رِحلةُ العُمُر


في صيف عام 1427هـ/ 2006م، كنتُ في زيارةٍ لأرضِ الكنانة أعزها الله بالإسلام والسنة، فلفت نظري - وأنا أزور إحدى (العِزَبِ([1])) - العباراتُ الكثيرة المكتوبةُ على الجدران، التي ترحِّب بالحاج فلان، والحاج فلان، وكلماتُ الدعاء المألوفة: حج مبرور، وسعي مشكور.. الخ تلك العبارات التي أراها لأول مرّة في حياتي، مع كثرة مَن لقيت من الحجاج مِن أهل بلدي، ثم أدركتُ من هذا المشهد ماذا تعني رحلةُ الحج لأغلب مَن يقطنون خارج بلادي! إنها رحلةُ العمر.
فلما زرتُ أندونيسيا هذا العام 1434هـ 2013م عادت بي الذاكرةُ إلى ذلك المشهدِ الذي رأيتُه في أرض الكنانة، لكنها تمثَّلتْ صورةً أخرى، حينما وجدتُ مِن كلماتِ المسلمين وفلتات ألسنتِهم، ما يشعرك بالشوقِ العظيمِ لأداء فريضةِ الحج، وماذا يعني أن ترفع يديك لتدعو لمسلم هناك - وهو يَسمَعك - أو يوصيك بالدعاء بأن ييسر الله له الحج إلى بيته الحرام.
إن رحلةً بهذه المنزلة، لخليق بالمؤمن أن يُوْلِيَها أهميةً مِن جهاتٍ عديدة:
أولها: الحرص على جمْع ما يمكن جمعُه من المال - ولو على مَدارِ سنوات - ليتَمكَّن المسلمُ مِن أداءِ رحلةِ العُمُر؛ فريضة الحج.
قرأتُ قبلَ سنواتٍ خبرَ حاجٍ هنديٍّ، وصلَ للحج بعد رحلةِ جمعٍ للمال استمرتْ قرابةَ ثلاثين عاماً! وبعضُ الناسِ هنا يماطلُ في الحج، ويتعذَّر بغلاءِ أسعارِ الحملات، وهو يُنفقُ أضعافَ قيمتِها في أمورٍ كَماليَّة.
إن الإنسانَ لا يدري متى يَفجؤُه الأجلُ، ولئِن طالَ عمرُه فإنه لا يَدري ما العَوارض التي تَعرِضُ له، فتحُوْل بينه وبين الحج؛ مِن مرضٍ، أو عجزٍ، أو غيرِ ذلك.
وإن مِن تعظيمِ شعائرِ الله: المبادرةُ لأداءِ الفريضةِ ما دامَ الإنسانُ قادراً بماله وبدَنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ! قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»([2]).
ثانياً: على مَن وفَّقهُ اللهُ لهذه الرحلةِ أن يَحرص على التفقُّه في أحكامها؛ ليؤدِّيها على بصيرة، فإن التَّفقُّه فيها يُحقِّقُ غاياتٍ وفوائدَ كثيرة، منها:
1) تحقيق قوله ج: "خذوا عني مناسككم"([3]) مع قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة﴾[الأحزاب: 21]، مع ما في اقتفاء السنة مِن عِظَم الأجر وزيادة الخير.
2) السلامةُ من تَبِعاتِ الجهلِ بالحكم الشرعي الذي يقترن به غالباً إرهاقٌ للنفس، وإتعابٌ للبدن في شيءٍ تظنُّه من الشرع وليس كذلك، فضلاً عن بعض التبعات المتمثلة في الدم، أو الإعادة، ونحوها.
تأمل في قصةَ عروة بن مضرس الطائي - رضي الله عنه - حين قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بالموقف - يعني بجمع([4])- قلت: جئتُ يا رسول الله من جبل طيئ([5]) أَكلَلْتُ مطيتي، وأتعبتُ نفسي، والله ما تركتُ مِن حَبْلٍ([6]) إلا وقفتُ عليه! فهل لي مِن حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا؛ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ»([7]).
فهذا الصحابي الكريم، لحِق بالنبي صلى الله عليه وسلم متأخراً، ولم يدركه في أول المناسك، فاجتهد فيما ذَكَر، مع أن ما فعله ليس مطلوباً من الحاج، لكن لِخَفاء الحكم عليه فعَلَ ما فعل؛ ظناً منه أنه هو المطلوب، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجواب الذي يُبيِّن الحكمَ له ولغيره.
ولقد تيسر الوصولُ إلى معرفةِ صفةِ المناسك في عصرنا ما لم يتيسر من قبل، وذلك بقراءة كتابٍ من كتب المناسك لعالم موثوق، أو سماعه، أو مشاهدته عبر التلفاز، أو بواسطة اليوتيوب، أو بصحبة طالب علم أو عالم بأحكام المناسك.
ثالثاً: ذا وطئتْ قدمُك أرضَ المشاعر؛ فليكن همّك الأكبر: كيف أظفرْ بتلك الكرامة التي بشّر بها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ؛ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ»([8]).
وهذا يتطلب بُعداً عن كل ما يخدش هذه الشعيرة؛ من كلام محرَّم، أو لغطٍ، أو نظرٍ محرم، أو سماعٍ محرّم، ونحو ذلك.
ولا ريب أن الحاج حين أداء مناسِكِه معرَّض للابتلاء بالقول والنظر، فعليه أن يَضبِط مشاعرَه، ويَغُض بصَرَه، ويتقي الله في ذلك ما استطاع، وما هي إلا أيامٌ، ثم يحمَدِ العاقبة على صبرِه على محارمِ الله، وزمِّ نفسِه عن مقابلة الجدال والاستفزاز بمثله.
ومما يوصي به المجربون: أن يدرِّب الإنسانُ نفسَه قبل رحلة الحج بمدة على ما سبقت الإشارة إليه؛ ليسهُل عليه ذلك إذا وصل إلى تلك البطاح؛ وليكون ذلك ديدَنُه أبدًا فيما بعدُ في بقيةِ رحلةِ حياته التي يَسيرُ فيها إلى اللهِ والدارِ الآخرة.
[COLOR="rgb(65, 105, 225)"]رابعاً:[/COLOR] إذا وُفّقتَ لعملٍ صالحٍ في المشاعر، سواء من أعمال القلوب، أو الجوارح، أو بذل المال؛ فاحرص على كَتْمِه، وجَعْلِه بينَك وبين الله؛ فهذا أحرى بالقبول، وأقرب لنفعها العاجل والآجل، وماذا ينفعك أن يعلم الناسُ بذلك؟ بل قد يضرُّك، حين يسري إليك داءُ العُجْب، أو الرياء. وهذا يُحتِّم على الحاجِ كثرةَ سؤالِ الله الإخلاصَ، وإصابةَ السنة.
وفق الله الحجيج، وأَرجَعَهم لبلادهم بأوفرِ أجرٍ، وأكبر غنيمة: "كما ولدته أمّه".

ـــــــــــــــ ـــــــــــــــ ــ
[1] يطلق على تجمع لبعض البيوت - يجمعهم رابطٌ مِن نِسِبٍ أو نحوه - في ناحية فيها بُعد عن التجمع الكبير للقرية، وبُعدُها قليلاً هو مَأخذُ تسميتها لغوياً بالعِزَب.
[2] مسلم ح(1337).
[3] أخرجه مسلم بلفظ: "لتأخذوا مناسككم" ح(1297)، والنسائي: (3062)، وهذا هو لفظ البيهقي في الكبرى: ح(9524).
[4] أي: مزدلفة.
[5] عند مدينة حايل المعروفة شمال نجد.
[6] الحبل: المراد به هنا: الجبل الصغير.
[7] أبو داود ح (1950)، وغيره ، وهو حديث صحيح.
[8] البخاري ح(1521) واللفظ له، مسلم ح(1350).


* الرابط على الموقع: ���� ����� - ������ ������ �������/ ��� �� ��� ���� ������