ما رأيكم بفقيه يلبس الحرير ، وفي بيته تماثيل ( على هيئة طيور ) ؟!!
وإذا أنكر عليه المنكرون ، قال عن الحرير : لا أحسب النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه إلا لمن كان يتكبر في لبسها ، ولست ألبسها كبرًا ! ويحتج لجواز تماثيله التي في بيته أنها في موضع لا يُتوهم فيه أنها محل تعظيم !
هل هذا مما يسوغ مثله من مثله ؟!
روى شعبة مولى ابن عباس : أن المسور بن مخرمة (رضي الله عنهما) دخل على ابن عباس (رضي الله عنهما) يعوده من وجع ، وعليه برد استبرق ، وبين يديه كانون عليه تماثيل .
فقال : يا أبا عباس ، ما هذا الثوب ؟! قال : وما هو ؟ قال : هذا الإستبرق ؟ قال : ما علمت به ، وما أظن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن هذا حين نهى عنه إلا للتجبر والتكبر ، ولسنا بحمد الله كذلك .
قال ؛ فما هذه التصاوير في الكانون ؟! قال : ألا ترى قد أحرقناها بالنار !!
فلما خرج المسور ، قال : انزعوا هذا الثوب عني ، واقطعوا رؤوس هذه التماثيل .
قالوا : يا أبا عباس لو ذهبت بها إلى السوق ، كان أنفق لها مع الرأس ، قال : لا ، فأمر بقطع رؤوسها .
أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطيالسي وأبو القاسم البغوي في الجعديات والطبراني في الكبير .
وإسناد القصة حسن ، فشعبة مولى ابن عباس الراجح فيه القبول ، خاصة في مثل هذه القصة التي وقعت لمولاه .
وأنبه : أنه ليس المقصود من المنشور ترجيح إباحة الحرير للرجال ، ولست أناقش فيه حكم التماثيل ، ولكني أريد لفت الانتباه إلى طريقة تناول حبر هذه الأمة وترجمان القرآن وفقيهها عبدالله بن العباس للنص الشرعي ، وإلى طريقته في تفهمه !
سيقول قائل : لكن ابن عباس بين في الحرير أنه ما كان يعلم بكونه حريرا ، فلا يدل على أنه كان يرى الإباحة ؟
فأقول :
أولا : في لبس الرجال الحرير خلاف ، وفيه تفصيل ، وفي حكاية الإجماع على تحريمه على الرجال اختلاف ، فلئن حكى ابن عبدالبر وغيره الإجماعَ على التحريم ، فقد حكى الخلافَ ابن جرير الطبري وغيره ، حتى ذكر الطبري من بين الأقوال : أن القول بعموم تحريمه على الرجال قول منسوخ .
وقدمت بذكر الاختلاف ، حتى لا يحتج أحد بحكاية الإجماع ، مع وقوع الاختلاف بين السلف والخلف .
ثانيا : نفي علم ابن عباس بكون بردته حريرا لا يدل على أنه لم يكن يرى إباحته ؛ بدليل أنه استدل للإباحة ، بتأويله النهي بالنهي عن لبس الحرير تكبرا وتجبرا ، وأنه هو لم يكن كذلك .
ثالثا : أما إلقاؤه بردته من الحرير بعد ذلك ، فلا يدل على رجوعه عن الإباحة ؛ إذ لعله فعله ورعا ، وخروجا عن الاختلاف ، أو فعله حفظا على عرضه من تطاول المتطاولين ، ممن يرى التحريم .
ومما يقوي عدم رجوع ابن عباس عن الإباحة أنه لم يقع من المسور بن مخرمة رد على جوابه ، ولا وقع في ذلك المجلس ما يستدعي تغير رأي ابن عباس .
ولو رجع ابن عباس عن الإباحة إلى التحريم ، فنحن لا نستشهد بكلامه على إباحة ولا تحريم ، وإنما نستشهد بكلامه على طريقته في فهم النهي النبوي عن لبس الرجال الحرير ، وكيف أناطه بمقصد استنباطي : (( ، وما أظن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن هذا حين نهى عنه إلا للتجبر والتكبر )) .
رابعا : لم يكن اجتهاد ابن عباس ناشئا عن عدم العلم بالنص ، بل كان عالما به ؛ لكنه يتأوله .
وأما التماثيل : فالقول فيها كالقول في الحرير .
فقد ذكر بعض العلماء ما يدل على وجود خلاف في صور ذوات الأروح وتماثيلها : ومن هؤلاء العلماء الإمام أبو سعيد الاصطخري الشافعي ( ت323هـ) وهو من أجل فقهاء الشافعية الأوائل ، وهو معدود في أصحاب الوجوه في الفقه الشافعي ، فقد قال هذا الإمام : ((إنما كان التحريم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لقرب عهدهم بالأصنام ، ومشاهدتهم بعبادتها ؛ ليستقر في نفوسهم بطلان عبادتها وزوال تعظيمها ، وهذا المعنى قد زال في وقتنا ، لما قد استقر في النفوس من العدول عن تعظيمها ، فزال حكم تحريمها وحظر استعمالها . وقد كان في الجاهلية من يعبد كل ما استحسن من حجر أو شجر ، فلو كان حكم الحظر باقيًا ، لكان استعمال كل ما استُحسن حرامًا )) .
وأدلة وجود الاختلاف في صور ذوات الأرواح منذ جيل الصحابة ثابتة ( نعم .. منذ جيل الصحابة ! ) خلافا لدعاوى الإجماع المحكية أيضا في تصاوير ذوات الأرواح .
وهذا الأثر عن ابن عباس ليس هو الوحيد في هذا الموضوع .
فإن قيل : لكن ابن عباس تراجع ، كان جوابنا كالسابق ، من أن ظاهره عدم التراجع .
وإن قيل : هو لا يجيزها مطلقا ، وإنما يجيزها حيث تُهان ، كما في رسم الصور . بدليل قوله : (( ألا ترى قد أحرقناها بالنار)) ؟ قلت : وهذا يؤكد علة تحريم صناعة التماثيل التي ذكرها الاصطخري ، وأنها (في هذا الموضع) هي خشية أن تُعبد من دون الله ؛ حيث إن حرقها وإهانتها يُبعدها عن توهم التعظيم ، مما جعل ابن عباس يستجيزها .
أعود وأوكد :
المقصود من المنشور توسيع مدارك النظر ، لا غير !
وأعود وأذكر بسؤالي الأول : لو كان هذا الاجتهاد صدر من أحد المعاصرين ، ماذا كان سيقال عنه ؟!!

حاتم العوني.