ذا دخلت أي مكتبة، فستجد فيها كتبا تحدثك عن التنمية الذاتية، وتطوير الشخصية، وتحديد الأهداف وتحقيقها، ومهارات التواصل، والتفكير الإبداعي، ومهارات القيادة...
وإذا تصفحت الإنترنت، ستجد العديد من الإعلانات، عن دورات تدريبية في المجالات التي أشرنا إليها أعلاه، بل وهناك برامج تلفزيونية وإذاعية عديدة تروج لهذا الأمر... عموما، يبدو الأمر أشبه بموجة اكتسحت العالم العربي.
ويلاحظ أن أغلب المشتغلين في التنمية الذاتية وتطوير الذات، هم عموما من الشباب، والذين يقدمون أنفسهم في أبهى صورة ممكنة: وسامة المظهر وأناقة اللباس، والروح الإيجابية، والابتسامة التي لا تفارق شفاههم... إنهم مثال حي عن النجاح وكمال الشخصية.
فكيف نحلل هذه الظاهرة على المستوى الفكري؟ هل هي فقط مجرد خطوات وتداريب يقوم بها المرء لتطوير قدراته وحفز نفسه على النجاح؟ أم أن للظاهرة جذورا فكرية أعمق مما يبدو عليه الأمر؟
ننبه بداية إلى أننا لن نتعرض إلى الفوائد العديدة التي تمثلها هذه التداريب للمستفيدين منها، وكيف تساعدهم على تخطي العديد من العوائق النفسية، وتجعلهم يرون الحياة بشكل أفضل وإيجابي، بل وتساعدهم حقا على النجاح في حياتهم الخاصة والمهنية... بل سنعمل على التحليل الفكري لهذه الظاهرة في كليتها، وفي ارتباطها بتحولات كبرى يعرفها العالم.
وهنا أتذكر دائما، أنني كنت كلما صادفت إعلانات لدورة تدريبية، أو مدربا يتحدث في برنامج تلفزيوني، إلا وتلح علي فكرتان: أولاهما أنني كنت لا أستسيغ تقديم كل تلك التوجيهات والنصائح الروحية بمقابل مادي، ربما لثقافتي الشرقية برافدها الديني، والتي تجعل من بذل النصيحة إحسانا، بل وواجبا دينيا، حيث لم أستطع دوما النظر للأمر على أنه تدريب احترافي في مهارات وخبرات تلقى فيها المكون تكوينا علميا، شأن كل المجالات الأخرى... وعليه، لا يعدو الأمر أن يكون مجرد تدريب أـو تكوين كسائر التكوينات.
والفكرة الثانية، هي أن أعظم قصص النجاح التي يسردها المدرب، ويحفز الحاضرين على استلهامها، هي قصة المدرب نفسه، والتي لا يسردها على جمهوره: ألا يعد كل ذلك الجمهور الذي يجلس للاستماع إليه مقابل مبلغ مادي محترم أعظم نجاح للمدرب؟ حيث تستثمر كل رغبات النجاح للحاضرين، لتصنع نجاحا فعليا للمحاضر؛ والذي يغتني يوما عن يوم، ويتغذى نجاحه بأحلام الآخرين..
لكن دعنا من هذا كله، ولنناقش الظاهرة في سياق آخر؛ حيث نذكر بداية بهدف البرمجة اللغوية العصبية، والذي يتلخص بكل بساطة في تقليد قصص النجاح الشهيرة، لتحقيق النجاح الشخصي؛ وذلك من خلال برمجة وعينا، ولاوعينا، بمجموعة من المبادئ الإيجابية المحفزة، لننتج سلوكات إيجابية تقودنا نحو النجاح في كل المجالات: الشخصي والعلائقي والمهني...
وتنطلق البرمجة اللغوية العصبية، من استعارة كامنة مفادها أن الإنسان يشبه جهاز الحاسوب، حيث يمكن برمجته بمدخلات معينة، لينتج سلوكات متوقعة، أو لنقل نوعا ما من السلوكات "الإيجابية".
وتعود جذور هذا التصور الذي ينظر إلى الإنسان من خلال التشابهات القائمة بينه وبين الآلة إلى رواد الاتصال الأوائل ومؤسسي الذكاء الاصطناعي، حيث اعتبروا في البداية
أن العمليات العقلية، هي رغم تعقيدها، ذات طبيعة مادية ومستقلة عن الجسد البيولوجي في نفس الوقت.. لذا من الممكن نقلها إلى دعائم أخرى ذات طبيعة صناعية، وقادرة أيضا على إنجاز عمليات تحاكي التفكير البشري، وأقصد هنا أجهزة الحاسوب التي تتجاوز قدراتها كفاءات العقل البشري.
وفيما بعد، عملوا على تسوية الإنسان بالآلة، حيث يقول نوربرت فاينر، وهو من مؤسسي السيبرانية والذكاء الاصطناعي الأوائل: " أؤيد أن اشتغال الفرد الحي واشتغال بعض آلات النقل الحديثة على وجه الدقة متكافئان".[1]
فتحدثوا عن "الكائن الاتصالي" بدل الإنسان، وفي هذا السياق يقول فيليب بريتون "أن الإنسانية الجديدة تخص كل الناس، لكن يمكنها أن تتوسع أيضا إلى كافة الكائنات المرشحة لكيان "الشريك الاتصالي" كامل الحقوق".[2]
والآن، لم يعد الأمر مقتصرا فقط على تقابل الإنسان مع الآلة.. فما داما من طبيعة واحدة هي الكائن الاتصالي، فلا ضير من دمجهما.. وهو التفكير الذي وجه تكنولوجيا المعلوميات حاليا، نحو إلغاء الحدود بين العضوي وغير العضوي.. يشرح نبيل علي ذلك قائلا: "..حطمت تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ثنائية العضوي وغير العضوي (الحيوي وغير الحيوي). وقد شرعت تكنولوجيا المعلومات بالفعل في المؤالفة بين الفيزيائي والبيولوجيا في مجال تخصصها، وذلك بدمجها بين العناصر الفيزيائية والبيولوجية في تكنولوجيا ‘البيوسيليكون’ Biosilicon التي يجري تطويرها حاليا لتطوير وحدة بناء أساسية للكمبيوتر أكثر كفاءة.."[3]
يبدو واضحا هنا، أن الأمر يتعلق بسياق أكبر، إنه نوع من التحول الثقافي الذي بدأ في الغرب، ويتم تعميمه، حيث يتم النظر إلى الإنسان وفق منظور جديد ضمن مجتمعات الاتصال الجديدة، حيث يقول عالم الأنثروبولوجيا إدوارد هول Edward Hall: "الاتصالات تشكل قلب الثقافة وحتى الحياة ذاتها في الحقيقة".[4]
وهذا التحول أعمق مما يبدو عليه، إذ طال حتى المجالات الاقتصادية: ونحن نعلم أن المؤسسات السياسية والثقافية وحتى الاجتماعية، مرتبطة بنظام المِلكية التابع لقوانين السوق؛ ومن ثم فإن التغيير في المفاهيم الأساسية للاقتصاد، سيحدث لاشك تغييرات عميقة في أنماط الحياة الاجتماعية. وأكثر من ذلك؛ يؤكد جيريمي ريفكين "إن عالما مشيدا حول علاقات الوصول، يمكن أن يقدم لنا نوعا مختلفا جدا من الكائن البشري!"[5]
ومن المعلوم أن الاقتصاد يقوم على مجموعة من العناصر المعروفة من قبل: الرأسمال، والملكية، والتصنيع، والعقارات، والثروات الطبيعية... لكن تنامي الاتصال سيدخل تحولات عميقة على الاقتصاد..
ففي العصور السابقة، وخصوصا مع ازدهار الرأسمالية، كانت حركية الاقتصاد تقوم على عملية تبادل الممتلكات والسلع بين البائع والمشتري في الأسواق (بمعناها العام).. أما في عصر الاتصال، فتتراجع الأسواق لتحل محلها الشبكات، ويتراجع الاهتمام بتراكم الممتلكات إلى محاولة الوصول إلى الخدمات.
ويصف جيريمي ريفكين هذا التحول في كتابه عصر الوصول، بقوله: "إن تملك الرأسمال المادي والذي كان في قلب النموذج الصناعي للحياة سيصبح على أي حال أكثر هامشية في العملية الاقتصادية، والأكثر احتمالا أنه سيعتبر من قبل الشركات نفقة ضمن كلفة التشغيل وحسب، بدلا من كونه أحد الموجودات، وهو شيء يمكن اقتراضه بدلا من امتلاكه."[6]
منذ السنين الأخيرة، لم يعد تحقيق التراكم المادي يحظى بنفس الأهمية، سواء في المواد الأولية أو المصانع أو وسائل النقل.. فالشركات الكبرى ستصبح كيانا متخصصا في إدارة الوساطة.. إذ يتم شراء المواد الأولية، واستئجار اليد العاملة الرخيصة في بلدان العالم الثالث، واستئجار وسائل النقل دون اقتنائها..
وهذا عامل قوة حقيقي لهذه المقاولات، يتابع جيريمي ريفكين: " إذ إنه في عالم الإنتاج المصمم حسب احتياجات الزبون، والابتكارات والتحسينات المستمرة، وفي عالم دورة حياة المنتوج التي تتضاءل باستمرار، يصبح كل شيء تقريبا عتيق الطراز حال إنتاجه. والامتلاك أو الحيازة أو المراكمة في اقتصاد، الثابت الوحيد فيه هو التغيير، تصبح أقل وأقل معقولية."[7]
لهذا يصبح تجنب حيازة الممتلكات المادية، عنصر قوة، وعاملا مهما لتقليص هامش المخاطرة التجارية.. فتراكم ممتلكات مادية، قد يعزف السوق عن استهلاكها في وقت ما، يؤدي إلى خسائر فادحة.. بينما يكفي لشركات الخدمات، تغيير وتحسين خدماتها كلما أحست بتغير في ميول المستهلكين...
والعلاقة التقليدية بين السلعة والخدمة، أصبحت منذ الآن معكوسة: ففي السابق كانت الشركات تبيع السلع، مقابل خدمات مجانية (الصيانة مثلا)، أما الآن فالشركة تقدم المنتَج المادي مجانا، ليؤدي الزبون على الخدمات التي تقدمها له الشركة. كمثال على ذلك، أُذكِر بشركات الاتصالات التي قد تمنح هواتف مجانية، مقابل اشتراك الزبون في خدماتها (رصيد بالأداء، ربط بالإنترنيت...).
ومن أبرز سمات اقتصاد عصر الاتصال أيضا، تحول التجارب والموارد الثقافية إلى سلع تجارية يتم تسويقها، ضمن ما يمكن أن نطلق عليه "اقتصاد اللهو".
وهذا يعني "تسويق الموارد الثقافية، بما في ذلك الطقوس أو الشعائر المختلفة، والفنون والاحتفالات والحركات الاجتماعية، والفعاليات الروحية والودية، وارتباطات المواطنين، وكل ذلك بهيئة تسلية شخصية مدفوعة الثمن."[8]
وبذلك، سيسعى الميسورون ماديا إلى دفع مبالغ مالية مهمة لعيش تجارب ثقافية أو روحية، قد تكون خارج بلدهم الأصلي..
لنتذكر هنا كيف تعرض الرقصات الشعبية ذات الحمولة التاريخية الرمزية القوية، أمام جمهور من السياح الذين تجذبهم غرائبية ما يشاهدون، وإن كانوا لا يفهمون ما يقال، ولا يدركون علاقة هذه الرقصات بالفروسية والشهامة وغيرها من القيم الثقافية الأصيلة...
وهذا ما يلاحظه جيريمي ريفكين فـي قوله: "إن شركات الإعلام عبر الحدود، المالكة لشبكات الاتصال التي تحيط بالعالم، تنقب عن الموارد الثقافية المحلية في كل أصقاع العالم، وتعيد تعليبها كسلع ثقافية أو تسلية."[9]
ويورد جيريمي سيبروك في كتابه "ضحايا التنمية"، قصة مايك، وهو عامل بترول بريطاني، عمل طويلا في الكويت والمملكة العربية السعودية، ليتقاعد بعد ثلاث وعشرين سنة من التنقل والعمل الشاق، ليجد أبناءه قد كبروا، وزوجته قد عثرت على رجل آخر، فيقرر "أن يبتاع لنفسه قطعة حنان، بعض الإثارة، وبعض الفتنة.." فيقصد الفلبين، ليشتري تجربة دفء الزوجية.[10]
لهذا فبرامج التدريب في "التنمية البشرية" و"البرمجة اللغوية العصبية"، وإن كانت ذات بعد رسالي وحضاري هادف، هدفها تزويد الناس بالمهارات الكافية لجعلهم يتغلبون على إحباطاتهم الذاتية، ويتحولون إلى أفراد إيجابيين وفاعلين ومبدعين؛ فإنها في نفس الوقت تجارب روحية مدفوعة الثمن!
حيث تتحول الحياة النفسية والروحية، إلى مجال تجاري مربح.. فإذا كانت العلمنة – بلغة عبد الوهاب المسيري رحمه الله- قد اكتسحت كل مجالات الحياة العامة، فإنها تواصل الآن اختراق باقي مجالات الحياة الخاصة: فالحياة الروحية، والتي كانت دائما شأنا خاصا، يتم الآن "برمجتها" والحديث عن استثمرها الأقصى كأي مورد اقتصادي آخر، حيث ينظر إليها ضمن عوامل نجاح أي مشروع... فيعمل المستفيد على تسجيل نفسه في الدورة، وملء الاستمارات المخصصة لهذا الأمر، ودفع التكاليف المادية، ثم يذهب إلى مكان التدريب، ليجد مقعدا وثيرا، ووجبات لذيذة أو مشروبات منعشة، وشخصا أنيقا يعلمه كيف يكون ناجحا، ومتفائلا، بل ومؤمنا بالله ومتوكلا عليه (بالنسبة لمدربي العالم العربي خصوصا). وكأنه "يمارس" السمو الروحي، عوض أن يسمو بروحه بكل بساطة.. ودليل ذلك أن كبار مشاهير الولايات المتحدة مثلا، يلهون في فنادق فخمة، لكنهم أيضا "يمارسون" السمو الروحي مع مدربين متخصصين في التنمية الذاتية والبرمجة اللغوية العصبية..
ونحن لا نريد في هذا المقام الهجوم على مدربي التنمية الذاتية والبرمجة اللغوية وانتقاد مشاريعهم، بقدر ما ندعوهم إلى مشاركتنا في تحليل هذه الظاهرة في عمقها. هل يكفي فقط أن ندرج ضمن مبادئ التنمية الذاتية، مبادئ مستوحاة من الدين الإسلامي، مثل التوكل على الله، والإيمان به تعالى... لنقول أننا أسلمنا التجربة؟ أم أننا قمنا فقط بإضافة الدين إلى باقي التجارب الروحية والثقافية التي يتم تسليعها؟
إذ إن هناك استفزازا حقيقيا لتسليع الثقافة عبر العالم، ضمن ما أصبح يطلق عليه "اقتصاد التجربة".
فبعد أن تحول الإنسان إلى مجرد مستهلك لسوق الإنتاج التي لا ترحم، يتم التفكير الآن في تحويل حياته الروحية الخاصة إلى مجال منتج للقيمة. فنتحدث هنا عن تسليع التجارب الثقافية والروحية، لتصبح كل ثانية من عمر الإنسان سلعة قابلة للمتاجرة بها، الأمر الذي يوضحه جيريمي ريفكين بقوله: "وقد أصبح التعبير الجديد المستخدم في عالم الأعمال هو: القيمة العمرية (Lifetime Value)، أو اختصارا (LTV) للزبون، وهي المقياس النظري لما تبلغه قيمة الكائن الإنساني فيما لو اعتبرت كل لحظة من عمره كسلعة بطريقة أو بأخرى في المحيط التجاري. وفي العصر الجديد، سيقوم الأفراد بشراء وجودهم ذاته كقطع تجارية صغيرة."[11]
فالتحدي الحقيقي الذي يواجه مدربي التنمية البشرية المسلمين، ممن يشهد لهم بصدق النية وإخلاص القصد (وأعرف بعضهم)، ليس تطوير أدائهم المهني وقدراتهم التواصلية فقط، بل أيضا تخليص تجربتهم التكوينية والتي تصبح دعوية في أحيان كثيرة، من كل الشوائب المادية التي أشرنا إليها أعلاه، لتبقى الحياة الروحية، حياة روحية دوما، والدين دينا يتسامى على كل الماديات.
وصدقا، أنا متفائل في أنهم لا شك سيفلحون، خصوصا حينما أتذكر الملاحظة الطريفة للمفكر الفرنسي سيرج لاتوش - وقد استشهدت بها في أكثر من موضع- والتي أبداها في مقدمة كتابه: "تغريب العالم"[12]، حول كون مكبرات الصوت الجبارة، آخر صيحات التقنية في حينها، كانت تدعو الناس في البلاد الإسلامية إلى الصلاة، عوض أن تدعوهم إلى شراء المنظفات كما أريد لها أن تكون!





[1]- Norbert Wiener , Cybernétique et société, Deux-Rives, Paris, 1952 , p : 28 .

[2] - L’utopie de la communication, le mythe du village planétaire. Paris, la Découverte,1997, p :52.

[3] - نبيل علي، العقل العربي ومجتمع المعرفة: مظاهر الأزمة واقتراحات الحلول، الجزء الأول، سلسلة عالم المعرفة، ع 369، نونبر 2009، ص: 122.

[4] - Warren I.Sussman, Culture as History : The Transformation of American Society in the twentieth century , New York, Pantheon Books, 1973; p: 252.

[5] - جيريمي ريفكين، عصر الوصول: الثقافة الجديدة للرأسمالية المفرطة، ترجمة صباح صديق الدملوجي، ط:1، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان، 2009، ص: 32.

[6] - نفسه، ص: 29.

[7] - نفسه، ص: 32.

[8] - نفسه، ص: 30.

[9] - نفسه، ص: 33.

[10] - جيريمي سيبروك، ضحايا التنمية: المقاومة والبدائل، ترجمة فخري لبيب، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، رقم 200، ص: 244.

[11] - جيريمي ريفكين، عصر الوصول، مرجع سابق، ص: 34.

[12] - سيرج لاتوش، تغريب العالم: بحث حول دلالة ومغزى وحدود تنميط العالم، ترجمة: خليل كلفت، مطبعة النجاح الجديدة ط2/ البيضاء 1999.