خواطر: ألبسة المعاني
عامر أحمد عامر


باحث مصري في الدراسات الإسلامية
من معايير جودة التعابير أن تكتسي معانيها المجردة ألبسة محكمة من الألفاظ الموائمة لها، لا فضفاضة تشعر القارئ بالحشو الممل، ولا ضيقة تشي باقتضاب مخل، فالمعنى الذي تشعر النفس معه بالضيق والحزن لا يستقيم أن تعبر عنه ألفاظ وصور توحي بالفرح والبهجة، وإلا وقع الأديب فيما اصطلح عليه أهل البلاغة بـ(مخالفة الجو النفسي)، ومن ذلك مثلًا قول أحمد شوقي:


قف بتلك القصور في اليمِّ غرقى


ممسكًا بعضها من الذعر بعضًا


فجو الرعب المسيطر على البيت يتناقض مع وصف القصور التي من المفترض أن تدُخل رؤيتها على النفس الهناءة والسعادة، كما أنه يتنافر مع الأبيات قبله وبعده.


والمعنى الذي تستثقله النفس لا بد أن تجسده ألفاظ، بل حروف، تثقل على اللسان لتنقل بدقة ثقل المعنى، وكذلك المعاني السلسة السهلة لها حروفها وألفاظها التي توظف للتعبير عنها، ومن ذلك قوله تعالى في سورة النجم، إبان إنكار القرآن على المشركين جعلهم لله الأنثى ولهم الذكر، {تِلْكَ إذن قِسْمَةٌ ضِيزَى}(النجم:22)، وفي قراءة ابن كثير {ضئزى}، وهي أشد في النطق، إذ كان من الممكن أن توصف القسمة بالجائرة، وهذا هو المعنى المراد، لكن حروف لفظة {ضيزى} أو {ضئزى}، بما يتطلبه نطقها من مجهود يثقل اللسان تجعلها تقوم بالمعنى قيامًا لا يمكن لكلمة أخرى مثل «جائرة» أو «ظالمة» أن تؤديه.


وفي سورة الكهف لما بدأ العبد الصالح الخضر يؤول لنبي الله موسى ما كان من أمر السفينة والغلام والجدار، قال له: {سَأُنَبِّئُك بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}(الكهف:78) ، وبعد انتهاء التأويل قال: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا}، فلما كانت الحقيقة في بداية الأمر غائبة عن موسى كان ما فعله الخضر ثقيلًا عليه، ولذلك ناسب أن يأتي لفظ{تستطع} بثبوت التاء الثانية، فلما زال العجب بمعرفة الحقيقة خفَّ الثقل في المعنى فحذفت التاء الثانية {تسطع} ليخف الثقل في اللفظ.. ولعل هذا من أسمى دلائل الإعجاز البياني لكلام رب العالمين.


وكذلك من معايير جودة الكلم أن تتواءم موسيقاه، أو قل جرسه الصوتي، مع المعنى الذي يحويه.


جاءني شاعر ذات يوم، عارضًا علي قصيدة رثاء، ليقف على رأي نقدي فيها، وإذ بها من بحر الوافر، قلت له: إن الوافر موسيقاه راقصة فرحة لا تتناسب بحال من الأحوال مع مقام الرثاء.


تأمل مثلًا قوله تعالى في سورة النور:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَ ّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَ ّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55)، إذ تعيش في الآية هدوءًا أضفاه جرسها، ناسب جو الطمأنينة الذي يوعد به المؤمنون.


وتأمل قوله تعالى:{يأَيُّهَا الْمُدَّثِرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فاهْجُرْ وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فاصْبِرْ فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الكَـافِرِينَ غَيرُ يَسِير}، تلحظَ فيها الإيقاع السريع المتلاحق الذي يستنهض في الآيات السبع الأُوَل همة رسول الله " صلى الله عليه وسلم" للقيام بأمر الدعوة، ومعروفة قصة نزول هذه الآيات، وهي ثاني ما نزل من القرآن بعد {إقرأ...}، أمًّا باقي الآيات فإيقاعها السريع أشبه بضربات مثل تلك التي ستلحق بالكافرين يوم القيامة.