تكرم الدكتور محمد جمال صقر بإرسال النص في ملف وورد . فجزاه الله خيرا.
أتمنى أن يكون الموضوع عونا لكل من يريد أن يعبر من العروض إلى علم العروض
مَنْهَجُ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ
للدكتور محمد جمال صقر
1434=2013
"خطة الدكتور صقر"
دُعِيتُ في 24/4/2001 إلى المحاضرة في منهج البحث العلمي، فخططت هذه الخطة المصورة الملحقة، وقدمتها بين يدي محاضرتي بكلية الآداب من جامعة السلطان قابوس. ثم كُلِّفْتُ بعد ثلاث سنوات تدريس ما يسمى في دبلوم دار العلوم "قاعة بحث 1"، فلجأت إلى خطتي القديمة، وصورتها للطلاب، ثم جعلتها محور المقرر، أبدأ لهم منها، وأنتهي إليها، وأدور عليها.
وقد كُلِّفْتُ ذلك التكليف ثلاث مرات؛ فتيسر لي أن أستفيد من تكرار النظر في تلك الخطة ومن نظر ثلاث فرق من تلامذتي النجباء الذين اتخذوها حَنانًا يَأْوُون إليه، ما لا غنى عنه بالباحثين المبتدئين في علوم الثقافة العربية الإسلامية، ولاسيما علوم اللغة العربية.
وعلى رغم شَكْلِي كلَّ حرف تَنبيهًا على وجه كل كلمة ووجاهتها، تركتُ العبارة الأولى غير مشكولة "خطة الدكتور صقر"، تَمسُّكًا بدلالة "خُطَّة" المضمومة الخاء على التخطيط المعنوي، ودلالة "خِطَّة" المكسورتها على التخطيط المادي، ودلالة "خَطَّة" المفتوحتها على عدد ما يكون ويتوالى من التخطيطات المعنوية والمادية.
"تَكُونُ بِالتَّقْلِيدِ وَتُسْتَوْعَبُ بِالتَّعَلُّمِ"
لمنهج البحث العلمي أصولٌ وفروع وعلامات تُعْرَض وتنقد في أثناء تعليمه حتى تُستوعبَ؛ إذ تمتزج هي ومُستوعِبُها؛ فلا يَرَى إلا بها، ولا يَصدُرُ إلا عنها، ولا يَحتكِم إلا إليها.
وأَلْطَفُ ما في علمها أنه يشترك فيه المعلمُ والمتعلمُ كلاهما؛ فكما يستفيد المتعلمُ علمَ ما لم يعلم، يستفيد المعلمُ إحكامَ ما يعلم وضبطَ بعضه ببعض وتحسينَه، حتى ربما حَمَلَ نفسه على تعليمها حتى يتعلمها به.
ولا ريب في أن الاطلاع على الأبحاث السابقة وتحصيل ما فعل بها أصحابها، وَسيلةٌ مجرَّبة ناجحة إلى إنجاز مثلها على جهة التقليد، على ما فيها من اختلاف المطَّلعين بين مَنْ حَظِيَ بأبحاث الكبار فكَبُرَ بها تقليده، ومن ابتُلِيَ بأبحاث الصغار فصَغُرَ بها تقليده!
وليس الاستيعابُ كالتقليد؛ فإن المقلِّد أَسيرُ المقلَّد محدود به منسوب إليه، فأما المستوعب فَحُرٌّ طَليقٌ مُمتلئٌ بنفسه جَريءٌ مُبادرٌ مُغامرٌ مُجددٌ مُبتكرٌ.
"أُصُولٌ وَفُرُوعٌ وَعَلَامَاتٌ مَحْسُوبَةٌ"
ما أكثرَ أعمالَ البحث العلمي المنهجية وما أهمَّها! ولكنها على رغم هذا وفي أثنائه، مُتفاوِتةُ الأهمية على ثلاثة أنواع: أُصولٌ تَأْسيسيَّةٌ، ففُروع تَكْميليَّةٌ، فعَلاماتٌ تَنْبيهيَّةٌ.
وليس أدلَّ على منزلة بعضها من بعض من تمثيلها بمثال الطريق الذي تَظهَرُ به الخطةُ في صورتها الملحقة؛ فإن الأصول المرادة هنا بمنزلة الميدان المستولي على الطريق، وإن الفروع بمنزلة الشارع المتفرع من الميدان، وإن العلامات بمنزلة اللافتات المنصوبة على جانب الشارع!
وإذا كرهنا من الرائد المُسافِر بنا أن يجهل اللافتات ذَمَمْناهُ بجهل الشارع، وأَبَيْنَا عليه أن يجهل الميدان، فإن فعلَ اطَّرَحْناه عنا إلى غيره؛ إذ قد كَذَبَنَا والرائدُ، لا يَكْذِبُ أهلَه.
"مَنْهَجُ الْبَحْثِ الْعِلْمِيِّ الصَّحِيحِ لَا الرَّائِعِ"
ما أَصْرَحَ دلالةَ المنهج على الطريق وقد خَطَّطَتْهُ الخطةُ المُلْحَقَةُ، فأما أن يكون طريق بحث والبحث حفر فلا يخلو من تنبيه على أنه كُلَّما كان أعمق كان أَوْصَلَ وأَنْجَحَ؛ فليس المقام لجمع المعلومات، فما جمعُها إلا معرفةٌ غيرُ منتجة، بل لِتَنْسِيقها وتصنيفها وتنظيمها والاستنباط منها، وهذا هو العلم المنتج.
والبحث المطروح هنا هو البحث العلمي الصحيح المجرَّب الناجح، الذي تَواتَرَ عليه الباحثون وأيدته تجاربهم، حتى استطاعوا أن يُميِّزوه ويَضْبِطوه ويُعلِّموه.
أما البحث العلمي الرائع فلا موضع له هنا؛ إذ لا يُعلِّمه المعلمون، بل يُفاجَأُ به المتلقون جميعًا مُعلِّمين ومُتَعلِّمين، فإذا أعجبهم، فتمسَّكوا به، وضبطوه، وعلَّموه- فَقَدَ رَوْعَتَه!
وليس أَشْبَه بالبحث العلمي الصحيح مِنَ الحِصانِ الإِنْسيِّ المُستأنَس، ولا أَشْبَه بالبحث العلمي الرائع منَ الحِصان الوَحْشيِّ المُسْتوحَش؛ فلا نَرْكَبُ إلا الأول، وإن انْبَهَرْنا بالثاني!
"ابْنُ سَبِيلٍ"
ربما اهتدى بعضُ طلاب العلم إلى ما يلائمه مما يستطيع إذا ما بذل فيه وُسْعَه، أن ينتفع به وينفع غيره ويتقدم به إلى الأمام، في رحلة الحياة هذه الجبلية الصعبة التي لا تتكرر. ولكنَّ أكثرَ طلاب العلم لا يستغنون عن تنبيه من حولهم آباءً وإخوةً وأساتذةً وزملاءَ...
يُولَدُ أبناؤنا بمواهب واحدة معروفة على اختلاف استعداداتهم بينها، فإذا نُبِّهوا أو انْتَبَهُوا إلى ما لهم فيه استعدادٌ وأُعِينوا عليه كانت لهم فيه قُدْرَةٌ ثُمَّ مَهَارَةٌ ثُمَّ إِبْدَاعٌ، وإلا خَبَتْ جَذْوَةُ الاستعداد، وجَفَّتْ زَهْرتُه، وفقدوا مواهبهم فيه من أصلها.
وإذا أَخْطَؤُوه إلى غيره وأُعِينوا عليه كانت لهم فيه قدرة، ولم يكد يكون لهم فيه مهارة، واستحال أن يكون لهم فيه إبداع. ولَكَنَّاسُ شَوارعَ مُبْدِعٌ أَهَمُّ لنا وأفضل عندنا وأحب إلينا من أستاذ جامعات غير مبدع، ولا سيما في زماننا هذا المفتون بالقُمامات، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
"عِلْمٌ"
لن يكون بحثٌ ولا منهجٌ، حتى يكون عِلْمٌ؛ ففيه سيكون البحث والمنهح. ولن يَتَعَرَّفَ أيُّ ابنِ سبيل حتى يهتدي إلى علمٍ يَنقطعُ له حتى يستوعب قطعة منه كبيرة، يقف منها على أرض ثابتة.
فإذا اهتدى أيُّ ابنِ سبيل إلى عِلْمٍ ملائم وجب أن يجتهد في تحصيله على كل وجه. وربما كان الوجهُ الرَّسْميُّ أَجْدَى عليه، وربما لم يكن؛ فما أَكْثَرَ المعاهدَ العلمية، وما أَقَلَّها!
ولا غِنَى له عن تحديد مَظانِّ هذا العلم الملائم وتنظيم أَوْرَادِ استيعابها على مَنَادِحِ ليله ونهاره؛ فأَصْعَبُها لِأَقْواها، وأَسْهَلُها لِأَضْعَفِها، وأَوْسَطُها لِأَوْسَطِها.
وكلُّ مُجْرٍ في الخلاء مَسرورٌ بما يُسابِقُ نفسَه؛ فمن ثَمَّ ينبغي أن يُذاكِرَ في هذا العلم غيرَه؛ ففي المُذاكرة تَلْقِيحُ الألباب، يَطْرَحُ ما عنده، ويَطْرَحُ غيرُه، فيَتبيَّنُ له مَبْلغُ ما حَصَّل، ويدُ الله مع الجماعة.
"أ=مَسْأَلَةٌ"
أَوَّلُ أصول المنهج التأسيسية مَسْأَلَةٌ لا تَنْبُتُ لسائلها إلا في منبتها الصالح أي العلم الذي حَصَّلَه، دَلالةً عليه؛ فليس أدلَّ على العلم من الأسئلة التي يثيرها، وأعظمُ العلوم وأخلدها أكثرُها إثارةَ أسئلةٍ، فأما أكثرُها إجابةً فيُوشك أن يُكتَفى منه ويُستغنَى عنه.
وكلمة مَسْأَلَة في علم الصرف من باب المصادر، تُصنَّف على أنها مصدر مِيميّ يبالغ به في معنى المصدر الصريح ثم يبالغ فيه بزيادة تاء الجَماعة؛ فهي إذنْ مُبالغةٌ في مُبالغة؛ ومن ثَمَّ ينبغي ألا تُطلَق إلا على ما تكثر فيه الأسئلةُ كثرةً كاثرةً أو ما يُنزَّل هذه المنزلة.
يجوز أن يُكلِّفَ الباحثَ المسألةَ مَنْ لا يَعْصِيه، فيَحْمِلَها. ويجوز أن يَجِدَها ظاهرةً مطروحةً في الكتب والمحاضرات والمناظرات، فيَختطِفَها. ويجوز أن يَفْتَقِدَها، فيَستنبِطَها. ولكن إذا دلّت الحال الأولى على بِرِّه، ودلّت الحال الثانية على فَتْكِه- فلقد تدُلّ الحال الثالثة على عَقْلِه!
"ب=مَصَادِرُ"
ثاني أصول المنهج التأسيسية مَصَادِرُ تنبُع منها المسألة وتصدر عنها. وعلى حسب هذه المسألة تكون المصادر، كما على حسب هذه المصادر تكون المسألة، ولا مُعْضِلَةَ!
رُبّما غَمَضَ مَجيءُ المصادر في الأصول بعد المسألة التي إنما نبعت منها وصدرت عنها، حتى يتضح أن للمصادر عَمَلَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ على فترة: أولُهما فيما يَطلُبه أيُّ ابن سبيل من علم أَوَّلِيٍّ يُثير أسئلتَه، وثانيهما فيما يَطلُبه من جواب المسألة التي ينقطع لها دون غيرها.
ولقد ينبغي التنبيه على أن حال المصادر في عملها الثاني غير حالها في عملها الأول؛ فإنها إن تكن في الأول عَفْوِيَّةً عامَّة تثير أسئلة كثيرة مختلفة وتجيب بعضها دون بعض، فهي في الثاني قَصْدِيَّةٌ خاصَّة تثير المسألة المختارة وتجيبها.
يرجع الباحث إلى المصادر في هذا الأصل الثاني رجوعا خاصا؛ فلا يَعْبَأُ منها إلا بمصادر مسألته القصدية الخاصة، وإن أَحاطَها أحيانا بهالةٍ من المصادر العفوية العامة.
"ج=مَادَّةٌ"
ثالثُ أصول المنهج التأسيسية مَادَّةٌ يَستمدُّها الباحث من مصادر مسألته القَصديَّة الخاصَّة استمدادًا كاملا ما استطاع إليه سبيلا، يُغْرِيه به ويُعِينه عليه ما في كلمة مَادَّة نفسها من دلالة على أنها سِرّ حياة البحث الذي يستمر إليه من مصادره استمرارَ النُّسْغ من جَذْر الشجرة إلى فرعها.
وكما يَرِدُ العطشانُ عين المياه ويَنْهَل منها يَرِدُ الباحث مَصْدَرَ مسألته ويستفيد منه. وكما تهتدي النَّحْلَةُ من زهر البستان إلى ذَواتِ الرَّحيق دون غيرها يهتدي الباحث من مواد المصدر إلى مادة مسألته دون غيرها.
وما استحضار مثال النحلة إلا من باب التقريب وحسن الظن بالباحث؛ فقد أُوتِيَتْ هي حاسَّةَ الاهتداء إلى الرحيق، ولم يُؤْتَ هو حاسَّةَ الاهتداء إلى المادة؛ ومِنْ ثَمَّ يظلُّ يُخْطِئُها أو يجمع معها غيرها -وإن قلَّ ذلك منه على الزمانِ والمُحاولةِ والمُزاولةِ- فأما هي فلم تخطئ قَطُّ ولن تخطئ أبدًا؛ لا تَبْديلَ لخلق الله؛ فتبارك الله أحسن الخالقين!
"د=تَصْنِيفٌ"
رابعُ أصول المنهج التأسيسية تَصْنيفٌ تنقسم فيه المادة بما تُؤدِّيه طبيعتُها وخصائصها، على أقسام متميزة تميزا منطقيا واضحا.
ولا تستعصي على الانقسام مادة -وإن قَلَّتْ- إلا أن يَغْفُلَ الباحثُ أو يكسَلَ أو يُهمِل، وهي أحوال لا يستقيم عليها عمله أصلا، ولا يستمر إلى غايته.
أما الباحثُ الواعي النشيط المعتنِي فلن يعدم ما يَدْخُلُ منه إلى تقسيم المادة وتصنيفها على حسب ظاهرها وحده، أو باطنها وحده، أو ظاهرها وباطنها جميعا معا- وعلى حسب ما يراه هو فيها، أو على حسب ما دَرَجَ غيرُه على رؤيته فيها، وإن خالفهم فيه.
ربما كان في تصنيف المادة وَجْهٌ من مُبادَرة الباحث إلى عرض رأيه الذي سينتهي إلى إثباته، ولكن لا يمتنع أن يكون فيه وَجْهٌ من مُبادَرته إلى رأي غيره الذي سينتهي إلى دَحْضِه.
"ه=بِنَاءٌ"
خامسُ أصول المنهج التأسيسية بناءٌ تَتَرَكَّبُ فيه صنوف التصنيف بحيث تستوي بنيانا محكما يشد بعضه بعضا، على مثل بنيان الباحث نفسه، يظلّ يدلّ عليه ويُشير إليه.
إن كلّ عمل مُتقَن يعمله الإنسان لا يخلو من بُنْيَانِيَّتِه ِ هو نفسه أي تَرَكُّب أجزائه ظاهرا وباطنا وارتباطها حتى لَتُظَنّ كيانًا واحدًا صُلْبًا مُصْمَتًا، وما ذاك إلا أنها بُنْيان كبُنْيان الإنسان.
ولا ريبَ في تَفاوُت مُدْرِكي هذه البُنيانيّة مُتلقينَ وباحثينَ؛ فمِنْ أسرار التركب والارتباط ما لا يَتيسَّر لأيِّ أَحَدٍ؛ فلا يقدر أيُّ باحث على إضماره في بحثه، ولا يقدر أيُّ متلق على إظهاره منه.
ولكنْ لا غِنى عن مبادئ المنطق الطبيعي التي يتمثل بها أيُّ شيءٍ أمامَنا بُنيانًا سَوِيًّا بلا اضطِراب ولا تَنافُر ولا تَناقُض، لا في التحديد ولا في الترتيب ولا في التهذيب.
"ابْنُ السَّبِيلِ"
الآنَ بعدما اهتدى طالبُ منهج البحث العلمي إلى علمه الملائم واشتغل بتحصيله، ثم تَبيَّنتْ له وتميزت أصول المنهج التأسيسية الخمسة- لم يَعُدْ أيَّ ابنِ سبيل، بل صار ابن هذه السبيل دون غيرها.
قَبْلَئِذٍ كان يَهْرِفُ بما لا يَعْرِفُ، فلا يؤخذ عليه خطأٌ عِلْمي لا قَوْلي ولا فِعْلي، بل يُعْرِض عنه أبناءُ السبيل سلامًا مِنْ فَرَطاتِ جهله! فأمّا الآن بعدما صار من أبناء هذه السبيل، فينبغي له أن يَتَأَدَّبَ بأدبهم لأنه سيكون مِلاكَ ما بينه وبينهم، يُحاكمونه إليه، ويُحاكمهم.
ومِنْ أَدَبِ أبناء هذه السبيل أن يَتَواصَوْا باليقين بالحق -فلا يَقرّ لهم قرار على غيره- وبالإخلاص للحق -فلا يكون لهم قصد إلى غيره- وبإتقان العمل -فلا ينقطع لهم دَأَبٌ دونه- وبالثبات على اليقين والإخلاص والإتقان -فلا يكون منهم تَحوُّل عنها- وبالرضا بعواقبها؛ فلا يكون منهم سخط عليها، ولا يأس منها.
"تَبَيَّنْ=الْجِ دَّةُ أَوِ النَّقْصُ=1"
أولُ فُروع المنهج التَّكْميليَّة الجِدَّةُ أو النقص، وعَلامتُه التَّنْبيهيَّة تَبَيَّنْ؛ إذ ربما بَذَلَ الباحث من وُسْعِهِ وعمره، ثم ذهب ما بذله أدراجَ الرياحِ هَباءً منثورًا، حين يطلع فجأة أو يتجلى لغيره أنه مسبوق إلى مسألته، وأنه إن لم يكن سرقها فلم يزد على أن كَرَّرها أو كَدَّرها!
لقد ينبغي للباحث أن يَتبيَّنَ أولًا أنَّ المسألة التي سيجعل فيها بحثه، جَديدةٌ لم يُبْحَثْ عنها مِنْ قبلُ، أو ناقصةٌ لم يكمل بحثها؛ فإنْ يَستصعبْها جديدةً يَستسهلْها ناقصةً. ولا غِنَى به في تَبيُّن ذلك عن تفتيش خزائن المسائل بالمعاهد العلمية وهي متاحة الآن ورقيةً ورقميةً، ولا عن سؤال أهل العلم المتحققين المُتحرِّجين.
وإن من فِطْنة الباحث أن يعثر للمسألة القديمة على وجه جديد يوجهها عليه ويبحث بها عنه، حتى لَيَرَى المتلقون أنْ لو لم يبحث بحثه لَخَسِروا عملًا مفيدًا مُهمًّا. وليس أعون له على ذلك من مُلْتَقَيَاتِ العلوم المختلفة؛ فأكثر الباحثين مُشغولونَ بالمسائل التي يَستقلّ بها كلُّ علم من العلوم القديمة المستقرة الحدود، فأما مسائلُ العلوم الجديدة المتحرِّكة الحدود التي تَشتجِرُ فيها علومٌ مختلفة، فلا يَصْمُدُ لها إلا أهل العزم من الباحثين.
"حَدِّدْ=الْكِفَ ايَةُ وَالِانْحِصَارُ =2"
ثاني فُروع المنهج التَّكْميليَّة الكفايةُ والانحصارُ، وعَلامتُه التَّنبيهيَّة حَدِّدْ؛ إذ ينبغي للباحث أن يحدد مادة بحثه بحيث تنفرش على فضائه وتنحصر بحدوده، أي أن تملأ أَقْطارَه بلا إفراط ولا تفريط.
إنَّ في انخداع الباحث لكثرة مادته مَهْواهُ في هُوَّةِ الإفراط، والإفراط إسرافٌ، والإسرافُ سَفَهٌ. وإن في انخداعه لقلة مادته مَهْواهُ في هُوَّةِ التفريط، والتَّفْريط تَقْصيرٌ، والتَّقْصيرُ عَجَزٌ.
وعلى حسب شروط البحث مَدًى وسعةً وعُمقًا، ينبغي للباحث أن يُحدِّد مَادته؛ فلا مِراءَ في اختلاف شُروط أبحاث الماجستير والدكتوراة وما قبلهما وما بعدهما، ومن ظن أنه يَتفضَّل على المتلقين بإقامة أحد هذه الأبحاث على مادة غيره، فقد أخطأ، ومَنْ أخطأً لم يَستحقَّ التقديرَ، وإنْ أَهلَكَ نفسَه!