قال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى في كتابه: (الأخلاق والسير): من امتحن بالعُجب فليفكر في عيوبه فإن أعجب بفضائله فليفتش ما فيه من الأَخْلاَق الدنيئة فإن خفيت عليه عيوبه جملة حتى يظن أنه لا عيب فيه فليعلم أن مصيبته إلى الأبد وأنه لأتم الناس نقصاً وأعظمهم عيوباً، وأضعفهم تمييزاً، وأول ذلك أنه ضعيف العقل جاهل.
ولا عيب أشد من هذين لأن العاقل هو من ميز عيوب نفسه فغالبها وسعى في قمعها، والأحمق هو الذي يجهل عيوب نفسه، إما لقلة علمه وتمييزه وضعف فكرته، وإما لأنه يقدر أن عيوبه خصال، وهذا أشد عيب في الأرض.
وفي الناس كثير يفخرون بالزنا واللياطة والسرقة والظلم، فيعجب بتأتي هذه النحوس له وبقوته على هذه المخازي.
واعلم يقيناً: أنه لا يسلم إنسي من نقص حاشا الأنبياء صلوات الله عليهم، فمن خفيت عليه عيوب نفسه فقد سقط، وصار من السخف والضعة والرذالة والخسة وضعف التمييز والعقل وقلة الفهم بحيث لا يتخلف عنه مختلف من الأرذال، وبحيث ليس تحته منزلة من الدناءة، فليتدارك نفسه بالبحث عن عيوبه، والاشتغال بذلك عن الإعجاب بها، وعن عيوب غيره التي لا تضره في الدنيا ولا في الآخرة.
وما أدري لسماع عيوب الناس خصلة إلا الاتعاظ بما يسمع المرء منها فيجتنبها، ويسعى في إزالة ما فيه منها بحول الله تعالى وقوته.
وأما النطق بعيوب الناس فعيب كبير لا يسوغ أصلاً.
والواجب اجتنابه إلا في نصيحة من يتوقع عليه الأذى بمداخلة المعيب أو على سبيل تبكيت المعجب فقط في وجهه لا خلف ظهره ثم يقول للمعجب ارجع إلى نفسك فإذا ميزت عيوبها فقد داويت عجبك.
ولا تمثل بين نفسك وبين من هو أكثر عيوباً منها فتستسهل الرذائل وتكون مقلداً لأهل الشر وقد ذم تقليد أهل الخير فكيف تقليد أهل الشر! لكن مثل بين نفسك وبين من هو أفضل منك فحينئذ يتلف عجبك وتفيق من هذا الداء القبيح الذي يولد عليك الاستخفاف بالناس وفيهم بلا شك من هو خير منك.
فإذا استخففت بهم بغير حق استخفوا بك بحق لأن الله تعالى يقول: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى من الآية:40].
فتولد على نفسك أن تكون أهلاً للاستخفاف بك بل على الحقيقة مع مقت الله عز وجل وطمس ما فيك من فضيلة.
فإن أعجبت بعقلك ففكر في كل فكرة سوء تحل بخاطرك وفي أضاليل الأماني الطائفة بك فإنك تعلم نقص عقلك حينئذ.
وإن أعجبت بآرائك فتفكر في سقطاتك وأحفظها ولا تنسها وفي كل رأي قدرته صواباً فخرج بخلاف تقديرك وأصاب غيرك وأخطأت أنت، فإنك إن فعلت ذلك فأقل أحوالك أن يوازن سقوط رأيك بصوابه فتخرج لا لك ولا عليك والأغلب أن خطأك أكثر من صوابك وهكذا كل أحد من الناس بعد النبيين صلوات الله عليهم.
وإن أعجبت بعملك فتفكر في معاصيك وفي تقصيرك وفي معاشك ووجوهه فو الله لتجدن من ذلك ما يغلب على خيرك ويعفي على حسناتك فليطل همك حينئذ وأبدل من العُجب تنقصاً لنفسك.
وإن أعجبت بعلمك فاعلم أنه لا خصلة لك فيه وأنه موهبة من الله مجردة وهبك إياها ربك تعالى فلا تقابلها بما يسخطه فلعله ينسيك ذلك بعلة يمتحنك بها تولد عليك نسيان ما علمت وحفظت.
ولقد أخبرني عبد الملك بن طريف وهو من أهل الْعِلْم والذكاء واعتدال الأحوال وصحة البحث أنه كان ذا حظ من الحفظ عظيم لا يكاد يمر على سمعه شيء يحتاج إلى استعادته وأنه ركب البحر فمر به فيه هول شديد أنساه أكثر ما كان يحفظ وأخل بقوة حفظه إخلالاً شديداً لم يعاوده ذلك الذكاء بعد.
وأنا أصابتني علة فأفقت منها وقد ذهب ما كنت أحفظ إلا ما لا قدر له فما عاودته إلا بعد أعوام.
واعلم أن كثيراً من أهل الحرص على الْعِلْم يجدون في القراءة والإكباب على الدروس والطلب ثم لا يرزقون منه حظاً. فليعلم ذو الْعِلْم أنه لو كان بالإكباب وحده لكان غيره فوقه فصح أنه موهبة من الله تعالى فأي مكان للعجب ها هنا! ما هذا إلا موضع تواضع وشكر لله تعالى واستزادة من نعمه واستعاذة من سلبها.
ثم تفكر أيضاً في أن ما خفي عليك وجهلته من أنواع الْعِلْم ثم من أصناف علمك الذي تختص به. فالذي أعجبت بنفاذك فيه أكثر مما تعلم من ذلك فاجعل مكان العُجب استنقاصاً لنفسك واستقصاراً لها فهو أولى وتفكر فيمن كان أعلم منك تجدهم كثيراً فلتهن نفسك عندك حينئذ وتفكر في إخلالك بعلمك وأنك لا تعمل بما علمت منه فلعلمك عليك حجة حينئذ ولقد كان أسلم لك لو لم تكن عالماً.
واعلم أن الجاهل حينئذ أعقل منك وأحسن حالاً وأعذر فليسقط عجبك بالكلية.
ثم لعل علمك الذي تعجب بنفاذك فيه من العلوم المتأخرة التي لا كبير خصلة فيها كالشعر وما جرى مجراه فانظر حينئذ إلى من علمه أجل من علمك في مراتب الدنيا والآخرة فتهون نفسك عليك.