دراسة بلاغية نقدية«يا أبت» وحقيقة حرف التاءد.رفيق حسن الحليميقد يغيب عمن يتدبرون النص القرآني وينظرون في رسم المصحف الشريف، وتحديداً في قوله تعالى على لسان المتكلم: «يا أبت» حقيقة حرف «التاء»، ولماذا ألحقت بالمنادى «أب»، وحذفت منه ياء المتكلم «يا أبي» فأصبحت «يا أبتِ» بكسر التاء، ولماذا جلبت التاء في صيغة النداء هذه؟في القرآن ثماني آيات، نادى فيها الابن أباه وجاء رسمها على هذا النحو:«يا أبتِ»، أربع منها على لسان إبراهيم \:{إذ قال لأبيه يا أبتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} (مريم: 42).{يا أبتِ إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني} (مريم: 43).{يا أبتِ لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيًا} (مريم: 44).{يا أبتِ إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن} (مريم: 45).وواحدة على لسان إسماعيل: {قال يا أبتِ افعل ما تؤمر} (الصافات: 102).واثنتان على لسان يوسف: {إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين} (يوسف: 4)، وقوله: {يا أبتِ هذا تأويل رؤياي من قبل} (يوسف: 100).والثامنة على لسان ابنة شعيب: {قالت إحداهما يا أبتِ استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} (القصص: 26).ففي هذه الآيات لازم حرف التاء المنادى! فما السر في ذلك؟للنحاة والمفسرين أقوال متوافقة حول هذه الصيغة، وهي أن التاء جاءت عوضًا عن ياء المتكلم المحذوفة «يا أبي»، فلا يقال: «يا أبتي» بإثبات الياء، قالوا: لئلا يجمع بين العوض (التاء) والمعوض (الياء) (1)، بمعنى: إما أن تزاد التاء وتحذف الياء، وإما أن تزاد الياء وتحذف التاء، فلا يجمع بين زائدتين، لذلك بقيت التاء - في هذا النداء- وحذفت الياء، إذ لا يجوز إثباتها (2)، وقالوا وحركت التاء بالكسرة للدلالة على الياء المحذوفة، كما تحذف الياء في نداء «يا غلام» بدلا من «يا غلامي»، ومن المعلوم أن أكثر القراء على هذه القراءة «يا أبتِ» باستثناء مقرئ بلاد الشام عبدالله بن عامر اليحصبي (ت 118 هـ)، فقَد قرأ «يا أبتَ» بفتح التاء (3)، وقالوا: «ومن قرأ «يا أبتَ»، قد حذف الألف «يا أبتا»، واستبقى الفتحة «يا أبتَ»، للدلالة على الألف المحذوفة، وأجازوا نداء الأم على شاكلة نداء الأب، فقالوا: «يا أمتَِ» بفتح التاء وكسرها (4)، ولم يجيزوا صيغة هذا النداء في غير الأب والأم، بمعنى أن هذا اللون من النداء محصور في نداء الأب والأم، ولم يرد في القرآن سوى نداء الأب «يا أبتِ» بكسر التاء في قراءة الجمهور، وبفتح التاء في قراءة ابن عامر اليحصبي مقرئ الشام.والسؤال: لماذا جلبت التاء وحذفت ياء المتكلم في هذا النداء، مع أن ياء المتكلم هي الأصل في نداء الواحد لأبيه، إذ نقول «يا أبي» كما نقول «يا أخي - يا جاري- يا عمي...»، لكن النص القرآني عدل عن هذه الصيغة- وهي المستخدمة في النداء- إلى صيغة جديدة، وهي «يا أبتِ» فأتى بالتاء - وهي حرف طارئ- عوضًا عن الياء المحذوفة، فما السر في ذلك، وما الفرق - إن وجد- بين قولنا «يا أبي» و«يا أبت»، وهل هناك ملمح بلاغي ودلالة بيانية ومعنى إضافي تحمله لنا هذه الصيغة في هذا النداء؟إن جوابي: بالإثبات وبنعم، فهناك فرق بين «يا أبت» وبين «يا أبي» فرق في دلالة الخطاب، وفي الحالة الشعورية والنفسية للمتكلم، يكشف عنها سياق الآيات، فإذا تدبرنا هذه الآيات فسوف نجد أن السياق يستدعي موقفًا شعوريًا وإحساسًا عاطفيًا وتحببًا وإشفاقًا من الابن على أبيه، لا تمثله صيغة «يا أبي» التي تستخدم في النداء العادي، ولمختلف الناس ممن نناديهم بمقدار ما تمثله صيغة «يا أبت»، فإبراهيم \ يبدي خوفًا وإشفاقًا على أبيه من أن يمسه عذاب من الرحمن، ومن ولاية الشيطان ومن خطيئة عبادة الأصنام، وقد صرحت إحدى الآيات - على لسانه- بتخوفه على أبيه وحدبه عليه: {يا أبتِ إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليًا}، ويوسف في طفولته ينادي أباه في حبور وبهجة وسرور، ليخبره بما رأى في منامه، فالنداء في هذه الآية يحمل معنى التحبب والتودد، وكذلك نداء إسماعيل لأبيه ينطوي على معنى الطاعة والانصياع لأمر الله سبحانه، كما يحمل معنى الشعور بالصبر، وحث الأب على الاستجابة لنداء السماء، وابنة شعيب في خطابها {يا أبتِ استأجره}تستثير في الشيخ الكبير عاطفة الأبوة، والشفقة والحنان للاستجابة لطلبها، والله أعلم.ولعل ما يقوي ما ذهبنا إليه قراءة ابن عامر وهي: {يا أبتَ} بفتح التاء، إذ الأصل «يا أبتا»، وهذه الصيغة تذكرنا بصيغة أخرى من صيغ النداء تسمى «الندبة» تأتي للتفجع والتوجع، وصيغته «وازيداه» حيث تزاد الألف والهاء على المنادى العام، ولو أراد الواحد منا نداء الأب في سياق الندبة فينبغي أن يقول: «وا أبتاه» فيجلب التاء حتى لا يقول «وا أباه»، لأن صيغة هذا النداء تنصرف إلى الغائب، والمفروض أن تنصرف إلى ضمير المخاطب، ولا يصحّ نداء المخاطب إلا بزيادة حرف التاء، ومن هنا لازمت التاء نداء الأب: «يا أبتَِ»، للتحبب والإشفاق واستثارة العاطفة الأبوية، والله أعلم.ولعلنا لم نبالغ عندما قلنا إن نداء الابن لأبيه قام على صيغة «يا أبت»، وقلنا إنها للتحبب، كما أن نداء الأب لأبنه - في النص القرآني تحديدًا- قام علىصيغة أخرى، للعطف والتحبب والشفقة أيضًا، وذلك بتصغير «ابن»، في النداء، وقد يأتي التصغير للتحبب كما تشير إلى ذلك كتب النحو، فقوله تعالى على لسان نوح \: {يا بُنيّ اركب معنا} (هود: 42)، وقول يعقوب لابنه يوسف: {يا بُنيّ لا تقصص رؤياك على إخوتك} (يوسف: 5)، وقول لقمان لابنه {يا بُنيّ لا تشرك بالله} (لقمان: 13)، وقوله: {يا بُنيّ إنها إن تك مثقال حبة من خردل} (لقمان: 16)، وقول إبراهيم لابنه إسماعيل: {يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك} (الصافات: 102).ففي هاتين الصيغتين من النداء يتجلى الأدب القرآني والخلق الكريم القويم في كيفية خطاب الابن لأبيه وفي خطاب الأب لبنيه، ولعل في ذلك عبرة وعظة ودروسًا في التربية والأخلاق والقيم، لنا جميعا من آباء وأبناء، ولمن ألقى السمع وهو شهيد.
الهوامش
1- النسفي: تفسير النسفي ج2 ص 211، ج3 ص 36.2-ابن عقيل: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ج3 ص 276.3- تفسير النسفي: (الموضعان السابقان).4- شرح ابن عقيل: (الموضع السابق)