تاريخ الإعراب للأحاديث النبوية الشريفة

د. فخرالدين قباوة
باحث أكاديمي
كان من فضل الله-عز وجل- على العربية والعرب أن فتح القرآن الكريم أبوابًا للعلوم والمعارف ملأت تاريخنا بالنشاط والإنتاج والعمل الطيب المبارك. ومن ذلك ما نشأ في ميادين الإعراب لآياته المباركات، واستمرت أزاهيره وثماره على توالي القرون، فكان لها مكتبة عامرة بالعطاء، تمثل قمة في حقول العلوم اللغوية، لا مثيل لها في تاريخ الإنسان.

أعاريب القرآن الكريم
وقد شاعت بوادر هذا العلم الشريف في العقود الأولى من سني الهجرة، إذ تعرض كثير من الصحابة والتابعين لإعراب بعض العناصر اللفظية، وتحديد وظائفها ومعانيها وعلاقاتها بما حولها، مع بيان شيء من الأدلة الوافية. فالصحابي الجليل عبدالله بن مسعود "رضي الله عنه" كان له عدّة مقولات محفوظة، منها ما ذكره في التعليق على قول الله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ}(الحدي د:1) من أن «الشهداء» معطوف على «الصديقون»، والكلام متصل· يعني أن ذلك من عطف المفردات، أما حـبر الأمة عبدالله بن عباس "رضي الله عنه" فقد كثرت عنه مقولات الإعراب، حتى ليتعذر على الباحث استيعابها· فهو عندما كان يفسر قول الله- عز وجل:{فَالْحَقُّ وَالْحَقّ أَقُولُ} (ص: 84)، سأله أحد المسلمين: «لـِمَ رُفـِعَ الأوّلُ ونُـصِبَ الثاني»؟ فقال: أي: هو الحق، وأقول الحق·

ولقد كان لأبي الأسود الدؤلي جهود تعليمية في موضوعات مختلفة من النحو، حتى إن عمر بن الخطاب "رضي الله عنه" طلب من والي البصرة أبي موسى الأشعري "رضي الله عنه" أن يقوم أبوالأسود هذا بتعليم الأعاجم والموالي فيها ما يوجه ألسنتهم إلى فصاحة العربية، وهذا يعني أنه مارس تلك الـمهمة زمنًا، ثم تصدر لتعليم العربية وتحليل النصوص القرآنية، لغة ودلالة وإعرابًا، وحقق ذلك فيما عممه من تنقيط الإعراب، كما هو مشهور، حيث ضبط مفردات القرآن الكريم في الإعراب والصرف، بما ييسر لفظها المتقن، ويبين الصيغ والعلاقات والوظائف النحوية·


وهذا «حر بن عبدالرحمن النحوي القارئ سمع أبا الأسود، وعنه طلب إعراب القرآن أربعين سنة» كما يقول السيوطي، ولـو كان ذلك الطلب مقصورًا على مجرد النَقط المعروف لـَما احتاج عالم نحوي قارئ إلى هذا الزمن لضبطه وتعلمه. فلا شك أنه قد كان مع تلك الإشارات دراسة وتحليل وحوار وبيان، لبعض الوظائف والمعاني والعلاقات، مع ذكر الأدلة المناسبة يومذاك·


ولقد شارك أصحاب ابن عباس وأبي الأسود ومن أخذ عنهم أيضًا في توسعة هذا الميدان، فكان لهم إجراءات إعرابية غفيرة للنصوص الكريمة، وهكذا انتشرت أمثال هذه الإجراءات العملية في صفوف العلماء، حتى أصبح للإعراب مجالس خاصة في كثير من المؤسسات. فابن أبي إسحاق الحضرمي النحوي له في المسجد الجامع بالبصرة حلقة طلاب، إلى جانب حلقة محمد بن سيرين الفقيه المشهور الذي يُبغض النحويين ويذمهم· وكأنه حصل بينهما من الأحداث ما حمل ابن سيرين، على القول: لقد بغض إلينا هؤلاء المسجد.


ثم بلغ ابن أبي إسحاق أن ابن سيرين يعيب عليه ما يلقيه من تفسير الشعر ويقول: «ما عـلمه بإرادة الشاعر»؟ فقال يرد عليه: «إن الفتوى في الشعر لاتـحـل حرامًا، ولا تحرم حلالًا· وإنـما نفـتي فيما استتر من معاني الشعر، وأشكل من غريبه وإعرابه، بفتوى سمعناها من غيرنا، أو اجتهدنا فيها آراءنا، فإن زلـلـنا أو عثرنا فليس الزلل في ذلك كالزلل في عبارة الرؤيا، ولا الـعـثرة فيه كالعثرة في الخـروج عـمـا أجـمـعـت عليه الأئمة من سـنة الوضوء، وكرهته الجماعة من الاعتداء في الطـهور».

ولما بلغ ذلك القول ابن سيرين أقصر عما كان عليه من الإفراط في الوضوء، وأصبح إذا جاءه الرجل يسأله عن الرؤيا يقول: «هاتِ حتى أظنَّ لك»، وصار ابن أبي إسحاق بعد أن بلغته عبارة ابن سيـرين يقـول: «أظـنّ الشاعر أراد كذا، واللغة توجب كذا»· ولا شك أن ذكر الإعراب في هذه الحادثة يعني شيئًا مما نعرف اليوم، وإن كان في صور بسيطة مختزلة وعبارات غير موحدة، ويقتضي أيضًا أنه كان حينئذ في بعض المساجد والمجالس جمهور يتلقى تلك المعلومات بفهم وتدبر.

غير أنه لم تصنف كتب في مثل هذا، وأن ما نسب إلى ابن عباس في كتاب «تنوير المقباس» ليس كله له، وهو مزيج من أقوال المتأخرين بقليل من مقولاته. ثم نشأت مصنفات إعراب القرآن في منتصف القرن الثاني، إذ نرى منها ما أصدره: قطرب وأبوعبيدة وأبوحاتم السجستاني وعبدالملك بن حبيب القرطبي وابن قتيبة والمبرد وثعلب ونفطويه وأبوجعفر النحاس وابن خالويه.


ثم يواجهك ابن جني بـ«المحتَسَب في تبيين وجوه شواذّ القراءات»، وعبدالرحمن بن محمد بن زنجلة بـ«حُجّة القراءات»، والحَوفي أيضًا وكتابه في عشر مجلدات، ومكي بن أبي طالب بكتبه مشكل إعراب القرآن، والكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها وحججها، والتبصرة في القراءات السبع، والباقولي بـ«جواهر القرآن»، والعُكبَري بـ«التبيين في إعراب القرآن».. وتعقيبًا على تلك الجهود الكريمة في المصنفات الخاصّة وفي تفاسير القرآن الكريم عامة، يتصدى ابن هشام الأنصاري لمحتوياتها بالنقد والتوجيه والتنسيق، تحت عناوين نحوية منهجية، فيطالعنا منها بسِفره القيّم: «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب».


إعراب النصوص الشعرية
هذا في عوالم القرآن العظيم، ومنذ القرن الهجري الأول كان بعض النحاة يتتبع الشعراء لينظر في أقوالهم، ويتعقب صياغتها وظواهر الإعراب فيها، فلما أنشد الفرزدق بيته:
تُــرِيـكِ نُـجـومَ الـلـَّيلِ، والشـَّمسُ حَـيّـةٌ
زِحــامُ بَـناتِ الحارِثِ بنِ عُـبـادِ
قال أحد تلاميذ أبي الأسود الدؤلي، وهو عنبسة بن معدان: «الزحام مذكـر»، يعني أن الفعل «تُري» مسند إلى مؤنث، والفاعل هنا مذكر، وفي التعبير إخلال بالمطابقة، ولكن الفرزدق زجره بقوله: «اغرب»، فشرع يحـلـل ابن أبي إسحاق المسألة، قائلًا: الزحام له وجهان: «أن يكون مصدرًا مثل الطعان والقِتال، من قولهم: زاحمته زحامًا- فهذا مذكر كما قال عنبسة- أو يكون جمعًا للـزحمة، يراد بها الجماعة الـمـزدحمة، فهذا مؤنّث لأن الزحام هو الـمزاحمـة، كما أن الطعان هو الـمطاعنة، وقول عنبسة أقوى وأعرف في الكلام».

والوجه الثاني، كما ترى، فيه تحليل صرفي يسوغ قبول التعبير، ويجعل المصدر بمعنى اسم الذات مبالغة في الوصف، مع إشارة إلى وجه آخر بتأويل المصدر «الزحام» بمعنى المزاحَـمة، كما روي عن أبي عمرو بن العلاء أنه سمع أعرابيًا يقول: «فـلان لــغـوب، جـاءتـه كتابي فاحتقره»، فسأله: أتقول: جاءته كتابي؟ فقال: «أليس بصحيفة»؟ حمله على المعنى تأويلًا. وأيسر من هذا أن يكون المذكر «الزحام» في بيت الفرزدق قد استفاد الثأنيث بإضافته إلى المؤنث «بنات» من باب التأنيث الحكمي. وهو كثير في الكلام.

وفي موقف آخر، ترى ابن أبي إسحاق يعترض الفرزدق لـِما يبدو من اختلاف بين المتعاطفين، في بيته هذا:
وعَـضّ زَمــانٍ، يـا بنَ مَـروانَ، لـَم يَـدَعْ
مِنَ الـمـالِ إلّا مُـسـحـَتـًا، أو مُـجَـلّفُ
ويقول له منكرًا: «على أي شيء رفعت مجلفًا»؟ فيجيبه الفرزدق: على «ما يسوءك وينوءك». ولهذا نرى ابن أبي إسحاق يتابع المسألة بعد قائلًا «ولـلرفع وجه». يعني أن الرفع يكون بالحمل على المعنى، والتقدير: «أو بقيَ فيه مجلّفٌ»، فحَذفَ الفعل لدلالة ما قبله عليه، إذ قوله «لم يدَع من المال إلّا مسحتًا» دلّ على أنه قد بقي، فأضمر ما يدل هذا عليه.

بل لقد كان الفرزدق يحرّض النحاة ويستفزّهم بنشر أوابد العربية، في التعبير المجازي والإلغاز، ويثير فيهم حمية المتابعة والاستقصاء، ولسان حاله يردد: «نحن علينا أن نقول، وأنتم عليكم أن تتأولوا». ولذا تراه كثيرًا ما يصطنع التعنت والاستفزاز لهم، وهم يلهثون وراءه بالنقد والردّ إلى الأساليب القياسية، وغالبًا ما كانوا يتبارون في السبق إلى اكتشاف وجه العربية في تحليل تلك الأوابد، ويمتحن بعضهم بعضًا فيها. بل ربما كان الفرزدق يفاجئ أحدهم بتوظيف الشاذ من التعبير، ثم ينعى عليه قصوره عن إيجاد الرخصة الملائمة له قائلًا بتعجب وتهكم: «ما بال هذا الذي يجر خصيـيه في المسجد، لا يجعل له بحـيـلته وجهًا»؟ وبهذا ترى أنه يحمـله تبعة التخريج والتأويل.


وقد تولد عن ذلك توجّهُ النحاة إلى النتاج الشعري، يعالجون ظواهره التعبيرية، ليجدوا لمشكلاتها مخرجًا يوضح الوظائف والعلاقات، حتى ظهر بين شراح الأشعار اهتمام بالجانب النحوي، كالذي تراه في شرح المعلقات لابن الأنباري والنحاس والتبريزي، وشرح المفضليات للأنباري والمرزوقي والتبريزي، وشروح الحماسة وديواني أبي تمام والمتنبي، وقد شارك فيها أيضًا ابن جني والمعري والباقولي والعكبري، هذا أبوجعفر النحاس يصرح أنه تتبع ما في المعلقات من النحو باستقصاء، ثم يتناول تلك الجوانب بالتحليل الإعرابي والصرفي مفصلًا.


والمعري كثيرًا ما تثير انتباهه الكلمات والتراكيب في شعر المتنبي، فيذكر وجه الإعراب والصرف فيها، ويورد مذاهب العلماء في ذلك، ثم يقف التبريزي على شروح كتاب «الحماسة» فيرى أن بعض العلماء عني بذكر إعراب مواضع منه، وآخرين ذكروا المعاني دون الإعراب، فيأخذ على نفسه أن يتناول في شرحه تبيين اشتقاق أسماء الشعراء مع المسائل الإعرابية وغيرها من الأخبار والمعاني والنقد والعروض والقوافي. وبذلك يرسم لشراح الأشعار منهجًا تكامليًا يقتدون به في مصنفاتهم.


ثم نرى حفيدًا لأبي البقاء العكبَري، وهو محب الدين عبدالله بن الحسين أيضًا، يقتفي خطوات جده فيتناول «لامية الشنفرى» ومطلعها:

أقيموا، بني أمي، صدور مطيكم
فـإني، إلى قـوم سـواكـم، لأمـيـل
يتناولها بالشرح اللغوي الموجز جدًا، مع تحليل نحوي مختصر، لكثير من المفردات إعرابًا وصرفًا وللجمل ولمعاني الأدوات.
ومن جانب آخر نرى العلماء يختارون ما أشكل من النصوص الشعرية، ليفسروه ويحللوا مسائله وألغازه النحوية في الإعراب والصرف، فكانت مؤلفات وافرة تعرض لذلك بالتفصيل أمثال: الإفصاح في شرح أبيات مشكلة الإعراب للفارقي، وشرح الأبيات المشكلة الإعراب للفارسي، والأحاجي النحوية لكثير من العلماء. وهي تمثل ما هو معروف من: مسائل التمرين.

ولما كانت الشواهد الشعرية في النحو تتضمن ما يتطلب البيان فقد شغل النحاة بها، وراحوا يحللون ما فيها من المسائل الإعرابية والصرفية، هذا «كتاب» سيبويه ترى شروحًا لشواهده قام بها المبرد والزجاج والنحاس وابن السيرافي والأعلم الشنتمري والزمخشري والعكبري، وكتاب «الجمل في النحو» للزجاجي يشرح شواهده قرابة عشرين عالمًا منهم المعري وابن سيده وابن السيد البطليوسي وابن ملكون.

بل إن الشواهد التي أوردها شراح الألفية صارت ميدانًا لتباري النحاة في تناول مسائلها النحوية وتحليل ما فيها من إعراب وصرف خلال الشرح، أو بتعليقات على تلك الشروح، بلغ مجموعها حوالى250 مصنفًا، وقد اختار بدرالدين العيني من ذلك ما جاء في أربعة شروح، هي لابن الناظم والمرادي وابن هشام وابن عقيل، فصنف في بيان معانيها وإعرابها كتابين: المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية، وفرائد العقود في مختصر شرح الشواهد.

وقد نالت اهتمام عبدالقادر البغدادي شواهد كتب: مغني اللبيب لابن هشام وشرحي الكافية والشافية، للرضي الاستراباذي، فألف في ذلك: شرح أبيات مغني اللبيب، وخزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، وشرح شواهد شرح الشافية، وفيها أيضًا بسط لتحليل الكثير من المسائل النحوية في ميادين الإعراب والصرف، وبعض معاني الأدوات. وإذا كان فيما ذكرنا هنا تعرض لكثير من مسائل الشواهد، فإن في أيامنا هذه من أعربها كلها، وهو ما قام به الشيخ الحمصي محمد علي طه الدرة في كتابيه: فتح القريب المجيب إعراب شواهد مغني اللبيب، وفتح رب البرية إعراب شواهد جامع الدروس العربية.


وكان في القرن التاسع قد صنف شهاب الدين أحمد بن الحسين الرملي الشافعي إعرابًا لألفية ابن مالك، وكأن خالد بن عبدالله الأزهري لم يطلع على ذلك الإعراب، ورأى أن شراح الألفية أتعبوا الفكر في فهم معانيها، ولم يُنعموا النظر في إعراب مبانيها إلا مواضع اقتصروا عليها لمسيس حاجتهم إليها، فعزم على إعراب جميع أبياتها مع شرح الغريب وضبط ما أشكل، وسمى ذلك: «تمرين الطلاب في صنعة الإعراب»، وقد استوفى ذلك فعلًا، مع عرض لوجوه مختلفة من الأقوال والمذاهب والاحتمالات، وعلى غرار ذلك ما يمكن أن يرى في صنيع الخطابي المالكي الذي صنف «شرح الألفية» أيضًا.


إعراب الأحاديث المطهرة:
أما الأحاديث الشريفة فقد كانت ميسرًا بيانها بما يفسره النبي " صلى الله عليه وسلم" ، حين يقولها ويسأل الصحابة عما يحتاج إلى تفسير، فتندرج عباراته المطهرة تلك في الرواية على أنها جزء من النص الحبيب، وهذا وارد في التقييد الشخصي الذي رافق السنة الشريفة في حياة النبوة، وهو متعدد الأشكال في صحائف وأوراق وقراطيس وألواح ومجال (جمع مجلة) ورسائل وتعليمات للموفدين والمكلفين بالأعمال، ولدت عشرات منها بالنقل والمعارضة والتصويب. وفي منتصف القرن الأول ظهرت نماذج جديدة من هذا التدوين، كانت على شكل جمع لما تفرق من النصوص المشرفة بأسانيدها، جمع في دفاتر بأمر عبدالعزيز والي مصر يشبه جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر الصديق "رضي الله عنه" .
وقد تلا ذلك جمع وتدوين أوفى وأدق بأمر الخليفة عمر بن عبدالعزيز "رضي الله عنه" ، كما حصل في القرآن الكريم أيضًا على عهد عثمان "رضي الله عنه" ، فكانت دفاتر في نماذج موحدة وزعت على الآفاق ليعمل بما فيها. ومن هذه النماذج الكريمة معارضة بالحفظ الشخصي تألفت مصنفات في القرن الثاني يقال لها: «السنن والمسانيد والمجاميع»، وهي بالعشرات أقدمُها ما جاء عن الربيع بن صبيح، ثم كان جمع الموطأ والصحاح الستة وما بعدها.

ومجمل النصوص في هذه المدونات كان يكتفي بضبط الأسانيد والرواية، وفيها كل ما تحتاج إليه من تفسير. ولذا لم يكن ثمة حاجة إلى معالجة وتوضيح أو إعراب حتى أواخر القرن الثاني، إذ بدأت تظهر كتب «غريب الحديث»، كان أولها للراوية العالم الشاعر أبي عدنان عبدالرحمن بن عبدالأعلى، ثم تلاه ما هو للنضر بن شميل وأبي عبيدة وأبي عمرو الشيباني والأصمعي وقطرب وأبي زيد الأنصاري.

ولقد كانت تلك مرحلة بدائية بسيطة، نمّاها ووسّع آفاقها أبوعُبيد القاسم بن سلّام الهَرَوي بتفصيل من التفسير وقليل من مسائل الإعراب، ثم شاركه في ذلك عبدالملك بن حبيب المالكي ومحمد بن حبيب وابن قُتيبة وإبراهيم بن إسحاق الحربي بمشروعات أكثر تنوعًا للشرح والبيان، فيما أشكل من النصوص الشريفة، ذللت الصعاب وزودت العلماء والدارسين بما يحتاجون إليه. ولذا جاء «الموطأ» مع الكتب الصحاح الستة خاليًا من الشرح والإعراب، إلا ما انتثر من قليل ذلك في «صحيح البخاري»، وبعض مصنفات السنن، إذ كان همّ أصحابها ضبط الأسانيد والنصوص، ثم بيان الأحكام الشرعية كما ظهر بالتفصيل في: الموطأ.

وقد تابع خطوات الشرح كثير من علماء العربية، فكان لهم مصنفات لتفسير المفردات وشيء من نماذج الإعراب والصرف، بما يساعد على فهم المعاني، حتى رأينا مثل «الغريبين» لأحمد بن محمد الهَرَوي، و«الفائق» «للزمخشري»، و«النهاية» لابن الأثير، حيث استقرت مناهج الشرح بتفسير الغريب من المفردات، وشرح العبارات، مع شذرات من التحليل الصرفي ومعاني الأدوات ونادر من الإعراب.

إلا أن الخطوة البكر في التحليل النحوي للأقوال المباركة كانت على يدي الفقيه النحوي أبي البقاء العكبري، حين رغب إليه جماعة من طلبة الحديث أن يملي مختصرًا في إعراب ما يشكل من الألفاظ الواقعة في الأحاديث الشريفة، فكان اعتماده على «جامع المسانيد» لابن الجوزي، إذ تناول من ذلك مادة وافرة للمسائل النحوية جعلها تحت عنوان «إعراب الحديث النبوي». وقد عرض فيه كثيرًا من الإعراب بما تحتمله بعض المفردات من الوجوه والروايات، وقليلًا من الصرف ومعاني الأدوات.

ثم كانت خطوة جريئة لإمام النحو والحديث ابن مالك، تجاوزت ما رسمه النحاة من أصول وفروع للصياغات العربية، فجمع من «صحيح البخاري» ما يخرج على تلك القواعد، وأعرب مشكلاته مؤيدًا صحتها بما في التاريخ اللغوي من قراءات وأقوال للعرب في الشعر والنثر، وجعل ذلك تحت عنوان: شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح.


وهنا ترى قدرة ابن مالك على التوفيق بين النصوص النبوية المشرّفة وأساليب العرب في التعبير، وإن خالفت القيود النحوية المقررة. ومن ذلك: حذف الفاء في جواب «أما»، وحذف المعطوف، واستعمال «أحد» العام المعنى في الإيجاب، وحتى: بمعنى: حين، واستعمال «قط» في الإثبات، ودخول لام الابتداء على خبر: كان، وجعل «متى» مثل: حين، وحذف نون الرفع بلا مقتض، وحذف المضاف والمجرور العائد على الموصول في غير الشروط المعروفة، ووقوع «هل» موقع الهمزة، و «ها» موقع حرف القسم، وحذف الفعل بعد «لا» الناهية، والعطف على ضمير الجر بلا إعادة الجار، وورود الفعل الماضي بمعنى الأمر، وحذف همزة «أخوة»، وإبدال الهمزة الثانية من «ائتزر» تاء، واستعمال مفعولة بمعنى: مفعلة.

الفرزدق كان يحرض النحاة بنشر أوابد الشعر للمتابعة والاستقصاء