نحن في حالة انفصام ثقافي!





هالة عبدالحافظ- دار الإعلام العربية


يعتبر د.عبدالستار الحلوجي من أوائل الذين درسوا علم المخطوطات في مصر والعالم العربي. Backround1_opt.jpeg وقد بدأ هذه المسيرة برسالته التي حصل بها على درجة الدكتوراه من كلية الآداب بجامعة القاهرة سنة 1969.. ومنذ ذلك التاريخ وهو يعمل على تأصيل هذا العلم بما ينشره من كتب وبحوث، وبما يُشْرف عليه من رسائل للماجستير والدكتوراه، وكان آخر جهوده في هذا المجال كتاب «نحو علم مخطوطات عربي» الذي صبّ فيه خلاصة تجربته، وحاول فيه أن يضع حدودًا فاصلة لمجالات البحث في هذا العلم.. إنه شامة مصرية خالصة، ورمز وضاء في عالم المكتبات والوثائق والمعلومات، يؤمن بأن التغني بالماضي مظهر من مظاهر فشل الحاضر الذي يؤثر بإرهاصاته في المستقبل، لذلك يحرص على تنشئة جيل جديد مفعم بحيوية البحث والمعرفة والتقصي، بحثًا عن جيل قارئ فيه عبق التاريخ وحضارته.. إلى تفاصيل حواره.


تعد أحد أهم مؤسسي علم المكتبات في العالم العربي.. فهل تطلعنا أولًا عن بدايتكِ في هذا المجال؟


الحقيقة، إن عناية الله وحدها هي التي قادتني إلى هذا المشوار الطويل الذي بدأ في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، كنت أريد الالتحاق بكلية الطب، ولم يحالفني التوفيق في الحصول على مجموعها، لذا قرّرت التحويل من القسم العلمي إلى الأدبي، لأنني أحب اللغة العربية، وأذكر أنني كتبت خمسين موضوعًا ودونتهم في أجندة خاصة بي سميتها «بوتقة الذهب»، وكان زملائي يتبادلونها فيما بينهم حرصًا على كتابتها في موضوعات التعبير في امتحانات الثانوية.. وفي عيد المعلم ألقى عميد الأدب العربي الراحل طه حسين خطبة رائعة أثرت في كثيرًا، وفي هذه الأثناء أعلنت كلية الآداب عن استقبال دفعات لها في ثلاثة مجالات: (الإعلام– المكتبات– اللغة العربية)، ورفضت قسم المكتبات، والتحقت بقسم اللغة العربية، وعندما تخرجت فيها، لم تكن هناك تعيينات، وذهبت وزملائي إلى كلية التربية، للحصول على دبلومة والعمل كمدرسيين، وبالفعل أخذت الكلية ثلاثين طالبًا على مستوى مصر من مختلف الأقسام بعد اجتياز الاختبارات وكنت واحدًا منهم.


وبالفعل عملت بعد اجتياز الدبلومة بالتدريس، وجاء تعيني في أسوان، وكانت تجربة قاسية؛ نظرًا إلى طول المسافة بين أسوان وبورسعيد، وفي هذا الأثناء رشحت لبعثة من ثلاث بعثات في مجالات (اللغة العربية– والمخطوطات– والمكتبات)، رفضتها في البداية؛ لحبي لمجال التدريس، وطلبت من كبير معلمي اللغة العربية (محمد أحمد برانق) نقلي من أسوان إلى القاهرة، ولو تم نقلي لتبدل مشوار حياتي المهني، لكن لم يتم نقلي، ووافقت على البعثة وتوجهت إلى لندن وحصلت على رسالة الماجستير في المكتبات، وحصلت على رسالة الدكتوراه من جامعة القاهرة، ومنها عينت مدرسًا في قسم المكتبات بالجامعة.. لذلك أؤكد دومًا أن القدر وحده هو الذي حوّلني من قسم العلمي إلى الأدبي في الثانوية العامة ومن مدرس إلى دكتور في الجامعة، ومن قسم اللغة العربية إلى قسم المكتبات، وبعد مشوار كفاح امتد لأكثر من 34 عامًا حصلت على جائزة الملك فيصل عن كتاب (المخطوط العربي)، ومن هنا كانت انطلاقتي في هذا المجال القدري.


تراث عربي وإسلامي


حفلت الثقافة الإسلامية بآلاف من المؤلفات والوثائق والمخطوطات.. إلى أي مدى حظيت هذه المؤلفات باهتمام علم المكتبات؟


أولاً.. علم المكتبات علم حديث، فالعرب لم ينشئوا علم المكتبات بل أنشأوا مكتبة، ولم تسمَ بهذا اللفظ، بل سميت بأسماء عديدة كـ»خزانة كتب– بيت الحكمة– الديوان»، والمكتبة اسم للمكان الذي توجد به الكتب، ويظل الكتاب هو أقدم أوعية المعلومات.


وفي واقعة عايشتها في اليمن في الثمانينيات، دخلت إحدى المكتبات وجدت الكتب في جوالات، على عكس العرب قديمًا منذ 1250 عامًا، حين أعد هارون الرشيد بالمكتبة مرصدًا فلكيًا، وقاعات لقسم الترجمة، وأعد حصرًا للنديم عن كل ما كتب عن اللغة العربية، حصرًا لا يمكن إعداد مثله هذه الأيام على الرغم من توافر تكنولوجيا المعلومات، والقرية الكونية وغيرها من المصطلحات التي يتشدقون بها، فنحن لن نستطع الآن إعداد حصر للرسائل العلمية الموجودة.


وأرجع الفضل إلى النديم الذي ألّف كتاب الببلوجرافيا، وأحصى فيه المؤلفات العربية، واستقر في كل أذهان الببلوجرافيين أنه أول ببلوجرافي والأب الشرعي لهذا العلم الذي يعني «قوائم حصر الإنتاج الفكري».


ولابد أن نفرق أولًا بين المكتبات العربية والإسلامية؛ لأن المصطلحين يثيران حساسية، فالأولى لا يدخل فيها اليوم إيران وتركيا وهكذا.


والتراث العربي في معظمه تراث إسلامي، لدرجة أن الألماني «كارل بروكلمان» مؤلف كتاب «تاريخ الأدب العربي» استبعد الأعمال المسيحية، وهذا لا يعني أن الإنتاج المسيحي غير مهم، بل لأن حجمه قليل بالمقارنة بالكتب الإسلامية، فالإنتاج الفكري الإسلامي ضخم.


غير أن بعض المستشرقين أفهمونا نحن كعرب أن تراثنا «دين– لغة- تاريخ» ونحن صدقنا، ودفعنا إلى التصديق شيئان، الأول: حجم الإنتاج في هذه المجالات كبير، والثاني: أن المجالات الثلاثة المذكورة سلفًا العرب متفوقون فيها بالفعل، فاللغة هي الأم بالنسبة إلينا، ونحن أدرى الناس بها، والدين نحن أكثر الناس قدرة على فهمه، وهكذا تاريخنا لأن اللغة حلت كل هذا.


لكن اكتشفنا بعد ذلك أن العرب لديهم تراث علمي ضخم في الطب والصيدلة والهندسة والجغرافيا والرياضة والكيمياء، وهذا التراث إسلامي عربي، فحيثما انتشر الإسلام انتشرت اللغة العربية، ومن أجل أن نزيل الحساسية بين التراث الإسلامي والعربي، لابد أن نعلم أن التراث الإسلامي كله باللغة العربية، والتراث الإسلامي ليس معناه من يتحدثون في الدين، بل هو تراث الأمة الإسلامية في مختلف المجالات.


وأنا ضد من ينادون بأسلمة العلوم، فالتراث ليس في التاريخ واللغة والدين فحسب بل في كل المجالات، واللغة العربية هي الوعاء الذي صب فيها هذا التراث في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ومن حسن حظنا أن الله هو الذي حفظ القرآن حينما قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.


لماذا لم تشتهر نظرية عربية في التصنيف والفهرسة مثل تصنيف ديوي العشري؟


ديوي العشري الأمريكي نظرية في تنظيم المقتنيات، والحقيقة أن ديوي ليس هو فاعل هذه النظرية، بل كان دائمًا يتوجه إلى المتخصصين في مختلف العلوم والتخصصات كالكيمياء والتاريخ ويسأل عن تقسيمات العصور في كل مجال، وجمع كل هذه المعلومات من مائة من المتخصصين وبعد جمع المادة قال: «أنا لي في هذا التنظيم شيئان»، الأول: الترتيب، والثاني: الترميز؛ بمعنى أمنح لكل علم رقم.


وبالفعل صنع ديوي خطة لأكثر من مائة عام، ثم جاءت مصر والدول العربية وترجمت لأكثر من عشر ترجمات مختلفة، ولأن توحيد التصنيف من مصلحة القارئ المستفيد، كان من الصعب تغيير كل التصنيفات، وبالفعل تم تنفيذ الخطة لأكثر من مائة عام؛ لأنها غير مرتبطة بأشخاص، وبعد صياغة الخطة تكونت جمعية تابعة له تتابع الخطة وتطورها وتنميها هذا هو الهدف من هذا التصنيف العالمي.


فهذا النظام من المصلحة أن تتبعه المكتبات نظامًا عالميًا في التنظيم، وبيانات الفهرسة؛ لأنها لابد أن تكون واحدة في العالم كله، وعلى سبيل المثال هناك رسالة دكتوراه عن تصنيف العلوم الإسلامية، البحث هكذا ليس له قيمة، فقيمته الحقيقة في التطبيق، ولابد أن يسكن هذا البحث داخل خطة أكبر، لأن هناك علومًا أخرى غير الإسلامية، فنحن لسنا في حاجة إلى تصنيفات لنا كعرب، بل نريد تطبيق وتطوير التصنيفات العالمية القائمة.


هل من تعاون بين القائمين على علم المكتبات في مصر ونظرائهم في الدول الإسلامية والعربية؟


بالتأكيد.. وهذا لأن هناك عددًا كبيرًا من الذين تولوا أقسام المكتبات في الدولة العربية تعلموا وتتلمذوا في مصر، كما أن عددًا كبيرًا من الأساتذة المصريين درَّسوا في الجامعات العربية، وهذه الدول بإمكانياتها سمحت لهم بالسفر إلى أوروبا وأمريكا، فكان هناك احتكاك علمي بيننا وبينهم مثل عدد كبير من السعوديين الذين حصلوا على رسائل دكتوراه من مصر، من الطبيعي وجود تعاون وعلاقات طيبة، ونحن نحاول أن نقيم جسور تواصل بيننا وبينهم، واتحاد عربي للمكتبيين يضمنا جميعًا، ونحن في حاجة إلى هذا التعاون؛ لأننا في حالة انفصام ثقافي بين المشرق العربي والمغرب العربي، وهذه ظاهر قديمة.


أمة مبدعة


ما الذي ينبغي فعله لتحظى الثقافة الإسلامية والعربية بالمكانة التي تليق بها على المستوى العالمي؟


الثقافة العربية قديمًا أخذت حقها وقيمتها عندما كان العرب لهم إبداعات، واللغة العربية كانت لغة عالمية عندما كانت لغة علم، مثل الطب الذي كان باللغة العربية وتُرجم ودُرس في أوروبا، ومن أجل عالمية لغتنا لابد أن يكون لنا إنتاج حضاري، فعلينا أن نتحول من أمة تابعة ثقافيًا إلى أمة مبدعة ثقافيًا.


ففي العصور القديمة حدثت حركة ترجمة لم يحدث لها مثيل حتى الآن، أما الآن فحركة الترجمة ضعيفة ونحن في حاجة إلى إحيائها، والحل أن نصدر مجلات علمية على نفس المستوى العالمي، نبدع في كل المجالات، ونحن لدينا الفرص للإبداع، لكن لا نستغلها، ولا يتاح لها الظهور، ونحن في حاجة إلى تسويق، فهناك أناس يجيدون التسويق، ولا يسوقون إلا لأنفسهم، لابد أن نعي أن الأمل في أن ننتج شيئًا جيدًا، لابد أن نكون منتجين للثقافة والعلم، حتى يكون لدينا حضارة، التغني بالماضي هو مظهر من مظاهر فشل الحاضر الذي يؤثر بإرهاصاته على المستقبل، أزمتنا أزمة تعليم وإن لم نصلح التعليم فلا يوجد أمل في غد مشرق، ولابد أن نبدأ من حيث بدأ السابقون وليس من حيث انتهوا، أوروبا عندما أخذت ابن سينا وجابر بن حيان أخذتهما لأنهما مبدعان، وأحمد زويل ومجدي يعقوب لو لم يتجها إلى الخارج لاستكمال دراساتهما البحثية والعلمية والمهنية ما كان هذا حالهما ومستواهما، لأن المناخ العلمي مناسب، وعلينا أن نجمع هؤلاء المبدعين ونصنع منهم حديقة علمية متميزة، ونترجم أعمالهم.


إذن.. إلى أي مدى وصل العرب مكتبيًا ووثائقيًا؟


لا نستطيع أن نُنكر أنهم خطوا خطوات تحسب لهم، وفي نفس الوقت لا نستطيع أن نقول: إنهم قادرون على أن يواجهوا خطوات الدول المتقدمة في مجال المكتبات والمعلومات، لا شك في أن لهم جهودًا تُذكر لهم، وإنجازات لا بأس بها، لكن مع الأسف كلها جهود فردية، فنحن ليس لدينا أي أعمال جماعية تُذكر، لدينا بحوث جيدة ولكن لم تُفَعل، ليس فقط في مجال المعلومات بل أيضًا في بحوث الزراعة لو فُعِّلت لتبدلت أحوال دول من حال إلى آخر، لا أدعي أننا وصلنا إلى المستوى الذي نرجوه، فتخصصنا سريع التطور، وارتبط ارتباطًا وثيقًا بالتكنولوجيا، وتلك التطورات تتم بالخارج، ونحن مقلدون لها.


مكتبة الكونجرس الأمريكية نموذج للمكتبة التي تهتم بالبحث وحفظ المؤلفات.. كيف نرتقي بمكتباتنا العربية حتى تصل إلى مستواها؟


الكونجرس هي مكتبة واحدة في أمريكا، مكتبة لها تاريخ، ونحن أيضًا كمصريين لنا مكتبة وهي دار الكتب، والحل أن نرتقي بها؛ لأنها المكتبة الأم في الدولة، لكن نحن وبكل أسف نعاني الروتين، الرسوب الوظيفي، حال المرتبات المتردي الذي يؤثر في الأداء المهني للعاملين، وبما أنها مكتبة الدولة ينبغي أن ترعاها الدولة؛ لأن من حقها أن تتمتع بإمكانيات عالية ولا تحدها اللوائح العقيمة.


ما العقبات التي تواجهها أقسام المكتبات في مصر والدول العربية وكيف يمكن التغلب عليها؟


المشكلة أننا نجيد، ونريد العزف منفردين، لكن نحن في حاجة إلى عزف سيمفونية جماعية في الفكر والإبداع، ولا شك في أنه حدثت طفرة علمية وثقافية هائلة في أقسام المكتبات في مختلف الدول العربية؛ نتيجة البعثات العلمية التي تتنقل بين أمريكا والدول الأوروبية، غير الإمكانيات المادية التي ساعدتها على ذلك، فاليوم في دولة مثل المملكة العربية السعودية تخصص سنة تسمى «سنة تفرغ» وفيها يذهب الطالب لحضور مؤتمرات ويأخذ دورات في تخصصه وينطلق، أتمنى أن تحذو الدول العربية حذو المملكة العربية السعودية في أفكارها وابتكاراتها في المجالات العلمية.


تراجع معدلات القراءة


البعض يقول إن مكتبه الإسكندرية مازال أمامها كثير من الوقت للوصول إلى التجربة الأمريكية.. ما أهم ما يميزها وما الذي ينقصها؟


أولًا.. لا وجه مقارنة بين مكتبة الكونجرس الأمريكية ومكتبة الإسكندرية أو حتى دار الكتب المصرية، فالمكتبة حاليًا أقرب إلى مزار سياحي منها إلى مكتبة عامة، والشهرة التي اكتسبتها أتتها من الدعم المالي والمعنوي والإعلامي غير المحدود الذي تلقته من النظام السابق ومن مؤسسة الرئاسة، ولو أُتيح لدار الكتب المصرية بعض ما أُتيح لهذه المكتبة من موارد مالية لتبدلت أحوالها، وكان لها اليوم شأن آخر أفضل بكثير مما هي عليه الآن.




إضاءة


د.عبدالستار عبدالحق الحلوجي


* دكتوراه في علم المكتبات من جامعة القاهرة، كلية الآداب 1969م.


* عضو اللجنة العلمية الدائمة لترقية أعضاء هيئة التدريس في تخصص المكتبات والوثائق والمعلومات، منذ 1981م وحتى الآن.


* مستشار شؤون المخطوطات- وزارة الأوقاف.


* التدريس بجامعات القاهرة والإسكندرية والأزهر وطنطا بمصر، وجامعات الإمام محمد بن سعود الإسلامية، والملك عبدالعزيز، والملك سعود (قسم الطالبات) بالسعودية، وجامعة أم درمان الإسلامية بالسودان.


* عضو لجنة إحياء التراث بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية من سنة 2000م ومقرر اللجنة من سنة 2001م ورئيسها منذ 2005م حتى الآن.


* رئيس تحرير مجلة (تراثيات) التي يصدرها مركز تحقيق التراث بدار الكتب بالقاهرة منذ يناير 2003م.


* حاز العديد من الجوائز العالمية منها جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الإسلامية 1998م، جائزة التميز لجامعة القاهرة في مجال العلوم الإنسانية والتربوية 2010م، الجائزة التقديرية لجامعة القاهرة في مجال العلوم الإنسانية والتربوية 2006م.