الحسبة والاحتساب.. نظام إسلامي في الرقابة والجودة
أ.د. بركات محمد مرادكلمة الحسبة في المؤلفات الإسلامية، وبخاصة ما يتعلق منها بالأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية، تفيد مدلولا خاصا لا يقتصر على مجرد ما يفيده المعنى اللغوي للكلمة من دلالات تتعلق بالأجر والمثوبة، وإنما يتجاوز ذلك ليدل على نظام إداري وقضائي معين، كان يقوم بدور الرقابة الفعلية لضمان حماية المصالح الشرعية التي يتوجب على السلطة ان تقوم بحمايتها ورعايتها. كان علماء الفكر الإسلامي يلخصون دور جهاز الحسبة - الذي كان يعتبر ولاية خاضعة لولاية القضاء العامة أو هي نوع من القضاء، بحكم ما يملكه (المحتسب) من صلاحيات قضائية محدودة- بالقيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكلمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلمة شائعة في الفكر الإسلامي، وهي ذات مدلول ديني خاص، بالرغم من سعة ما تشتمل عليه من دلالات اجتماعية وأخلاقية وتشريعية، وأبرز تلك الدلالات أخلاقية الفكر الإسلامي، وتماسك المجتمع الإسلامي وترابطه، في ظل المسؤولية التي يتحملها كل فرد من أبناء ذلك المجتمع. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعار المجتمع الإسلامي، وكل فرد في هذا المجتمع يمارس دوره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعتبر ذلك مسؤولية دينية يثاب عليها فاعلها، ويأثم من يرى المُنكر ولا ينهى عنه، ولو كان ذلك النهي باللسان أو بمجرد الإنكار القلبي (1).ويمتاز موضوع «الحسبة» بالشمول والسعة والتفصيل الدقيق والمتابعة المستمرة لكل ما يمت بصلة إلى حياة الإنسان منذ ساعة استقراره في المدن والأمصار. وهو باختصار يعمل على مراقبة وتصويب الأقوال والأعمال والسلوك العام للإنسان في المدن والحواضر ونحوها.ولقد اختصت المدن في العهد الإسلامي بتبني هذا النظام حيث الضبط العام والإتقان المتناهي للأعمال والأقوال في المدن، والمطّلع على كتب الحسبة سيعرف الدقة المتناهية التي يشترطها المحتسب في الصناعة، وسيفهم السلوك الإنساني المشروع الذي يرضاه الشرع، وسيكتشف السبق الحضاري للمدن العربية والإسلامية في تلك العصور فيما يختص بالرقابة والجودة.وليس هناك ما يمنع من إقامة هذا النظام الرقابي في مدننا المعاصرة، لأنه متوافق مع حياة الإنسان مع تبدل الحاجات، ولحاجة الإنسان الماسة للضبط العام في المدن التي غالبا ما يشوبها وما يعكرها أحيانا، مما يستدعي وجود المحتسب والحسبة، وما نظام الشرطة والبلدية في زماننا المعاصر، وكذلك الرقابة والجودة في اللحظة الراهنة إلا صورًا من الاحتساب في المدن والحواضر الإسلامية(2).تعريف الحسبة: المتأمل لتعاريف الحسبة والاحتساب عند من نظر فيهما وألف من كبار المصنفين يجد أنها متقاربة بوجه عام بل ومتطابقة أحيانا، فالماوردي في «الأحكام السلطانية» وأبويعلى في «الأحكام السلطانية» أيضا، وكذا ابن الإخوة في «معالم القربة» كلهم يرى أن الحسبة «أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله»، ويتقارب معهم أيضا الشيزري في تعريفه للحسبة، قال في «نهاية الرتبة: «لما كانت الحسبة أمرا بمعروف ونهيا عن منكر وإصلاحا بين الناس...إلخ» (3). وعامة فالحسبة مأخوذة من معنى الأجر والمثوبة، يقال: فعلت هذا الأمر حسبة لوجه الله، أي تطوعا، وأحتسب هذا الأمر عند الله أي جعلت أجري من الله، وتستعمل في مجال القضاء كلمة «الدعوة الحسبية» ويُراد بها الدعوى التي يقيمها صاحبها للدفاع عن مصالح الناس، ولمنفعتهم.أصل الحسبة ومصدرها: من المؤكد أن فكرة الحسبة قد ابتدأت مع بداية التاريخ الإسلامي، حيث كان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو المنهج الأول في بناء المجتمع الإسلامي، ونجد الأصول التوجيهية والتشريعية لهذا المنهج الإسلامي في النصوص القرآنية التالية: قال تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران: 104). وقال تعالى أيضا: {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} (الحج:41). وقال تعالى أيضا: {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} (التوبة: 112).كما نجد أن السنة النبوية قد دعت إلى الاعتماد على هذا المنهج، تأكيدا لروح المسؤولية الجماعية، في الدفاع عن القيم والأخلاق الإسلامية. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان».ويدخل المنكرات ما نهى الله ورسوله عنه، من العقود المحرمة: مثل عقد الربا، وعقد الميسر وبيع الغرر، لأن النبي ص نهى عن بيع الغرر، كبيع السمك في الماء والطير في السماء (4)، وبيع النجش وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها، وكتصرية الدابة اللبون، وبالجملة سائر أنواع التدليس(5).وقد باشر النبي ص الحسبة حين مر بالأسواق، فقد روى مسلم عن أبي هريرة: «أن رسول الله ص مّر علي صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال يا صاحب الطعام ما هذه؟ فقال أصابته السماء يا رسول الله (أي المطر)، قال: أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ ثم قال: من غش فليس منا»(6).وروى ابن المنذر عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي ص: «أنه وقف على طعام في سوق المدينة، فأعجبه حسنه، فأدخل رسول الله ص يده في جوف الطعام، فأخرج شيئا ليس بالظاهر، فأفف رسول الله ص (أي قال أف ضجرا واستثقالا) بصاحب الطعام، ثم نادى: أيها الناس! لا غش بين المسلمين، من غش فليس منا»(7).وروي عن النبي ص أنه قال: «إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول الله ص فإذا أبيتم إلا المجلس، فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(8).ويخبرنا الدكتور عطية مصطفى مشرفة(9) ان النبي لم يقصر الحسبة على نفسه، بل أشرك غيره فيها، فقد استعمل رسول الله ص سعيد بن سعيد بن العاص بن أمية بعد الفتح على سوق مكة، فلما خرج رسول الله ص إلى الطائف خرج معه وبقيت الحسبة بعد وفاة النبي، فقد استعمل عمر بن الخطاب السائب بن يزيد على سوق المدينة مع عبدالله بن عتبة بن مسعود، كما استعمل النساء في هذه الوظيفة أيضا، فولى الخليفة عمر بن الخطاب الشّفاء على سوق المدينة، وكانت لها منزلة كبيرة عنده، حتى إنه كان يقدمها في الرأي، وتولت السيدة سمراء بنت نهيك الأسدية هذا المنصب أيضا، وقد أدركت رسول الله وعمرت طويلا، وكانت في الأسواق تأمر وتنهى عن المنكر، وتضرب الناس على ذلك بسوط معها، فلصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبز أو عسل أو غير ذلك من السلع.أما «نظام الحسبة» من حيث مباشرة السلطة لدور الرقابة لحماية المصالح الجماعية، فإننا نجد الخلفاء الراشدين قد قاموا بهذا الدور، وبخاصة أن الروايات التاريخية تؤكد لنا أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان يقوم بنفسه بالرقابة الفعلية، ويمارس دور المحتسب في الأسواق فيأمر وينهى، ويزجر المخالفين بسوطه.. ولعل ذلك كان يمثل البداية الفعلية لممارسة السلطة لدورها في الرقابة على المصالح العامة، إلا أن طبيعة الحياة في الجزيرة العربية، في ذلك الحين، وبساطة الجهاز الإداري، وعدم بروز معنى السلطة بالمفهوم الشائع اليوم، لم يعط لمعنى الحسبة مفهوما تنظيميا يمارسه جهاز مختص متفرغ.. وكان الأمر لا يعدو ان يكون مجرد قيام الخليفة بنفسه أو من ينوب عنه، بدور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في حدود ما يتوفر لهما الاطلاع عليه من حياة الناس ومعاملاتهم.أهم كتب الحسبة: أما أهم كتب الحسبة التراثية (10) كتب وهي: الأحكام السلطانية، للماوردي (364ـ 450 هـ)، الأحكام السلطانية، لأبي يعلى (ت 458هـ)، نهاية الرتبة، للشيزري (ت 589 هـ)، معالم القربة في طلب الحسبة، لابن الإخوة (648ـ 729 هـ) نهاية الرتبة في طلب الحسبة، لابن بسام (القرن الثامن الهجري)، نصاب الاحتساب للسنامي (القرن الثامن الهجري)، معيد النعم ومبيد النقم، للسبكي (ت 771هـ)، الحسبة في الإسلام، لابن تيمية (661ـ 728هـ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال (ت 311هـ) كتاب الحسبة، لجمال الدين بن الهادي (ت 909هـ). وهناك ايضا كتب أخرى كثيرة.المحتسب ووظائفه: وحينما صارت هذه المهمة الدينية أو الرقابية وظيفة يقوم بها شخص المحتسب، كان يشترط فيمن يتولاها أن يكون حرا، عدلا فقيها، عالما بالأحكام الشرعية، وكانت وظيفة مراقبة المكاييل والموازين، ومراقبة من تسول له نفسه الأمارة بالسوء الغش ببخس أو تطفيف فيهما، وكانت لها دار خاصة بها، فكان المحتسب يطلب جميع الباعة إلى هذه الدار في أوقات معينة ومعهم موازينهم وسنجهم ومكاييلهم، فيعايرها فإن وجد فيها خللا صادرها، وألزم صاحبها بشراء غيرها، أو أمره بإصلاحها.كما كان على المحتسب أن يلازم الأسواق من وقت لآخر، ويتخذ له من العيون من يطلعه على أخبار الناس الأشرار ليوقف كلا عند حده، ويلاحظ ما يقع من غش وتدليس في مبيع أو ثمن وفي الأخذ والعطاء، كما يراقب المماطلين والمتأخرين في دفع الديون، ويسهر على استيفاء الديون لأربابها، ويأمر بأداء الأمانة، والصدق والنصح في الأقوال والأعمال، ويتفقد أحوال الصناع الذين يصنعون الأشربة والأطعمة والملابس والآلات وغيرها، فيمنعهم من صناعة المحرم على الإطلاق، ويمنع صاحب كل صناعة من الغش في صناعته، ويمنع من إفساد نقود الناس وتغييرها (11).ووظيفة المحتسب ولاية خاصة يقوم صاحبها بالاحتساب نيابة عن الحاكم، وكان لصاحبها حق النظر فيما يتعلق بالنظام العام وفي الجنايات أحيانا، مما يستدعي الفصل فيها إلى السرعة، فكان المحتسب ينظر في مراعاة أحكام الشرع، ويحول دون بروز الحوانيت، لأنه يعطل المرور، أو يضايق الجمهور، وكان يهدم المباني القديمة المتداعية، تفاديا مما يحصل من الحوادث بسبب انهيارها على المارة في الطرق.ولصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبز أو عسل أو غير ذلك من السلع. وكان عمر بن الخطاب يطرح اللبن المغشوش في الأرض أدبا لصاحبه، وروي عنه انه أحرق بيت رويشد الثقفي لأنه كان يبيع الخمر، وقال له: «أنت فويسق ولست رويشد». وروي عنه ايضا أنه رؤي مرة يضرب جمّالا ويقول له: «حملت جملك ما لا يطيق»(12).وكان المحتسبة يجبرون رؤساء المراكب على ألا يحملوا من السلع ما يزيد عن حمولة مراكبهم، ويمنعونهم من المسير عند اشتداد الريح، وإذا حمل في السفن الرجال والنساء حجز بينهم بحائل، كما كانوا يلاحظون القرب ووجوب تغطيتها والسقائين ووجوب لبسهم السراويل، بحيث لا يظهر من أعضاء جسمهم ما يتنافى مع الآداب العامة، وكانوا يشرفون على صغار الأولاد بحيث لا يضربهم معلمو الكتاتيب ضربا مبرحا، وكانوا يلاحظون معلمي السباحة، عندما يعلمون الصغار، فكان صاحب الحسبة يراعي الأمانة والأخلاق الفاضلة، وله أن يستعين بالشرطة إذا أراد عند تنفيذ أحكامه(13).وفي بعض الأحيان كانت وظيفة المحتسب تسند إلى القاضي، وكان المحتسب ينتخب من أعيان المسلمين، واعتبر منصبه من المناصب الدينية الهامة. وكان له ان يلاحظ الطرق العامة، ويفتش قدور الطعام، ويشرف على محال الجزارة، ويختم اللحوم، ويأمرالسقائين بتغطية قربهم، ومراعاة عيارها. وكان من واجب المحتسب أن يأمر الناس بإقامة الجمعة، ويؤدب على الإخلال بها، ويأمرهم بصلاة العيد، وصلاة الجماعة في المساجد، وإقامة الأذان فيها للصلوات. ومن فرط من المؤذنين في واجباته ألزمهم بأدائها على أحسن وجه، واستعان فيما يعجز عنه الوالي والقاضي، ويأمر الناس بالصلوات الخمس في ميعادها، لأن من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ويعاقب من لم يصل بالضرب والحبس، ويعمر مساجدهم، ويؤاخذ السادة بحقوق العبيد، وألا يكلفوا من الأعمال ما لا يطيقون.مهام المحتسب في المدينة: عامة يلاحظ أن أعمال المحتسب ومهامه في المدن تشمل إصلاح الشوارع من وضع الميزاب واتخاذ الدكاك على الأبواب، ومنع عمارة الحيطان في شيء من الشوارع، ومنع شغل هواء الشارع بالجناح، وكذلك النظر بين الجيران في التصرفات المضرة كالنظر وسد الضوء والحسبة في الحمامات، وفي منكرات الأسواق، ورفع الضرر عن الأزقة والرحاب وغيرها. وكذلك الحسبة على الأخلاق العامة في الطرق، وعلى الزروع والحرف والصناعات والمساجد، وحفظ المدن والأحياء والساحات، والنفايات، والمزابل، والحسبة على المثاقيل والأوزان والبيوع المحرمة، والحسبة على الخبازين والطباخين وباعة الأطعمة، والحسبة على غير المسلمين، والاحتساب على القضاة والأمراء، والاحتساب على اللعب(14).ويمكن تقسيم أنواع وظائف المحتسب إجمالا في وظائف رئيسية عدة هي:1- حقوق الله: ويقوم المحتسب بالأمر بالمعروف ويدعو إلى أداء الصلاة والعبادات في أوقاتها، وأدائها على الوجه الصحيح، فإن وجد انحرافا في كيفية أداء العبادات فيجوز له أن يأمر بتصحيح الأداء لكي يكون منسجما مع التعاليم الإسلامية، ولا يجوز له أن يتدخل في كيفية الأداء إذا كانت منسجمة مع وجه من وجوه الاجتهاد. ومن مهمة المحتسب أن يمنع الجهلة من التصدي لموعظة الناس، كما يجوز له أن يمنع دعاة الفتنة من إفساد عقائد الناس، وما أجمعوا عليه. كما يجوز له أن يمنع من استخدام المساجد وأماكن العبادة، أن تكون موطنا للهزل والتسلية، أو في غير ما أعدت له.2- مراقبة الآداب العامة: يجب على المحتسب أن يراقب الأماكن العامة التي يرتادها الناس للعلاج كالمستشفيات، أو للطعام كالمطاعم العامة، أو للإقامة كالفنادق، أو للنظافة كالحمامات العامة، أو للمهن التي ترتبط بنظافتها صحة الناس، كالخبازين، واللحامين، والطحانين، وصانعي الحلوى، وغيرهم، ويجوز له ان يصادر السلع التي يراها ضارة بالصحة العامة، كما يجب له، ان يمنع الأدوية التي تهدد حياة الناس أو تضر بهم.3- مراقبة الأسواق: ويجب على المحتسب ان يفتش الأسواق العامة، ويراقب الموازين والمكاييل والمبيعات، وأنواع الغش والاحتكار والتدليس، والمعاملات الربوية، فإن وجد أن ذلك يتنافى مع أحكام الإسلام، في العدل والتوازن والحق، منع ذلك، وزجر عليه، ويجوز له أن يتخذ كل وسيلة لمنع الانحراف. ويجوز له في حالة وجود ما يستدعي توحيد الأسعار ان يفعل ذلك حماية لمصالح الأمة، ومنعا لاستبداد القوي بالضعيف، والبائع بالمشتري، والمنتج بالمستهلك.4- مراقبة الأبنية: ويجب على المحتسب ان يراقب الأبنية العامة ويرى مدى توافر صفات الإتقان في بنائها لئلا تهدد حياة الساكنين فيها، كما يجوز له أن يراعي توافر الشروط الصحية في بنائها من حيث التهوية السليمة، ويجوز له أيضا أن يراقب مدى انسجامها الظاهري مع جمال الترتيب والتنسيق، فلا يبني صاحب بناء في منتصف الطريق، ولا يشوه جمال المباني المجاورة بعبث جاهل أو تخطيط سقيم.5- مراقبة أماكن التعليم: ويجب على المحتسب أن يراقب بدقة أماكن التربية والتعليم، وان يطلع على سير التعليم ومناهجه وأسلوب تلقينه، فيمنع ما هو فاسد منه ويشجع ما هو حسن، وقد اشتدت الحاجة إلى الحسبة ووظائفها في العصر العباسي، خاصة بعد ان ازدهرت الحياة الاجتماعية، واتسعت التجارات، ونمت حركة الأسواق، وتعددت المهن، وازدادت الهوة بين الفقراء والأغنياء، وأصبح الاحتكار وسيلة للربح الفاحش، والغش وسيلة للكسب السريع. وكان لابد من وضع نظام للرقابة يملك من الصلاحيات الزجرية ما يمكنه من منع المنكر، وزجر فاعليه، وحماية الضعفاء من عنت الأغنياء وإنصاف المستهلكين من ظلم التجار واحتكارهم للسلع الضرورية للناس.كما أن المتأمل في أبواب الحسبة التي غطت كل صغيرة وكبيرة في المدن ينتهي إلى نتيجة مفادها ان نظام الحسبة والاحتساب يعد العامل الأول المؤثر في إضفاء الشخصية الإسلامية على المدينة من ناحية التأكيد على وجود وضبط عناصرها الأساسية كالمسجد ومقر ولي الأمر والسوق الذي هو قلبها النابض والتقارب الأسري والسلوك العام وشكل العمران الذي يؤكد على مبدأ الخصوصية في المسكن وحماية الأهل مع اعتبار الحياة الجماعية التي تتكرر يوميا كما في صلاة الجماعة، أو أسبوعيا كما في صلاة الجمعة، أو موسميا كالأعياد، أو بالتعامل اليومي. يضاف إلى ذلك الحسبة على الطرق، والأحياء السكنية، والمساكن، والمصانع والمساجد وغير ذلك، وما يتصل بها من المساحات والرحب والمقابر. إضافة إلى أن نظام الحسبة والاحتساب يقوم بالعمل على تحقيق عدة أمور أهمها ثلاثة:الأول: التأكيد على السلوك الذي شرعه الدين في العبادات والأخلاق والعادات وفي البيع والشراء والأقوال والأفعال.والثاني: الإتقان في الصناعة والحرف والبناء والتنظيم والتخطيط بمعنى المراقبة الدقيقة الصارمة لكل ما يمكن أن يظهر على سطح المدينة أو الحاضرة، وعلى أن يكون بأحسن درجات الإتقان بمراقبة الغش والتدليس في الأعمال.والثالث: ضبط جودة المنتج، أي أن الاحتساب على كل صنعة خاصة في الأسواق، والصنائع والبناءات يقتضي ان يكون الناتج غاية في الإتقان والجودة، ومصداق ذلك مشاهد في كثير من العمارة والصناعة والآثار التي مازالت قائمة حتى يومنا هذا شامخة، بل ولا يزال بعضها يستعمل كما في مصر وبلاد المغرب رغم مرور الزمن الطويل عليها، وكل ذلك مصداقًا لما شرعه النبي ص بقوله: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».إن «نظام الحسبة» هو جهاز للرقابة ابتدعه تاريخنا الإسلامي، للنهوض بمستوى المجتمع الإسلامي، حضاريا وأخلاقيا وإداريا وتربويا وصحيا، وإذا كان مجتمعنا المعاصر قد ابتدع اساليب إدارية وأجهزة مختصة للقيام بهذا الدور، سواء من خلال الأجهزة الرقابية المتعددة في كل وزارة من وزارات الدولة، تراقب وتخطط، وترعى كل مصلحة عامة، فإن نظام الحسبة يظل هو المنطلق الحضاري لأي تقدم معاصر، لا في اختيار نفس الأساليب القديمة في الرقابة، ولكن في تطوير جهاز الرقابة المعاصرة، لكي يؤدي نفس الدور، وبحجم أكبر، وبأسلوب أكثر دقة، من الدور الذي كان يؤديه نظام الحسبة (15).وهنا أدعو وبكل إخلاص وإلحاح، إلى أن يكون جهاز الرقابة في كل مجتمع، جهازا مؤمنا برسالته الاجتماعية، نظيفا في سمعته، مهذبا في أداء رسالته، قويا في الحق، ولا يتشدد مع الضعيف لضعفه، يحتسب أجره عند الله في مواقف جهاد وإخلاص، يقاوم الظلم أيا كان مصدره، ويواجه الباطل في مواقعه ولو كانت محصنة، بتلاحم وإخلاص وصدق مع مصالح الأمة، ويرفع صوت الحق والفضيلة والعدل شعارا له، لكي يكون موطن ثقة الأمة به، سيفا مع الحق، وفي مواجهة الباطل، دائما وأبدا.
باحث في التراث
الهوامش1- د. محمد فاروق النبهان: الحسبة بين الأمس واليوم، ص 48، الفيصل العدد63، الرياض يوليو 1982م.2- د.وليد عبدالله عبدالعزيز المنيس: الحسبة على المدن والعمران، حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت، الحولية 16، ص13، الكويت 1996م.3- انظر الماوردي: الأحكام السلطانية، ص 240، البابي الحلبي، مصر 1973م، وانظر أبويعلى: الأحكام السلطانية، تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة بن نبهان، أندونيسيا ص 284 عام1874م.4- ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية، ص 219، وانظر د. عطية مصطفى مشرفة: القضاء في الإسلام، 179 وما بعدها، ط2، دار الفن، القاهرة 1966م، الترمذي: ص147.5- ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية ص22.6- صحيح مسلم: ج1، ص 69.7- الشيخ محمد بخيت المطيعي: حقيقة الإسلام وأصول الفقه، ص 154.8- صحيح مسلم: ج6 ص 165.9- د. عطية مصطفى مشرفة: القضاء في الإسلام ص 180، 181.10- انظر د. وليد عبدالله عبدالعزيز: الحسبة على المدن والعمران ص 17- 23.11- الطرق الحكمية: ابن قيم الجوزية، ص247، 258.12- المقريزي: الخطط ج1 ص 463 464 ، ومقدمة ابن خلدون، بيروت ص225، عام1900.13- د. وليد عبدالله عبدالعزيز: الحسبة على المدن والعمران، ص 43، 44.14- د. محمد فاروق النبهان: الحسبة بين الأمس واليوم، ونهاية الرتبة، للشيزري ص 108.15- السابق.