منامات


وصلتني عبر البريد الشبكي رسالة مطوّلة يذكر فيها جملةً من المنامات، طلبَ صاحبها تعليقاً مني، ولأجل أن تكتمل الصورة، فإني أسوق بعض هذه الرؤى:
- درسني الرسول صلى الله عليه وسلم عند الكعبة، ورأيت مرةً أخرى أني حاربت معه صلى الله عليه وسلم، كُلٌّ منا على صهوة جواده، وكانت المعركه حامية الوطيس، وفي رؤيا أخرى دعا لي صلى الله عليه وسلم لي بالخير.
- رأيتُ أنني أسمع نداء يقول لي: أنت من كبار علماء هذه الأمة.
- ورأيتُ الشيخ ابن عثيمين ـ ومرةً الإمام أحمد بن حنبل ـ وكنت بجانبه وكان فاتحا الكتاب ويدرسني.
وبعد أن ذكر نحواً من عشر منامات أخرى، قال: "فهذه نبذة مختصرة دون ذكر التفاصيل، أرجو أن تكون بمثابة فاتحة خير لخدمة الأمة، مع العلم أنني لم أتلقَّ ولم آخذ العلم، لأسباب قاهرة، والمقصود من رسالتي الاطلاع وإعلامنا رأيكم" انتهت باختصار.
لقد حمدتُ للسائل تواصله مع من يتوسم فيهم نصحاً وتذكيراً بالمنهج الصحيح في التعامل مع هذه المنامات، والذي يمكن تلخيصه في الأمور التالية:
أولاً: أن الرؤى فيها مبشرات ومحذرات، يراها الإنسان أو ترى له، وكم نفع الله بها في الحذر من شرّ، أو إدخال سرور، وما قصة يوسف عليه الصلاة والسلام إلا نموذج قرآني واضح، وأما السنة فهي متواترة في هذا الأمر.
ثانياً: أن السلف الصالح رحمهم الله كانوا يرون وتُرى لهم أمثال هذه المنامات، فيطلقون تلك الكلمة الخالدة: "الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره".
ومن تلك المواقف التي تدل على عمق علمهم بل وخوفهم من الاستغراق في أمثال هذه المنامات، ما ذكره الذهبي في ترجمة سفيان الثوري أنه كان إذا قيل له: إنه رؤي في المنام، يقول: أنا أعرف بنفسي من أصحاب المنامات. يقصد: عندي من التقصير ما يمنعني من الاغترار بأمثال هذه المنامات.
وفي ترجمة الإمام أحمد بن حنبل أن المروذي، قال: أَدْخَلتُ إبراهيم الحصري ـ وكان رجلاً صالحاً ـ على الإمام أحمد، فقال: إن أمي رأت لك مناما، هو كذا وكذا، وذكرت الجنة، فقال: يا أخي، إنَّ سهلَ بنَ سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا، وخرج إلى سفك الدماء، ثم قال: الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره.
فتأمل كيف صرفَ الإمامُ أحمدُ هذا الشيخ الصالح إلى خطورة التعويل على أمثال هذه المنامات، وضرب مثلاً بذلك الذي خرج، وتورط في أعظم الأمور: الولوغ في دماء المسلمين، ثم قرر قاعدةً عظيمة في التعامل مع هذه المنامات، فقال: "الرؤيا تسر المؤمن ولا تغره"، فاحفظها جيداً.
ثالثاً: ألا يَعْرضَ هذه المنامات إلا على ناصح حاذق في التعبير، فإن التعبير نوعٌ من الفتوى، وهي جزء من دين العبد، فلينظر من يسأل عن دينه؟!
رابعاً: من المتفق عليه بين أهل العلم أن المنامات لا مدخل لها في التشريع، فلا يجوز أن يبني إنسانٌ حكماً شرعياً، أو يتعبد لله بعملٍ ما بناء على رؤيا.
وهذا ـ لمن تأمل ـ من عظمة هذه الشريعة، حيث جعلت مصادر التلقي منحصرة في الوحيين، وإلا لادّعى أناسٌ تشريعات يومية، ولتشتت الأمة، إذْ كلٌّ يدعي تشريعاً هو أولى باتباعه.
ومن القصص الطريفة في هذا: أن قاضياً أتاه رجل وأخبره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إن الليلة من رمضان، فقال القاضي: "إن الذي تزعم أنك رأيته في المنام رآه الناس في اليقظة، وقال لهم: (صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته)".
خامساً: من الخطورة بمكان أن يكون لهذه المنامات أثرها السيئ على ظنٍّ في التعبير وقع في نفس الرائي، كما لو رأى في المنام أن فلاناً أصابه بعين، أو أنه يريد به ضرراً، ونحو ذلك من المنامات، فإن للتعبير أصولاً وطرائق لا تجري على ظواهر المنامات في كثير من الأحيان، والأصل: الحكم على ما هو كائن في أرض الواقع لا المنامات.
والإنسان مع استبشاره بأمثال هذه الرؤى التي ظاهرها الخير، فإنه لا يعوّل عليها، بل يوقن أن العمدة ـ بعد رحمة الله ـ على موافقة العمل للسنة ظاهرا وباطنا.
إن الرؤيا حقٌّ، والمناماتُ تحمل كثيراً من الصدق، ولكننا نفقد التوازن الشرعي والعقلي حينما يستغرق تفكيرنا ما يحصل في المنامات أكثر من استغراقه في اليقظة!