التصوير القرآني
د. علي صبح
كاتب مصري


أذهل القرآن الكريم عقول البشر، وتركهم في حيرة ومازالوا يرددون: هل الإعجاز في النسق العجيب؟ أم في النظم البديع؟ أم في الأسلوب الرفيع؟ أم في التصوير البياني؟ أم في التصوير الفني؟ أم في الفن القصصي؟ أم في كل ذلك؟ أم في غير ذلك؟ Screen_shot_2012-11-08_opt.jpeg


إن الإعجاز في «التصوير القرآني» لأنه ينبني على ما سبق، بل أكثر مما سبق. حين نزل القرآن الكريم، كان العرب قد بلغوا الغاية في فصاحة اللغة وبلاغتها، لذلك كانت معجزة الرسول " صلى الله عليه وسلم" في لغة العرب، التي أفصح عنها القرآن في صورة أعجزت أهلها، وذلك أدعى الى إقناعهم وأجدر في رد إنكارهم لدعوة الإسلام، فيكون العجز عن المجاراة في لغتهم بمثابة البرهان الساطع والحجة القاطعة، قال الله سبحانه وتعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}(النسا ء: 165). لذلك عجزوا عن الإتيان بمثله، بل عن الاتيان بآية من مثله، مع أن الله سبحانه وتعالى جعله {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ...}(الزمر: 28)


تعددت الجوانب في إعجاز القرآن الكريم، فكان في مضمونه وشكله، وفي كل ما يتصل به، سواء أكان ذلك في موضوعاته المختلفة التي تتصل بالإخبار عن المغيبات، كالشأن في القصص القرآني، الذي يحكي أحوال الأمم السابقة مع الأنبياء والرسل، الذين بعثهم الله فيهم مبشرين ومنذرين، من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم النبيين والمرسلين، وغيرها من القصص، مثل قصة أصحاب الجنة، وقصة الرجلين، وقصة أصحاب الكهف، وذي القرنين، وسوى ذلك.


أو كان الإعجاز في الموضوعات التي ستقع في المستقبل، مثل هزيمة الروم وفتح مكة، وانتصار الإسلام، وغير ذلك مما أخبر به الله سبحانه وتعالى نبيه محمدا " صلى الله عليه وسلم" ، بأنه سيقع في المستقبل القريب أو البعيد الى يوم القيامة.


أو كان الإعجاز في الموضوعات التي تتصل بالتشريع الإلهي لهذه الأمم، فتوضح العلاقة بين الخالق والمخلوق، وتنظم أسلوب المعاملة بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين أهله وعشيرته، وبين المجتمع الذي يعيش فيه ومجتمع آخر، وغيرها من التشريعات والنظم، مما يتناسب مع الأجيال والأزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} (الاسراء:9).


أو كان الإعجاز من حيث النظم العجيب، والأسلوب البديع، في ألفاظه التي وقعت في موقعها، متآخية مع جاراتها، ومنسجمة مع أخواتها، لأداء هذا المعنى، الذي يهز الأعماق، أو من حيث تصويره للمعاني تصويرا تلتقي فيه كل عناصر الإعجاز، في «التصوير القرآني» الرفيع.


وآثرت التعبير في جانب القرآن الكريم «بالتصوير القرآني» لتفرده بالإعجاز، فهو أسمى ما عرفه البلغاء على الإطلاق، فنسبة الشيء الى أصله أولى بجلال القرآن وقدسيته، من حيث مصدره الإلهي، دون غير ذلك من التعبيرات والأوصاف، التي يمكن أن يتصف بها التصوير في القرآن الكريم من المصطلحات الأدبية والنقدية والبلاغية، التي جرت على ألسنة الأدباء والنقاد والبلغاء، وآثروها دون غيرها، مما يتفق مع ذوقهم وإحساسهم، ويشخص مدى إعجابهم وانبهارهم بالاعجاز في التصوير البديع في القديم والحديث على السواء، مثل قول بعضهم: «التصوير الفني في القرآن الكريم» وقول بعضهم «الفن القصصي في القرآن الكريم» فالقرآن يسمو عن تصويره بكلمة «الفن» المستعملة مع العامة، ومثل قول بعضهم: «التصوير الأدبي» كأن القرآن نص أدبي من صنع البشر، وقول بعضهم: «البيان القرآني» وهذا أقرب الى الصواب من حيث النسبة إلى القرآن فقط، لا من حيث المراد، لأن البيان يمثل جانبا واحدا من جوانب التصوير القرآني العميق، وغير ذلك من الأوصاف التي جرت على الألسنة مما لا يتناسب مع جلال القرآن الكريم وقدسيته الربانية.


والقرآن الكريم حين خاطب العقل والشعور، والروح والقلب جميعا، خاطبها بأجلِّ الوسائل في التعبير، فبهرها «بالتصوير القرآني» الذي تلتقي فيه كل روافد الإعجاز، ليكشف عنها أروع كشف في جلاء ووضوح، وإقناع وتأثير، والتصوير القرآني هو «إعجاز الإعجاز»، لأن التصوير بمعناه الواسع العميق يفيض بكل ذلك، فهو جسد وروح معا، لا ينفك أحدهما عن الآخر، ولا نقصد بالتصوير الصور التقليدية والجزئية، التي اقتصرت على ألوان البيان كالتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها، أو اقتصرت على اللفظ والعبارة، أو اقتصرت على النظم في علاقة الكلمة بالمعنى، دون الأبعاد النفسية والشعورية، التي يعلمها خالق النفس والشعور سبحانه وتعالى، وليس هذا هو المقصود بالتصوير القرآني، بل الأمر أعمق من كل ما سبق، وأرحب أفقًا، إن التصوير القرآني كائن حي خالد، يلتقي فيه ما اجتمع في الإنسان من كل وسائل الحياة، في ارتباط شكله بمضمونه جملة، وما وراء ذلك من مشاعر النفس وخوالجها وعواطفها والصدق فيها، وغير ذلك من عناصر التصوير، التي تملك زمام التأثير في النفس، وتدفع صاحبها إلى الاقتناع العقلي.


والتأثير والإقناع هما الغاية من الإعجاز في التصوير القرآني، وبهما تحول الوليد بن المغيرة من معاند فاتك إلى مهزوم ضعيف، يسترحم محمداً " صلى الله عليه وسلم" ، ويضع يده على فمه الشريف فزعا من الهلاك ويقول له: أمسك عليك يا ابن أخي ثم يذهب الى صناديد الكفر، الذين كانوا ينتظرون منه القضاء عليه، فإذا بالحق ينطق به قلبه وعقله، وينطلق على لسانه، ليجري مجرى المثل والحكمة، وإن كان المثل من كافر، وهذا أولى لأنهم قالوا: الفضل ما شهدت به الإعداء، قال الوليد بن المغيرة يصف الإبداع في التصوير القرآني، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن اعلاه لمثمر، وأن اسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه. وصدق الله العظيم اذ يقول:{لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا القُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}( الحشر: 21).


وعلى سبيل المثال تأمل قول الله تعالى: {إِذْ أَوَى الفِتْيَةُ إِلَى الكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا. فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا}(الكهف: 10-11)، ستقف أمامها خاشعا مطرقا لجلال التصوير القرآني في نقل المشهد حيا كما هو، فأبرزت الآيتان الكريمتان عناصر التصوير في فرار الفتية من جبروت الملك في سبيل الله، وهم على خوف شديد، فشخصت السرعة في معناها ومبناها الموسيقي، فقوله تعالى: {إذ} يدل بمعناه الزماني ومبناه الصوتي على قصر الوقت الذي قطعه الفتية في البحث عن الكهف في سرعة خوفا من الوقوع في يد الطاغية، على العكس من كلمة «حين» التي قد تسدُّ مسدَّها في المعنى الزماني، فهي تدل على البطء وطول الوقت مما لا يتناسب مع المقام من السرعة، ودلالة «أوى» عليها أدق من دلالة «لجأ» حين توضع مكانها، فهي تدل على الوصول في تؤدة وتلكؤ.


ثم ما يوحيه لفظ «الفتية» من الشباب والنضارة، وتدفق البذل والكرم في نصر الحق، والصلابة والقوة في جانب الباطل، فموطن الغرابة فيهم أن ولايتهم في شبابهم، والشباب مرحلة الغواية والميل، ولكن تكون ولاية الشيخ الكبير مثار العجب، لذلك كان الشاب المستقيم من السبعة الذين سيظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل... وشاب نشأ في عبادة الله، ثم ما يدل عليه وزن «الفتية» من العدد، وهو دون العشرة، وهم كذلك، لأن العرب استعملت «فعلة» في جمع القلة.


وأما قوله تعالى: {فضربنا} فالفاء وحدها التي تدل في اللغة على الترتيب والتلاحق صورت سرعة استجابة الله لهم، حيث هيأ لهم كهفا يحفظهم فيه دلالة على ولايتهم، والولاية دون النبوة، لما في «الضرب» من معنى الإيذاء والعقاب، لفرارهم بدينهم، بينما الأنبياء لا يفرون، وإنما يواجهون الكفار في ثبات وإصرار، وتسليط «الضرب» على السمع أبلغ في النوم من تسليطه على العين، فقد تتناوم العينان، وصاحبهما يقظان، وإنما النائم الحقيقي هو الذي ضرب على سمعه لا بصره، وهكذا إذا ما تأملت ما في الآيتين من الحروف والألفاظ، لوجدت أن كل حرف ولفظ لا بديل له في التصوير القرآني فهو يفيض بمعان غزيرة، لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ. بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}(ال شعراء: 192-197).


المقال ورد إلينا منذ سنوات ولم ينشر