حتى لا نهزم بأيدينا!




خالد راتب - باحث دراسات إسلامية - سوريا


من أهم سمات المجتمع القوي التعاون والائتلاف ونبذ الخلاف الذي يؤدي إلى الفشل، وما سقط مجتمع على مر التاريخ إلا بسبب الفرقة والتنازع، وهذه حقيقة قرآنية بيَّنها ربُّ العزة في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (الأنفال:46).


shutterstock_113262115_opt.jpe gففي الآية نهي صريح عن الاختلاف المؤدي إلى الفشل وذهاب القوة، بل وجرأة العدو وذهاب الدولة، لأنه جاء في تفسير قوله تعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} قال صاحب «الكشاف»: الريح: الدولة.


ونهى الله جل وعلا المؤمنين عن التفرق والاختلاف في مواضع أخرى، كقوله: {وَلا تَفَرَّقُوا}، وقوله تعالى: {أن اقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}: أي أقيموا الدين الذي شرع لكم ولا تضيعوه ولا تختلفوا فيه...إلى غير ذلك من الآيات.


ونهى النبي " صلى الله عليه وسلم" عن كل وسيلة يُشتم منها رائحة الخلاف والتنازع والتباغض، فعن أنس أن النبي " صلى الله عليه وسلم" قال: «لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا وكونوا- عباد الله– إخوانًا» (متفق عليه)، زاد ابن عيينة وغيره ولا تقاطعوا وفي حديث مالك وغيره عن الزهري.


فكيف تتجنب الأمة أسباب التنازع والشقاق حتى لا تكون فريسة لأعدائها؟ وهذا يتطلب منا معرفة الداء المعضل الذي بسببه تسلط الأعداء على المسلمين؛ لأن معرفة الداء والسعي في علاجه من أهم الوسائل التي تنجي الأمة من التشرذم والتفرق.


سبب تسلط الأعداء على المسلمين:


1- الفشل والتنازع واختلاف القلوب:


يبين الحق سبحانه وتعالى أسباب انكسار الأمة أمام عدوها بعدما كانت ظافرة مرهوبة الجانب: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا}، وهذا التنازع يؤدي لا محالة إلى اختلاف القلوب التي يتم تأليفها بإذن ربها: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، وحذر النبي " صلى الله عليه وسلم" من هذا الأمر بقوله: «عن أبي مسعود قال كان رسول الله " صلى الله عليه وسلم" يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم...» (متفق عليه)، قال أبومسعود فأنتم اليوم أشد اختلافًا، يصف أبومسعود حالهم بأنهم أشد اختلافًا، فكيف لو رأى المسلمين الآن؟!!.


2- ترك الطاعة والوقوع في المعصية:


آيات كثيرة تحذر المسلمين من الوقوع في المعصية وتبين الآثار المترتبة على ذلك، وتبين للأمة أن طريق التمكين بالطاعة لله ورسوله؛ لذا قبل أن ينهى الله عن التنازع المؤدي إلى الفشل ذكر لنا طريق الخروج من هذا الفشل، حيث قال تعالى: {وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} (الأنفال:46)، ثم قال: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}، وقد رأينا كيف انهزم المسلمون في غزوة أحد بعد النصر بسبب معصية بعض الصحابة ونزولهم من على جبل أحد رغم تحذير النبي " صلى الله عليه وسلم" لهم، فلما تحولوا من الطاعة إلى المعصية تحول النصر إلى هزيمة، وهذه سنة لا تحابي أحدًا. Minarett_opt.jpeg


3- حب الدنيا وكراهية الموت


ذكر النبي " صلى الله عليه وسلم" سبب تكالب الأمم علينا مع كثرة عددنا فقال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة إلى قصعتها قيل: يا رسول الله! فمن قلة يومئذ؟ قال: لا ولكنكم غثاء كغثاء السيل يجعل الوهن في قلوبكم وينزع الرعب من قلوب عدوكم لحبكم الدنيا وكراهيتكم الموت». انظر حديث رقم: 8183 في صحيح الجامع.


4- عدم الأخذ بأسباب القوة


النصر والتمكين لا يتحققان بما في القلوب والصدور فقط، ولكن لابد من الأخذ بعوامل التمكين المادية والمعنوية، فالمعنوي يتلخص في الإيمان والعمل الصالح، والمادي بإعداد القوة في جميع مجالات الحياة (القوة السياسية، والاقتصادية، والعلمية، والتقنية، والاجتماعية..) وكل ذلك أمر به الإسلام قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}.


5- غياب الحاكم الرباني الذي يوحد الصف


دائمًا يأتي التمكين على يد قائد رباني يحيي الله به إيمان الأمة وجهادها، ولنا الأسوة في طالوت الذي مكن الله له، وذوالقرنين، وصلاح الدين الأيوبي... وواجب الأمة الآن هو السعي في إيجاد القادة الربانيين في كل مجالات الحياة، فالأمة تحتاج إلى قائد رباني عسكري واقتصادي وسياسي وفي التعليم والثقافة.. وهذا يحتاج إلى جهد وجهاد وتربية إيمانية وخلقية وسلوكية.


6- الغفلة عن التربية الإيمانية الأخلاقية


إن اهتمام القادة والحكام والمربين قد يَنصب غالبًا في توفير عدالة اجتماعية تلبي احتياجات شعبها من مأكل ومشرب وملبس ووسائل الحياة الكريمة التي يتساوى فيها الجميع لا فضل لعربي على أعجمي، وهذا خير، ولكن الأهم من ذلك هو الإعداد الإيماني الأخلاقي الذي يخرج لنا جيلًا جمع بين مقومات الدنيا والآخرة، وهذا الأمر يُغفل عنه ولا نراه– إلا قليلًا- في وسائل التعليم والإعلام وغيرها من الوسائل، وإذا أرادت الأمة الإسلامية الريادة والخيرية فلتكن أمة الإيمان والخلق، لأن ذهاب الأمم يكون بسبب بعدها عن إيمانها وأخلاقها، يقول الشاعر:


إنما الأمم الأخلاق ما بقيت


فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا


7- غياب الهدف والرؤيا عن العاملين للإسلام


الشيطان هدفه واضح يعلمه جيدًا ويسعى في تحقيقه بكل ما يملك وهذا ما بينه لنا القرآن الكريم: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}، ومن أهدافه {وَلَأُضِلَّنَّ ُمْ وَلَأُمَنِّيَنَ ّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُبَتِّكُنَ ّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُم ْ فَلَيُغَيِّرُنَ ّ خَلْقَ اللَّهِ}.


وكذلك الكافرون والمنافقون يعلمون أهدافهم ويسعون في تحقيقها، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.


فعيب على المسلم ألا يعرف هدفه ولا يسعى إلى تحقيقه، وهدف المسلم يتلخص في أمرين:


الأول: عبادة الله بما أمر وشرع على نهج نبيه " صلى الله عليه وسلم" ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}.


الثاني: تعمير الأرض: فتعمير الأرض واجب إسلامي، أمر الله به عباده بعدما أمرهم بعبادته، قال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ اله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا}.


قوله تعالى: {واستَعْمَرَكُم فِيهَا} يدل على وجوب عمارة الأرض، فإن الاستعمار طلب العمارة، والطلب المطلق من الله تعالى للوجوب. (انظر: أحكام القرآن للكيا الهراسي 3/86).


8- تآمر المنافقين المحسوبين على الإسلام


المنافقون هم السرطان الذي إذا تمكن من جسد الأمة مزقها وفتتها؛ لذا جعلهم القرآن العدو الأول لهذه الأمة؛ وذلك لأن الأعداء لا يستطيعون إحكام قبضتهم إلا عن طريق هؤلاء المنافقين الذين نخروا في جسد الأمة بداية برأس النفاق عبدالله بن أبي بن سلول ومرورًا بأتاتورك الذي أسقط الخلافة وحتى عصرنا هذا، وما نشاهده من تآمر واضح وفاضح لهؤلاء المنافقين، وهؤلاء لابد من الحذر منهم، والعمل على إفشال خططهم المدمرة وألا يغفل عنهم، ويجب تنحيتهم بعيدًا عن مراكز القوى، لأنهم متى تمكنوا أفسدوا وخربوا.


9- تعجل التمكين:


استعجال التمكين آفة خطيرة تعتور الصحوة الإسلامية، وهذا الأمر ليس بجديد، فقد سأل الصحابة نبيهم " صلى الله عليه وسلم" هذا الأمر: «متى نصر الله»، فيجيب القرآن الكريم: «ألا إن نصر الله قريب»، والقرب هنا حقيقة ولو تأخر النصر والتمكين؛ وذلك قياسًا على أعمار الأمة كلها فإنه فعلًا قريب.


والنبي " صلى الله عليه وسلم" كره استعجال التمكين قبل استكمال مقوماته، فعن خباب قال شكونا إلى رسول الله " صلى الله عليه وسلم" وهو يومئذ متوسد بردة في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا الله تبارك وتعالى أو ألا تستنصر لنا فقال: «قد كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجاء بالمنشار على رأسه فيجعل بنصفين فما يصده ذلك عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب فما يصده ذلك، والله ليتمَّنَّ الله عز وجل هذا الأمر حتى يسير الراكب من المدينة إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».


علاج ضعف الأمة الإسلامية وكيفية الخروج من أزمتها


بينا أن ضعف الأمة بسبب تفرقها وتشرذمها، وأول خطوة في العلاج تفادي أسباب هذا الضعف المذكور في النقاط التسع التي بدأت بها المقال، ثم الأخذ بهدي القرآن العظيم إلى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق وأعدلها، فبين أن علاج هذا الضعف إنما هو بصدق التوجه إلى الله تعالى، وقوة الإيمان به والتوكل عليه؛ لأن الله قوي عزيز، قاهر لكل شيء. فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه أحد: «ألا إن حزب الله هم الغالبون»، «ألا إن حزب الله هم المفلحون».


ففي غزوة الأحزاب زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر عند حصار الكافرين للمسلمين، قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} فكان علاج ذلك: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}، فكانت النتيجة: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}.


اتباع الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه


دل الله تعالى العباد على الصراط المستقيم الموصل إليه تعالى، ودعاهم إلى اتباعه، فقال لهم: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(الأن عام:153)


، فعليهم أن يتبعوا هذا الصراط إن كانوا يريدون الهداية، والفوز برضا الله ورضوانه، قال ابن مسعود: «خط رسول الله " صلى الله عليه وسلم" خطًا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيمًا، وخط عن يمينه خطًا وعن شماله خطًا، ثم قال هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ هذه الآية»، وروي عن النبي " صلى الله عليه وسلم" أنه قال: ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: «يا أيها الناس ادخلوا الصراط المستقيم جميعًا ولا تتفرَّجوا»، وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب، قال: ويحك لا تفتحه، فإنك إن فتحته تلجه، فالصراط هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من جوف الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم. (أخرجه أحمد والنسائي عن ابن مسعود). فاتبعوا سبيل الله يأيها المؤمنون، لأنه سبيل واضح واحد، ولا تتبعوا السبل المتفرقة المضلة، حتى لا تتفرقوا شيعًا وأحزابًا، وتبعدوا عن صراط الله السوي.