31-12-2013 | يحيي البوليني
للنفس البشرية غرائزها الفطرية التي جبلت عليها, ومن أهمها حب الحياة والبقاء, فمع أن الموت هو الحقيقة اليقينية التي نؤمن بوقوعها جميعا, ولم ينكرها مطلقا مؤمن بالله ولا كافر به, إلا أنه يظل دوما حقيقة مكروهة لا يمكن أن يقبل عليه أحد بإرادته, ولا يمكنه أن يقبل عليه إنسان مختارا إلا تحت ضغط فكرة قوية –داخلية أو خارجية- تسيطر على تفكيره وتجعل هذا القرار العسير سهلا عليه, وتجعله يقبل عليه برغبة وطواعية لا يمكنها أن تتوافر لديه في الأحوال العادية للإنسان.


للنفس البشرية غرائزها الفطرية التي جبلت عليها, ومن أهمها حب الحياة والبقاء, فمع أن الموت هو الحقيقة اليقينية التي نؤمن بوقوعها جميعا, ولم ينكرها مطلقا مؤمن بالله ولا كافر به, إلا أنه يظل دوما حقيقة مكروهة لا يمكن أن يقبل عليه أحد بإرادته, ولا يمكنه أن يقبل عليه إنسان مختارا إلا تحت ضغط فكرة قوية –داخلية أو خارجية- تسيطر على تفكيره وتجعل هذا القرار العسير سهلا عليه, وتجعله يقبل عليه برغبة وطواعية لا يمكنها أن تتوافر لديه في الأحوال العادية للإنسان.
وعادة ما يحب علماء دراسة السلوك الاجتماعي للإنسان -في علم الأحياء الاجتماعيSociobiology وهو الفرع الذي يقوم بدراسة الأسس الأحيائية أو البيولوجية للسلوك الاجتماعي للإنسان والحيوانات الأخرى-, يحبون إطلاق تسمية الانتحار على كل سلوك لقتل النفس وهو تعريف مشكل, فليس كل قتل للنفس طواعية أو إهلاكها بقصد الفاعل يعد انتحارا.
فالتضحية بالنفس تعني أن يقدم الفرد باختياره الحر على أن يقوم بفعل لا تكون له عاقبة مباشرة عليه سوى فقد حياته ويكون فيها إنهاء لحياته في الدنيا, وهنا تتفق مع الانتحار في الشكل لكنها تختلف عنه تماما في المضمون, فالمنتحر يعتبر هذه اللحظة هي النهاية بينما معظم من يضحي بنفسه يعتبر هذه اللحظة هي البداية الحقيقية له في حياة أخرى هي أرحب وأوسع وأكرم, ويعتبر المنتحر عملية إنهاء الحياة غاية بينما يعتبرها صاحب التضحية بالنفس وسيلة للوصول إلى غاية , وشتان بين الرؤيتين.
الانتحار بين الإسلام وغيره من الشرائع والعقائد
والإسلام لا يبيح الانتحار تحت أي ذريعة, فيحرم مثل هذا التصرف على المسلم, فالمسلم يخضع للقواعد والتشريعات الإسلامية فيما يملكه وما يمكنه التصرف فيه, والنفس الإنسانية ليست ملكا لصاحبها, فمالكها ربها وخالقها وهو وحده صاحب الحق فيها وبيده وحده موعد ومكان وفاتها, ولهذا فالمنتحر ليسا معتديا فقط على مالا يملكه بل هو اعتدى على صفات الله التي يجب إلا ينازعه عبد من عباده فيها فهو المحيي والمميت.
وحذر الإسلام تحذيرا شديدا من اللجوء لهذا المسلك عندما يصيبه الضر كفقر أو مرض أو بلاء, وقد حذر الله سبحانه من ذلك في القرآن الكريم فقال: "وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً" النساء: 29-30, وحذر منه النبي صلى الله عليه وسلم, فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً" [1].
أما في الشرائع والملل الأخرى وفي ثقافات الشعوب غير المسلمة ففي بعضها قبس من أثر شريعة سماوية وبفي بعضها الآخر تشجيع وترغيب على الانتحار باعتباره فضيلة يقوم بها صاحبها.
ففي الديانة اليهودية وخاصة في التفاسير الأرثوذكسية ترفض وتدين الانتحار ولهذا يقول حاخاماتهم عن الانتحار إنه ضرب من "الميثاق مع الموت" ولكنه لم يرد به نص مباشر في العهد القديم.
وهكذا في العهد الجديد, فعلى الرغم من خلو الأناجيل من عقوبة صريحة للمنتحر أو تحريم واضح للانتحار إلا أنهم يتمسكون بالقول بان النص العام الذي يحرم قتل النفس البريئة يشمل المنتحر معها, لكن بكل الأحوال توجد أثارة من علم الشريعة عندهم فلا يحبذون الانتحار ولا يثنون على فاعله, لكنهم في المقابل لا يؤمنون بأن المسيحي إذا أقدم على الانتحار سيفقد خلاصه ويذهب للجحيم, لأنهم يعتبرون أن كل من آمن بالمسيح مخلصا فإن أبديته مضمونة وأنه ناج يوم الحساب مهما اقترف من أفعال, فكما يقولون بأنه لا يستطيع شىء أن يفصل المسيحي عن محبة الله" [2].
وعلى الرغم من هذا فالتاريخ يثبت أن بعض النصارى مارسوا الانتحار بحرق أجسادهم لتذوق عذاب المسيح وذلك حسب زعمهم الباطل.
وعلى خلاف منهم يقف الكاثوليك الذين يعتقدون أن روح المنتحر ستعاقب في الآخرة ولا يدفنون جثته في مقابرهم العامة.
وفي الأديان والعقائد الأخرى توجد حالات انتحار طقوسية لا يستطيع من وقعت عليه ان يتخلف عنها وإلا لحقه العار طول حياته وربما تعرض لعقوبة مساوية للموت, كما في الهند, فمنذ عدة قرون تقوم المرأة وفقا لتعاليم الهندوسية ووفقا لطقس يدعي "الساتي أو السوتي" فتقوم الأرملة الهندوسية بإلقاء نفسها في نار محرقة نعش زوجها ويزعمون أن هذا من الوفاء للزوج بان تشاركه مماته كما شاركته حياته وأيضا يعتبرون ذلك طريقة لمحو ذنوب الزوج وجلب المنفعة لأطفالهما, ولا يمكنها فعل شئ غير ذلك, وعلى الرغم من تجريمه حاليا في الهند إلا أن هناك حالات لا تزال تقوم بهذه الممارسة.
وعلى العكس من ذلك فهناك جماعات كثيرة جرمت الانتحار تحت أي اسم أو مبرر له مثل جماعة "الباهاريس" في الهند التي تعتقد ان روح المنتحر لا تستطيع دخول الجنة لأنها تظل عالقة بين السماء والأرض إلى الأبد, وجماعة في الأمازون تعتقد أن روح المنتحر تتلاشى من الوجود وتعجز عن الظهور في الجنة, وأيضا في أفريقيا حيث توجد قبائل تقطع جثة المنتحر وترميها للتماسيح من تعظيم هذه الجناية, ويدين البوذيون الانتحار لأنهم يعتبرونه انفصالا غير كامل عن الجسد.
وتأتي في الطرف المقابل ثقافات تشجع على الانتحار وتجعله عملا نبيلا وبطوليا وخاصة في الثقافة اليابانية التي تحث على الانتحار وهو الأمر الذي يفسر انتحار كثير من الجنود والمسئولين بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية, ويفسر أيضا ورود أنباء عن انتحار مسئولين يابانيين لليوم.
ويجعل اليابانيون للانتحار طقسا مقدسا يدعى "الهاراكيري" حيث يجلس قاتل نفسه على ركبتيه ممسكا سيفا بيديه يغرسه من أسفل بطنه حتى يصل إلى رئتيه, ثم يظل متماسكا بهذه الوضعية حتى يخر ميتا, ويظن أنه قد أبلى البلاء الحسن, وصدق الله العظيم "قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِين َ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" الكهف: 103-104.
التضحية بالنفس
عادة لا تأتي التضحية بالنفس إلا من أجل هدف سام كونه الفرد نفسه من قناعاته الذاتية أو من خلال أفكار تلقاها من غيره وآمن بها وسار على منوالها مستهينا بالحياة مضحيا بها كوسيلة لتحقيق الغاية الأعظم التي ينشدها ومعتبرا نفسه مقدما خدمة جليلة بموته ربما تفوق الخدمات التي قدمها لهذه الفكرة التي يؤمن بها طوال حياته.
ولأبناء العقيدة الإسلامية تضحيات كثيرة وأمثلة عديدة في التضحية بالنفس من اجل الغاية الكبرى والقيمة العظمي وهي نصرة هذا الدين إرضاء لرب العالمين, وكان سبيلهم في هذا طاعة أنبياء الله فيما أمروا به طاعة لربهم سبحانه حتى لو جاء الأمر بان يقدموا أرواحهم -وهي أغلى ما يملكون- لله, فمنهم من جاءه الأمر مباشرا كحال إسماعيل عليه السلام حينما بلغه نبي الله إبراهيم بأمر الله بذبحه, فامتثل وقدم نفسه لله طائعا مختارا بلا تردد أو وجل "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ *وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ" الصافات: 103-105.
وعلى هذا كان صحابة النبي رضوان الله عليهم إذ كانوا يهبون أنفسهم لله ابتغاء مرضاته دون خوف ولا وجل في أعمال بطولية لم يكن احدهم يظن انه سيرجع منها إلا شهيدا محمولا على أكتاف الرجال.
ففي يوم اليمامة استعصت حديقة الموت على المسلمين بعد أن تترس بها مسيلمة الكذاب ومن معه, فلم يكن من البراء بن مالك رضي الله عنه إلا أن قال لمن معه "ضعوني على ترس ثم احملوني على أسنة الرماح واقذفوني إلى داخل الحصن فإما أن أقتل وإما أن أفتح لكم باب الحصن", ففعلوا فوقع بين جند كثيف لا يرى أوله من آخره وقاتلهم وحده وقتل منهم عددا لا يدركه ثم تمكن من الباب ففتحه وبه ثمانون طعنة فتدفق المسلمون نحو الحديقة فقتلوا مسيلمة وكل من معه.
وكرر نفس الموقف الزبير بن العوام رضي الله عنه, فعندما استعصى على المسلمين حصن بابليون في طريقهم لفتح مصر قال: "إني أهب نفسي الله تعالى وأرجو أن يفتح الله بذلك على المسلمين"، فوضع سلما إلى جانب الحصن من ناحية سوق الحمام ثم صعد وألقى بنفسه داخله ثم كبر وكبر المسلمون فظن الروم ان المسلمين قد اقتحموا الحصن ففروا ثم استسلموا.
وأما غير المسلمين, فهناك بالفعل أناس يضحون بأنفسهم من اجل عقيدتهم ويستهينون بحياتهم, وهؤلاء من اشد الناس خسارة في الدنيا والآخرة, إذ أنهم فعلوا فعلا عظيما في غير محله, فلن تراهم البقرة التي يضحون من اجلها, ولن يسمعهم الحجر الذي يتعبدون إليه من دون الله, ولن تجزيهم الشمس والقمر والكواكب, ولن ينفعهم الخلق الذين يطلبون رضاهم "يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ" الدخان:41.
ولصاحب التضحية بالنفس سمات تجتمع فيه ومن خلالها سيتضح أن خير من ضحى بنفسه هو من عاش لعقيدة صحيحة وضحى بنفسه وفق غاية شريفة بوسيلة شريفة, فنال عز الدنيا وشرف الآخرة وهم الذين آمنوا بالله وبرسالاته وبأنبيائه عليهم جميعا الصلاة والسلام وجاهدوا في سبيل الله واستشهدوا وضحوا بأنفسهم ابتغاء رضوانه وباعوا النفس لله وقدموها رخيصة لنيل رضاه.
ويختلف صاحب التضحية بالنفس في سبيل الغاية المنشودة وخاصة في المسلمين الذين يبذلون النفس والنفيس من اجل مرضاة الله سبحانه, ولهذا لهم سمات تميزهم عن المنتحرين في سلوكياتهم الحياتية ورؤيتهم المستقبلية وسماتهم الشخصية, فلا يمكن بأي حال من الأحوال جمعهم مع المنتحرين في بوتقة واحدة, ومن هذه السمات التي تفرقهم عن المنتحرين والتي تتوافر في المجاهدين المسلمين أهل التضحية بالنفس أنهم:
- لديهم إيمان قوي وراسخ بعقيدتهم
يتميز كل منهم بإيمانه القوي والعميق بفكرته التي سيضحي بحياته من اجلها, فلا يعيش إلا بها ولها وتملا حياته وتشغل كل وجدانه, يضحي من اجلها بوقته وبعلمه وبفكره, ولا يرى سواها من أفكار فلا يشغله شاغل عنها, كل أحاديثه أو غالبيتها عن فكرته ومعظم سعيه من اجلها, يعادي من عاداها ويوالي من والاها, لا يعرف له نسبا غيرها فأهلها هم نسبه وأهله وعشيرته, ولا يرى رابطة تربطه بأحد سوى هذه الرابطة, قد يفتقر من اجل فكرته وقد يسجن أو يعذب من اجلها فلا يرجع عنها, ويرى نصرتها الغاية المنشودة له فلا يرى نيل شهوات نفسه أحب إليه من رفعة شأنها, وهكذا هم المؤمنون المجاهدون.
- قوم عمليون وايجابيون
يختلف رجال التضحية عن غيرهم من رجال صوغ الكلمات فحسب فضلا عن اختلافهم الكلي والجزئي عن المنتحرين في أنهم قوم ايجابيون وعمليون, لا يعرفون لليأس معنى في حياتهم, ولا يسمحون له بالتسلل إلى نفوسهم, دوما مشغولون في عمل نافع لأنفسهم أو لغيرهم من الناس أو لمجتمعهم, فتكون لحظة التضحية بالنفس هي قمة لحظات إيجابيتهم, فليسوا بمنسحبين من الحياة ولا مهزومي النفس ويائسي القلب والفكر, بل هم يخططون لمستقبل أفضل في الدنيا ولكنهم عندما يون المستقبل الأفضل في الآخرة قد لاح لهم يستمتعون بلحظة انتقال أرواحهم إلى بارئها.
- كرماء النفس معطاءون أهل جود وكرم
قوم سماتهم الكرم لا يعيشون لأنفسهم بل يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة, يختلفون عن المنتحرين في أن المنتحر لا يعيش إلا لنفسه يهتم بشهواتها ويخاف عليها ويؤدي حرمانه من بعض لذائذه للتخلص من حياته, أما المضحي بنفسه يعطي كل ما يملك من مال ووقت وجهد ونصح فلا يبخل أبدا بشئ وتعتبر اللحظة الأخيرة هي أقصى لحظات جوده, فالجود بالنفس أقصى غاية الجود.
- مقبلون على الحياة
لا يمكن للناظر لأحدهم أن يراه منزويا على نفسه هاربا من الحياة منسحبا منها بل يراه الناس مقبلا عليها نافعا لنفسه ولغيره يملك من الأفكار والطموحات الكثير ولكنه فقط يؤثر ما يبقى على ما يفني, ويظل يعمل للحظة الأخيرة في حياته في إقبال نادر على الحياة متمثلا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أنس رضي الله عنه: "إن قامت الساعة و في يد أحدكم فسيلة, فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها" [3].
- نفس تواقة للمعالي
لا يقبل احدهم بان يكون في ذيل الخلق متأخرا عنهم يحب المعالي من الأمور يتطلع دوما للأفضل, يحب ربه ويحب مرضاته ويعمل وفق ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه سبط النبي الحسين بن علي رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مَعَالِيَ الأُمُورِ وَأَشْرَافَهَا وَيَكْرَهُ سَفْسَافَهَا", يحب رفعة دينه ونصرة فكرته, يقدمها للناس في أبهى صورة, يحب أن ينقل الخير الذي يحمله لغيره ويتمنى أن يراها الناس على حقيقتها الصافية كما يراها هو.
- زاهد في الدنيا مع القدرة على امتلاكها
ورغم نجاحه في الدنيا إلا أن همته تعلو عنها, لا يراها بكل ما فيها تصلح ثمنا لنفسه, لا يبيع آخرته بأي لذيذة من لذائذها, لا يصرفه شاغل عن هدفه, يزهد في نعيمها رغم قدرته على امتلاكها, ولو سخر جهده للدنيا لنال منها أعلى المناصب وأرقى الدرجات, لكنه يوجه سهمه صوب الآخرة, شعاره في الحياة قول موسى عليه السلام "وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى".
- صاحب قرار لا يثنيه خوف ولا طمع
دائما ما ترى صاحب التضحية بنفسه رجلا عزيزا لا يمكن ان يساق إلى قرار رغما عنه, السبيل الوحيد للوصول إليه هو اقناعه بالفكرة ومخاطبة عقله وقلبه ومشاعره, فإذا اقتنع بالفكرة لا يصده عنها شئ ولا يصرفه عنها صارف, وإذا اتخذ قرار مهما كان شديدا أو مؤثرا في حياته أو في حياة من حوله قام بالتنفيذ, لا يؤجل ولا يسوف ولا يعجل ولا يتردد ولا يعرف الضعف في اتخاذ القرارات, وهناك قرار يمكن ان يتخذه الإنسان أقوى من قراره بمفارقة الحياة تحقيقا لهدفه؟ وهل هناك قرار يمكن ان نصفه بالقوة مثل قراره بمفارقة الدنيا كلها وترك كل ما فيها من أهل وأحباب وارض وأصدقاء بل وزوجة وأبناء من اجل نصرة فكرته؟
إن قرار الهجرة من بلد إلى بلد قرار صعب جدا وشديد على أصحابه فكيف بقرار إنهاء الحياة والقيام بعمل لحظي لا يمكن بعده التراجع عنه لأنه لن يملك ذلك.
إن هؤلاء قوم ايجابيون ومخلصون وبهم تقوم الأمم والممالك وترتفع الرايات وبقدر وجود أمثال هؤلاء المضحين في امة يرتفع شانها بين الأمم ولا خير في امة ولا فكرة لا تمتلك أتباعا لها يؤيدونها بكل ما يملكون حتى بقرار إنهاء حياتهم من اجل رفعتها.


شروط وضوابط وموانع :-
بقي هنا أن نقول إنه ليس كل من اجتهد ذاتيا فضحى بنفسه ينطبق عليه حكم المضحي والمعطاء, بل إن الإسلام قد وضع ضوابط وموانع للتضحية بالنفس, فأوجب الإسلام أن تكون التضحية بالنفس معتبرة شرعا, ويجب أن يكون اعتبارها معلوما من أهل العلم الأثبات.
وإذا كانت تلك التضحية بالنفس جهادا فلها شروطها المعتبرة عند أهل العلم ومن أهم شروطها:
- قبول العلماء لها وصفا وحالا.
- أن تكون في مصلحة المسلمين وديار الإسلام.
- ألا تسبب ضررا لأهل القبلة من المسلمين.
- ان تكون ضد المشركين المعتدين.
- أن تثخن في المشركين.
- ألا تترتب عليها مضرة أكبر منها.
- كذلك فيجب أن تكون تلك التضحية جهادا معتبرا للكفار المشركين كمثل ما يحصل عند لقاء جيوش المسلمين للمشركين, ولا يعتبر قبول ذلك أبدا في ديار الإسلام بأي حال, حتى لو كانت التضحية من مظلوم ضد ظالم فهذا لايجوز في دين الله سبحانه, كذلك أن تكون التضحية معتبرة من دعوة الإمام وولي الأمر, ورأى الشافعي وأحمد كراهة التضحية بدون إذن الإمام, وإذا لم يكن نفيرا عاما دعا له الإمام فيلزم إذن الوالدين باتفاق أهل العلم.
ولسنا في حاجة أن نقول أيضا أن ذلك لا ينطبق بحال على ما يظنه بعض المغرر بهم من الشباب الجهال قليلي العلم كثيري الحماسة للتضحية بأنفسهم في أعمال تخريبية في بلادهم المسلمة بقصد إضرار بلادهم أو مؤسساتها أو مجتمعهم المسلم أو أفراد من المسلمين أو المستأمنين من غير المسلمين, فإن ذلك التخريب والترويع المنهي عنه هو عين الفسوق.
=========
[1] رواه البخاري ( 5442 ) ومسلم ( 109 ) .
[2] (رومية 38:8-39)
[3] رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد وذكره الألباني في "السلسلة الصحيحة 1 / 11".