يتهم بعضُ الجهلة أئمةَ السنة من المحدثين بأنهم جمدوا في فهم القرآن على النقل ، وأنهم قد قصّروا في فهمه بمقتضى دلالة لفظه ، وسلطوا المنقول من كلام الصحابة والتابعين على الدلالة اللغوية الصرفة للقرآن الكريم .
ومع أن هذا اتهام باطل لا أساس له من الصحة ، وفيه تناقض يتضح للمدقق ، لكن مما يغفل عنه هؤلاء المفترون ، مما ينقض فريتهم هذه من أساسها ، ويبين أن هذا الاتهام محضُ كذبٍ على المحدثين :
موقف المحدثين واللغويين من كتاب ( مجاز القرآن ) للإمام اللغوي أبي عبيدة معمر بن المثنى ( ت210هـ) والذي هو أقدم تفسير لغوي يصل إلينا ، ومؤلفه أحد أساطين اللغة ، من أقران الأصمعي وأبي زيد الأنصاري .
فقد عاب اللغويون على أبي عبيدة تأليفه هذا الكتاب (مجاز القرآن) أشد العيب ؛ لأنه اعتمد في فهم القرآن على اللغة وحدها !!
حتى إن الإمام اللغوي أبا عمر الجرمي ( ت225هـ) خرج مرة ومعه كتاب ( مجاز القرآن ) لينكر على أبي عبيدة تأليفه من غير رجوع لكلام أهل العلم من الصحابة والتابعين في تفسير القرآن ، فلما لقيه قال له : عمن أخذت هذا يا أبا عبيدة ؟!! فإن هذا يخالف تفسير الفقهاء !! فقال له أبو عبيدة : هذا تفسير الأعراب البوالين على أعقابهم ، فإن شئت فخذه ، وإن شئت فذره .
فبين أبوعبيدة للجرمي أنه اعتمد في تفسيره على لغة العرب وحدها ، دون رجوع لتفاسير أهل العلم الذين سبقوه من الصحابة والتابعين .
ولذلك كان الأصمعي يعيبه عليه أيضا ، ويقول عن أبي عبيدة : يفسر القرآن برأيه !!
وكان الفراء يقول : لو حمل أبو عبيدة إلي كتاب ( مجاز القرآن) لضربته عليه عشرين .
وكان الإمام اللغوي أبو حاتم السجستاني (ت255هـ) ينكر كتاب (مجاز القرآن ) أشد الإنكار ، حتى إنه ليرى حرمة روايته ، ويقول : إنه فسر القرآن على غير ما ينبغي .
ومع هذا الموقف الرافض لتفسير القرآن باللغة ، والصادر من بعض أكابر أئمة اللغة ، فقد كان موقف المحدثين من كتاب ( مجاز القرآن) مختلفا جدا ، وعكس ما يُنسب إليهم تماما !!
فهذا إمام المحدثين الإمام البخاري ، وفي صحيحه (الذي هو قمة صنعة المحدثين النقدية) ، يعتمد كتابَ ( مجاز القرآن) في صحيحه ، في كتاب ( التفسير ) من الصحيح ، وفي غيره ، وأكثر النقل عنه ، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح : (( وقد أكثر البخاري نقل كلامه ، فتارة يصرح بعزوه ، وتارة يبهمه )) .
فهاهم شيخ المحدثين يقبل التفسير اللغوي ، ويعتمده في صحيحه ، وأئمة اللغة يُغلطونه عليه ويؤثمونه !
وهكذا يتضح أن المحدثين كانوا أكثر انفكاكا من أسر النقل عن العلماء ، وأكثر حرصا على التفسير اللغوي للقرآن من بعض أكابر اللغويين !!!
حاتم العوني.