وقال التاج السبكي رحمه الله تعالى في كتابه معيد النعم: (من الناس فرقة ادعت الحديث فكان قصارى أمرها النظر في مشارق الأنوار للصاغاني [كتاب في الجمع بين الصحيحين]. فإن ترفعت ارتقت إلى مصابيح البغوي، وظنت أنها بهذا القدر تصل إلى درجة المحدثين، وما ذلك إلا بجهلها بالحديث، فلو حفظ من ذكرناه هذين الكتابين عن ظهر قلب وضم إليهما من المتون مثليهما لم يكن محدثا، ولا يصير بذلك محدثا حتى يلج الجمل في سم الخياط، فإن رامت بلوغ الغاية في الحديث على زعمها اشتغلت بجامع الأصول لابن الأثير، فإن ضمت إليه " علوم الحديث " لابن الصلاح أو مختصره المسمى " بالتقريب والتيسير للنووي " ونحو ذلك، وحينئذ ينادى من انتهى إلى هذا المقام: بمحدث المحدثين وبخاري العصر، وما ناسب هذه الألفاظ الكاذبة، فإن من ذكرناه لا يعد محدثا بهذا القدر.وإنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل، وأسماء الرجال والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع الكتب الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، ومعجم الطبراني، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية. هذا أقل درجاته، فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد كان في أول درجات المحدثين، ثم يزيد الله من يشاء ما يشاء.
وقال في موضع آخر منه: ومن أهل العلم طائفة طلبت الحديث وجعلت دأبها السماع على المشايخ ومعرفة العالي من المسموع والنازل. وهؤلاء هم المحدثون على الحقيقة، إلا أن كثيرا منهم يجهد نفسه في تهجي الأسماء والمتون وكثرة السماع من غير فهم لما يقرؤه، ولا تتعلق فكرته بأكثر من أني حصلت جزء ابن عرفة عن سبعين شيخا، وجزء الأنصاري عن كذا كذا شيخا [وجزء ابن الفيل] وجزء البطاقة، ونسخة أبي مسهر، وأنحاء ذلك، وإنما كان السلف يستمعون فيقرءون فيرحلون فيفسرون، ويحفظون فيعملون، ورأيت من كلام شيخنا الذهبي في وصية لبعض المحدثين في هذه الطائفة: ما حظ واحد من هؤلاء إلا أن يسمع ليروي فقط، فليعاقبن بنقيض قصده وليشهرنه الله بعد ستره مرات، وليبقين مضغة في الألسن، وعبرة بين المحدثين ثم ليطبعن الله على قلبه.ثم قال [أي الذهبيّ]: فهل يكون طالب من طلاب السنة يتهاون بالصلوات أو يتعانى تلك العادات؟ وأنحس منه محدث يكذب في حديثه ويختلق الفشار، فإن ترقت همته المفتنة إلى الكذب في النقل والتزوير في الطباق فقد استراح، وإن تعانى سرقة الأجزاء وكشط الأوقاف فهذا لص بسمت محدث، فإن كمل نفسه بتلوط أو قيادة، فقد تمت له الإفادة، وإن استعمل في العلوم فقد ازداد مهانة وخبطا، إلى أن قال: فهل في مثل هذا الضرب خير؟ لا أكثر الله منهم. اهـ.
ولبعضهم:إن الذي يروي ولكنه ... يجهل ما يروي وما يكتبكصخرة تنبع أمواهها ... تسقي الأراضي وهي لا تشرب
وقال بعض الظرفاء في الواحد من هذه الطائفة:إن قليل المعرفة والمخبرة ... يمشي ومعه أوراق ومحبرةمعه أجزاء يدور بها على شيخ وعجوز ... لا يعرف ما يجوز مما لا يجوز ومحدث قد صار غاية علمه ... أجزاء يرويها عن الدمياطيوفلانة تروي حديثا عاليا ... وفلان يروي ذاك عن أسباطوالفرق بين غريبهم وعزيزهم ... وأفصح عن الخياط والحناطوابن فلان ما اسمه ومن الذي ... بين الأنام ملقب بسناطوعلوم دين الله نادت جهرة ... هذا زمان فيه طيُّ بساطي.
فائدة مهمة:
وقال الشيخ تقي الدين السبكي: إنه سأل الحافظ جمال الدين المزي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز أن يطلق عليه الحافظ؟ قال: يرجع إلى أهل العرف، فقلت: وأين أهل العرف؟ قليل جدا، قال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الذين لا يعرفهم، ليكون الحكم للغالب، فقلت له هذا عزيز في هذا الزمان، أدركت أنت أحدا كذلك؟ فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي، ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، ولكن أين الثرى من الثرى، فقلت: كان يصل إلى هذا الحد؟ قال: ما هو إلا كان يشارك مشاركة جيدة في هذا، أعني في الأسانيد، وكان في المتون أكثر لأجل الفقه والأصول.

وسأل شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر شيخه أبا الفضل العراقي فقال: ما يقول سيدي في الحد الذي إذا بلغه الطالب في هذا الزمان استحق أن يسمى حافظا؟ وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها المزي وأبو الفتح في ذلك لنقص زمانه أم لا؟فأجاب: الاجتهاد في ذلك يختلف باختلاف غلبة الظن في وقت ببلوغ بعضهم للحفظ وغلبته في وقت آخر، وباختلاف من يكون كثير المخالطة للذي يصفه بذلك. وكلام المزي فيه ضيق، بحيث لم يسم ممن رآه بهذا الوصف إلا الدمياطي، وأما كلام أبي الفتح فهو أسهل، بأن ينشط بعد معرفة شيوخه إلى شيوخ شيوخه، وما فوق، ولا شك أن جماعة من الحفاظ المتقدمين كان شيوخهم التابعين أو أتباع التابعين، وشيوخ شيوخهم الصحابة أو التابعين، فكان الأمر في هذا الزمان أسهل باعتبار تأخر الزمان، فإن اكتفى بكون الحافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه، أو طبقة أخرى، فهو سهل لمن جعل فنه ذلك دون غيره من حفظ المتون والأسانيد، ومعرفة أنواع علوم الحديث كلها، ومعرفة الصحيح من السقيم، والمعمول به من غيره، واختلاف العلماء واستنباط الأحكام فهو أمر ممكن بخلاف ما ذكر من جميع ما ذكر، فإنه يحتاج إلى فراغ وطول عمر، وانتفاء الموانع. وقد روي عن الزهري أنه قال: لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة.
فإن صح كان المراد رتبة الكمال في الحفظ والإتقان، وإن وجد في زمانه من يوصف بالحفظ. وكم من حافظ غيره أحفظ منه. انتهى.

كل هذا من مقدمة الكتاب الجميل (تدريب الراوي) للحافظ السيوطيّ رحمه الله فكم في هذا الكتاب من علم ! نفعنا الله به .