عن مالك بن أنس ((دلائل النبوة للبيهقي)) (3/ 397), وموسى بن عقبة ((مغازيه)) (214)، قال: ((كانت في سنة أربع)), وقال عروة بن الزبير, والزهري: ((دلائل النبوة للبيهقي)) (3/ 394)، أنها كانت بعد أُحُدٍ بسنتين, فظاهر كلامهم أنها كانت في سنة خمس؛ لأن أحدًا كانت في العام الثالث؛ ثم وجدت تفصيلًا لقتادة ((دلائل النبوة للبيهقي)) (3/ 394), ينفي هذا الظاهر, يقول: ((وكانت بعد أحد بسنتين, لأربع سنين من هجرته)), ونص محمد بن إسحاق ((سيرة ابن هشام)) (2/ 214): أنها كانت في شوال سنة خمس.
وقد جمع بين هذه الأقوال البيهقي رحمه الله, حيث قال - بعدما روى هذه الأقوال بأسانيدها – ((الدلائل)) (3/ 393- 397): ((قُلْتُ: لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَاتَلَ يَوْمَ بَدْرٍ لِسَنَةٍ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ السَّنَةِ الْقَابِلَةِ لِسَنَتَيْنِ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ فِي شَوَّالٍ، ثُمَّ قَاتَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ أُحُدٍ بِسَنَتَيْنِ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةَ، فَمَنْ قَالَ: سَنَةَ أَرْبَعٍ, أَرَادَ بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ، وَقَبْلَ بُلُوغِ الْخَمْسِ، وَمَنْ قَالَ: سَنَةَ خَمْسٍ, أَرَادَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ, وَقَبْلَ انْقِضَائِهَا, وَاللهُ أَعْلَمُ.
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: عَرَضَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْقِتَالِ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَلَمْ يُجِزْنِي، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ فَأَجَازَنِي.
فَيُحْتَمَلُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ قَدْ طَعَنَ في الرابعة عَشْرَةَ يَوْمَ أُحُدٍ, فَلَمْ يُجِزْهُ فِي الْقِتَالِ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ, وَكَانَ قَدِ اسْتَكْمَلَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَزَادَ عَلَيْهَا عَامَ الْخَنْدَقِ، فَأَجَازَهُ حِينَ عُرِضَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّهُ نَقَلَ الْخَمْسَ عَشْرَةَ لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا دُونَ الزِّيَادَةِ.
وَذَهَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى ظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ، وَحَمْلِ قَوْلِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَلَى ظَاهِرِهِ, وَأَنَّ أَبَا سُفْيَانَ حِينَ خَرَجَ لِمَوْعِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وَسَلَّمَ فِي شَعْبَانَ ثُمَّ انْصَرَفَ، خَرَجَ مُعِدًّا لِلْقِتَالِ عَامَئِذٍ فِي شَوَّالٍ عَلَى رَأْسِ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ أُحُدٍ.
وَذَلِكَ يُخَالِفُ قَوْلَ الْجَمَاعَةِ فِي قَدْرِ الْمُدَّةِ بَيْنَ بَدْرٍ الْآخِرَةِ وَالْخَنْدَقِ، فَقَدْ رَوَيْنَا قَبْلَ هَذَا عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِي تَارِيخِ خُرُوجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عليه وسلم لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَالْخَنْدَقُ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَرَوَيْنَا عَنْهُ فِي قِصَّةِ الْخَنْدَقِ أَنَّهُ قَالَ: فَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ فِي آخِرِ السَّنَتَيْنِ يَعْنِي مِنْ أُحُدٍ، وَقَدْ قَالَ فِي أُحُدٍ: إِنَّهُ كَانَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ فِي أُحُدٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ مَحْمُولًا عَلَى الدُّخُولِ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ كَمَالِهَا، وَقَوْلُهُ فِي بَدْرٍ الْآخِرَةِ: وَهُوَ خُرُوجُ النَّبِيِّ صلى اللَّه عليه وسلم لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَيْ بَعْدَ تَمَامِ ثَلَاثِ سِنِينَ وَدُخُولِ الرَّابِعَةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْخَنْدَقِ: سَنَةَ أَرْبَعٍ, أَيْ بَعْدَ تَمَامِ أَرْبَعِ سِنِينَ وَالدُّخُولِ فِي الْخَامِسَةِ.
هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُبْتَدَأَ التَّارِيخِ وَقَعَ مِنْ وَقْتِ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَقَدِ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ التَّوَارِيخِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَعُدُّوا مَا بَقِيَ مِنْ تِلْكَ السَّنَةِ، وَإِنَّمَا عَدُّوا مُبْتَدَأَ التَّارِيخِ مِنَ المحرم مِنَ السَّنَةِ الْقَابِلَةِ؛ فَتَكُونُ غَزْوَةُ بَدْرٍ فِي السَّنَةِ الْأُولَى, وَأُحُدٌ فِي الثَّانِيَةِ، وَغَزْوَةُ بَدْرٍ الْآخِرَةِ فِي الثَّالِثَةِ وَالْخَنْدَقُ فِي الرَّابِعَةِ.
قَالَ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ [الفَسَوِيُّ]: قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ شَهْرَ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَأَقَامَ بِهَا إِلَى الْمَوْسِمِ، وَكَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَهِيَ أَوَّلُ سَنَةٍ أُرِّخَتْ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ أُحُدٍ يَوْمَ السَّبْتِ لِإِحْدَى عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ شَوَّالٍ مِنَ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ الْآخِرَةِ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ لِمَوْعِدِ قُرَيْشٍ، ثُمَّ كَانَتْ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ فِي شَوَّالٍ مِنْ سَنَةِ أَرْبَعٍ . . .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: كَانَتْ بَدْرٌ لِسَنَةٍ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم الْمَدِينَةَ, وَأُحُدٌ بَعْدَهَا بِسَنَةٍ، وَالْخَنْدَقُ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَبَنِي الْمُصْطَلِقِ سَنَةَ خَمْسٍ، وَخَيْبَرُ سَنَةَ سِتٍّ، وَالْحُدَيْبِيَ ةُ فِي سَنَةِ خَيْبَرَ، وَالْفَتْحُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ، وَقُرَيْظَةُ فِي سنة الخندق))ا ه.
فمعنى كلام البيهقي الأخير: أنه قد يكون منشأ الخلاف, هو اختلافهم في بداية حساب السنة الهجرية؛ فبعضهم عَدَّ مبتدأ السنة الهجرية مِنْ شهر ربيع الأول, وهو الشهر الذي قدم فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة, وبعضهم لَمْ يَعُدُّوا ما بقي من تلك السنة؛ وإنما عَدُّوا مبتدأ التاريخ مِنَ المحرم للعام القابل.
وهذا هو الوجه الثاني للجمع بين الأقوال.
وقد نفى ابن كثير رحمه الله أن تكون الشهور المتبقية من سنة الهجرة الأولى قد أُلْغِيَتْ, وأنَّ العَدَّ بدأ من السنة القابلة, فقال رحمه الله ((البداية والنهاية)) (6/ 11) - بعدما لخص كلام البيهقي المتقدم -: ((وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ الْجُمْهُورِ؛ فَإِنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ جَعَلَ أَوَّلَ التَّارِيخِ مِنْ مُحَرَّمِ سَنَةِ الْهِجْرَةِ, وَعَنْ مَالِكٍ: مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ سَنَةَ الْهِجْرَةِ.
فَصَارَتِ الْأَقْوَالُ ثَلَاثَةً [أي: الأقوال في تاريخ غزوة الخندق], وَاللَّهُ أَعْلَمُ, وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ؛ أَنَّ أُحُدًا فِي شَوَّالٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ، وَأَنَّ الْخَنْدَقَ فِي شَوَّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الْهِجْرَةِ, وَاللَّهُ أَعْلَمُ))ا ه.
قلت: حتى لو قلنا بأن العَدَّ بدأ عند بعضهم من ربيع الأول سنة الهجرة, وعند آخرين, من المحرم من نفس السنة, فثلاثة أشهر كفيلة بِأَنْ تُحْدِثَ اختلافًا في عَدِّ الأعوام, والله أعلم.
ثم لو ضَعُفَ هذا الوجه مِنَ الجمع – وهو قوي – لكان الجمع بالوجه الأول جيد وحسن, وهو أقوى, والله أعلم.