهم . وإنما أخذوه والله أعلم من كعب الأحبار أو صحف أهل الكتاب وليس في ذلك حديث صحيح عن المعصوم حتى نترك لأجله ظاهر الكتاب العزيز ولا يفهم هذا من القرآن بل المفهوم بل المنطوق بل النص عند التأمل على أنه إسماعيل . وما أحسن ما استدل محمد بن كعب القرظي على أنه إسماعيل وليس بإسحق من قوله { فبشرناها بإسحق ومن وراء إسحق يعقوب } قال : " فكيف تقع البشارة بإسحق وأنه سيولد له يعقوب ثم يؤمر بذبح إسحق وهو صغير قبل أن يولد له هذا لا يكون لأنه يناقض البشارة المتقدمة والله أعلم " )) .
ثم قال رحمه الله (( فمن حُـكي القول عنه بأنه إسحق كعب الأحبار ، وروي عن عمر والعباس وعلي وابن مسعود ومسروق وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء والشعبي ومقاتل وعبيد بن عمر وأبي ميسرة وزيد بن أسلم وعبدالله بن شقيق والزهري والقاسم وابن أبي بردة ومكحول وعثمان بن حاضر والسدي والحسن وقتادة وأبي الهذيل وابن سابط وهو اختيار ابن جرير وهذا عجب منه وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ولكن الصحيح عنه وعن أكثر هؤلاء أنه إسماعيل عليه السلام .
قال مجاهد وسعيد والشعبي ويوسف بن مهران وعطاء وغير واحد عن ابن عباس : هو إسماعيل عليه السلام ، وقال ابن جرير حدثني يونس أنبأنا ابن وهب أخبرني عمرو بن قيس عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنه قال : المفدى إسماعيل وزعمت اليهود أنه إسحق وكذبت اليهود . وقال عبدالله بن الإمام أحمد عن أبيه : هو إسماعيل . وقال ابن أبي حاتم سألت أبي عن الذبيح فقال : إنه إسماعيل عليه السلام )) . اهـ [ 1 / 157 - 160 ] .
قلت : فقد تبين لك مما نقلته من كلام الأئمة أن ظاهر القرآن يدل على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام ، وأنه مما يجب القطع به ، وأنه هو قول أهل الملل ، وهو القول المعتبر الذي نصره أئمة السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، وهو قول الإمام أحمد وأبي حاتم . وأما القول الآخر فهو باطل ، كما قال ابن تيمية وابن القيم وابن كثير ، وهو مأخوذ مما حرفه أهل الكتاب في التوراة ، ونصره كعب الأحبار ، وأخذه عنه طائفة من السلف .
وقد مر معنا قول ابن كثير بعد أن سرد أسماء من قال بأنه إسحق ، من الصحابة والتابعين ، " وهو اختيار ابن جرير ، وهذا عجب منه ، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ، ولكن الصحيح عنه وعن أكثر هؤلاء أنه إسماعيل عليه السلام " اهـ .
وفي الختام أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وكتب / سمير بن خليل المالكي المكي الحسني
جوال 0591114011
تاريخ 23/ 10 /1430هـ
منقووول