لو كان لأحد الفقهاء المعاصرين أصحاب من النصارى !
ليس هذا فقط ، بل كان يلاطفهم ويتعامل معهم تعاملا إنسانيا كريما !
وليس هذا فقط ، بل كان يبدؤهم بالسلام !! نعم يبدؤهم هو بالسلام .
وليس هذا فقط ، بل بلغ من شدة لطفه بهم : أنه ربما ماشاهم في طريق ، فإذا أرادوا مفارقته في طريق آخر ، بدأهم هو بإلقاء السلام عليهم ، مودّعًا لهم !!
وليس هذا فقط ، بل لما ذكروا له كراهية الشرع لذلك ، فاجأهم بقوله : هذا حق الصُّحبة !!!
ماذا سنقول عنه ؟!!
فقد صح ذلك كله (بعجائبه!) عن فقيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن مسعود رضي الله عنه !
فقد صح (بأصح الأسانيد) عن علقمة بن قيس النخعي (أحد أجل فقهاء الكوفة من ورثة علم ابن مسعود رضي الله عنه) أنه كان رديف عبد الله بن مسعود على حمار فصحبهم أناس من الدهاقين [وفي رواية : من أهل الذمة] في الطريق ، فلما بلغوا قنطرة ، أخذوا طريقا آخر . فالتفت عبد الله فلم ير منهم أحدا ، فقال : أين أصحابنا ؟ فقال : قلت : أخذوا الطريق الآخر , فقال عبد الله : عليكم السلام [ وفي رواية : فأتبعهم السلام] ، فقال علقمة : قلت : أليس هذا يكره ؟! فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : هذا حق الصحبة ! [ وفي رواية : فقلت : أتسلم على هؤلاء الكفار ؟! فقال : نعم , صحبوني ، وللصحبة حق .
هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه ، وابن السني في عمل اليوم والليلة ، والجصاص في أحكام القرآن ، والخرائطي في مكارم الأخلاق ، والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم .
وقال الجصاص عقبه : ((ظاهره يدل على أن عبدالله بدأهم بالسلام ؛ لأن الرد لا يُكره عند أحد )) .
وبذلك فهمه جمع من العلماء ، فقد أوردوه في سياق ذكر من أجاز بدء الكافر بالسلام .
ومن لطائف التبويبات :
- تبويب ابن أبي شيبة للأثر ، حيث بوّب له بقوله : ((في السلام على أهل الذمة ومن قال في الصحبة حق )) .
- وأورده الخرائطي في كتابه (مكارم الأخلاق ومعاليها ومحمود طرائقها) ، فهو يرى هذا الفعل الذي يستنكره كثير من المعاصرين من مكارم الأخلاق !
ومع أن الإمام البيهقي تعقب هذا الأثر بقوله : ((ولعله لم يبلغه ما بلغ غيره من السنة , ومتابعة السنة أولى )) ؛ إلا أنه لم يشنع على اجتهاده ، ولا جزم بغلطه على أنه اجتهاد مقطوع ببطلانه . ولو فعل شيئا من ذلك ، لأخطأ ، ولكانت حرمة الحق ، وجلالة ابن مسعود = أولى بالذب عنها وبنصرتها !
ولا شك أن من أخذ بظاهر حديث النهي عن بدء الكافر بالسلام فله حظ من النظر والاجتهاد ، كما أن من أخذ بظاهر قوله تعالى { وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ * فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } , فله حظ قوي من النظر ، فضلا عن كونه تمسك بالمقطوع ثبوته , وهو القرآن الكريم وحبله المتين . وبهذه الآية كان يحتج بعض التابعين على جواز بدء الكافر بالسلام : كمحمد بن كعب القرظي (الإمام الفقيه الثقة المفسِّر ) وعلي بن عبد الله البارقي (وهو من عباد التابعين ، كان يختم القرآن كل ليلة في رمضان) .
فمن احتج بظواهر الحديث ، احتج مخالفه بظاهر القرآن !
فليس في أحد الفريقين من خلا عن حجة من النص , ويبقى الترجيح بين الحجتين ، وفقههما , وهنا يتنافس الفقهاء : أيهم أعمق فقها , وأولى بإصابة الحق المظنون .
وبالمناسبة : فقد أجاز بدء الكافر بالسلام عدد من الصحابة والتابعين غير ابن مسعود رضي الله عنه .
ولذلك لما سئل الإمام الأوزاعي عند بدء الكافر بالسلام , قال : ((إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون )) .

ولهذه المسألة عندي قصة مع أحد المقلدين (تحت وهم اتباع الدليل) , قد أذكرها في وقت لاحق .
لكن وازنوا (بالله عليكم) بين فقه السلف وفقه الخلف الذي يدعي اتباع السلف !!
وازنوا بين أخلاقهم وأخلاق من يزعم اتباعهم !!
وازنوا بين جواب إمام من أئمة السلف عن هذه المسألة الخلافية , وهو الإمام الأوزاعي , وجواب بعض من ينتسبون للسلف ، في تعجرف الخطاب , وقطع الحكم ، وكأنهم يتكلمون بالنيابة عن الله تعالى مباشرة ، وكأنهم قد صدقوا أنهم هم الموقعون عن رب العالمين حقا .. وحصرًا !!

د. حاتم العوني.