اللغة والإنسان

«إن الشجرة التي تنبت في الكهف لا تعطي ثمارًا»(1). وكذلك هي اللغة العربية مثل هذه الشجرة.. اللغة العربية لغة الإنسان العربي الذي انتهت حضارته المتألقة ومجده الأول منذ سقوط بغداد سنة 1258، ثم غرناطة سنة 1492، ومنذ ذلك الحين والإنسان العربي يعيش عصور الانحطاط، ومشاركته في الحضارة الإنسانية تكاد تكون صفرًا في جميع ميادين الإبداع العلمي والفكري والفني والسياسي، ولا يزال يراوح مكانه بين أسئلة الماضي والمستقبل، والأصالة والمعاصرة، والانفتاح والانغلاق، وعلوم النقل وعلوم العقل!



واللغة العربية لا تستطيع أن تتطور بنفسها وتعطي ثمارًا، وإن كان لها القدرة العجيبة في المحافظة على نفسها والاستمرارية، لأن اللغة تتطور بإبداع عقول أبنائها ونشاطهم الفكري والعقلي الذي يجب ألا يتوقف أبدًا.

«ومما لا ريب فيه أن اللغة العربية الفصحى ما كانت لتصل إلى الرقي الذي وصلت إليه في عصورها الذهبية، لو لم تكن الأمة العربية يومذاك ناهضة تتمتع بمركز مرموق في العالم، وتنجب أجيالًا بعد أجيال من الأدباء والفنانين والعلماء، يجولون في كل ميدان من ميادين الفكر والحضارة، باذلين كل جهد، عاملين ما في وسعهم لتزويد الإنسانية بمنتجات أدمغتهم الجبارة وقرائحهم الخيرة.

واللغة والإنسان توأمان لا ينفصلان، وحين يقوى أحدهما لابد أن يشتد ساعد الآخر، والعكس صحيح، ولا عبرة بما يقال من أننا نقبل على منتجات الأمم الراقية بلغات تلك الأمم، وأنه لا حاجة بنا إلى العمل على القراءة والكتابة بلغتنا العربية في مختلف حقول الفكر وشتى ميادين العلم، فمما لا جدال فيه أن الإنسان يتمكن من الفهم والتعبير بلغته الأم أضعاف ما يقدر عليه في لغة غريبة غير لغته»(2).

الانفتاح على اللغات العالمية والحضارات الأخرى واجب أخلاقي وقومي ووطني، لكن بشرط ألا تقتلعنا رياح الحضارات الأخرى من جذورنا «واللغة هي أهم هذه الجذور التي تمتد في أعماق تاريخ أمتنا، وهي الشجرة التي تحمل أغلى ثمار فكرها، والزهرة التي يفوح عبيرها شعرًا ونثرًا فوق كل شبر من أرض الوطن العربي»(3).

«فبالرغم من أن الصينيين واليابانيين يجيدون اللغة الأميركية (الإنجليزية) إجادة تامة، فإن إجادة لغة الأميركيين لم تجعل الصينيين واليابانيين يعتنقون الثقافة الأميركية.. لقد تعلموا لغة الأميركيين ليتعرفوا على العلوم والتكنولوجيا الأميركية، وبعد أن فهموا هذه العلوم جيدًا طوروها، وأضافوا إليها، وقاموا باختراعاتهم واكتشافاتهم التي فاقت التكنولوجيا الأميركية، ولكن الأمر اللافت للنظر الذي يجب أن نقف أمامه طويلا للاسترشاد به هو أن الصينيين واليابانيين لم ينبهروا بالثقافة الأميركية، ولم يتخذوها نهجا لحياتهم، ولم يتركوها تؤثر في حياتهم الاجتماعية، ولا في عاداتهم وتقاليدهم، بل جعلوا بينهم وبين الثقافة الأميركية سدا منيعًا ليحافظوا على خصوصيتهم الثقافية»(4).


بل إن الأوروبيين في العصور الوسطى كانوا أشد انبهارًا بالثقافة الإسلامية واللغة العربية، وكانوا معجبين أشد الإعجاب بالعادات العربية، لكنهم لم يتخذوا من الثقافة الإسلامية نهجا لحياتهم، وإنما اقتبسوا منها ما كانوا يرون أنهم في أمسّ الحاجة إليه للنهوض والتقدم، وزادوا على تلك الاقتباسات، وبذلك دخلوا عصر الأنوار ثم عصر الثورة الصناعية لكن بلغاتهم الوطنية!


وإن نحن قارنا مثلًا الإنسان الياباني بالعربي «فإنهما دخلا المدرسة الغربية في الوقت نفسه تقريبا حوالي سنة 1860، ولكن الحقيقة التاريخية التي لا جدال فيها أن النتيجة اختلفت تمامًا، إذ نجد بعد مرور قرن معجزة اليابان في ميدان الفن والصناعة والاقتصاد، ومن طرف آخر في المجتمع الإسلامي، نجد دون ريب مجهودًا لا ينكر فيما نسميه «النهضة»، ولكنه مجهود تشله الأفكار الميتة»(5)، ونجد النتيجة نفسها إذا نحن قارناه بالإنسان الصيني الذي شرع في صنع معجزته بعد انتهاج سياسة الانفتاح والإصلاح سنة 1978.


والإنسان العربي صاحب حضارة عريقة تمتد جذورها إلى شباب الماضي، وهذه الحضارة رغم المحن والاستعمار والتكالب الدولي والانحطاط الداخلي مازالت تقاوم، وإسهام الإنسان العربي في الترقي العالمي حقيقة ثابتة يشهد بها المؤرخون والمفكرون الكبار، وبلاده من أغنى البلاد بالثروة البشرية والطبيعية والروحية، لكن كما يقول مالك بن نبي «لا يقاس غنى المجتمع العربي بكمية ما يملك من «أشياء» بل بمقدار ما فيه من أفكار»(6).

«العقل المجرد متوافر في بلادنا، غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه يكاد يكون معدوما»(7).

الإنسان العربي له قابلية للنهوض والإقلاع الحضاري، لكن تنقصه الشجاعة والثقة في الذات، حتى الإنسان العربي في العصر الجاهلي كان يخاف بطش الفرس، ويرهب قوة الروم، وكانت تدهشه الحضارة التي وصل اليها الساسانيون في الشرق، والروم في الغرب، مقارنة بحياته الرتيبة في الصحراء المجدبة، لكنه ما تخلى يومًا عن لغته الحميمة، وما رماها بالعقم أو الجمود، وإنما كان يعتز بها أيما اعتزاز، ويبدع بها أشعاره، ويخلد بها أيامه، ويتواصل بها مع عشيرته وقومه.


«فنحن لا نستطيع أن نصنع التاريخ بتقليد خطأ الآخرين في سائر الدروب التي طرقوها، بل يجب أن نفتح دروبا جديدة، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بأفكار أصيلة تستجيب سائر المشكلات على الصعيد الأخلاقي، أو على صعيد الأفكار الفعالة لتجابه مشكلات التطور في مجتمع يعيد بناء نفسه»(8).


الهوامش

(1) جبران خليل جبران، الأجنحة المتكسرة، دار المعرفة، الجزائر، ط 2003، ص 87.
(2) عفيف دمشقية، لغتنا، دار الفتى العربي، بيروت ط 1985، ص 69.
(3) المرجع نفسه، ص 70.
(4) فوزية العشماوي، الحوار بين الحضارات والخصوصيات الثقافية، مجلة العربي، مايو 2003، الكويت، ص21.
(5) مالك بن نبي، في مهب المعركة، دار الفكر، دمشق، ط 1986، ص 134.
(6) مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، دار الفكر، دمشق، ط 2006، ص37.
(7) مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، دار الفكر، دمشق، ط 2005، ص 86.
(8) مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، دار الفكر، دمشق، ط 2005، ص 162.