أثر قراءة التراجم غير المشهورة عند أهل هذا العصر 5/8
بقلم الدكتور محمد موسى الشريف

إن أعظم ترجمة يمكن أن يستفاد بها هي سيرة حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ومِن بعده سيرة أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين، لكن الناس في زماننا هذا إذا ذُكر لهم حوادث السيرة أو الحوادث المشهورة أو المعروفة للصحابة رضي الله عنهم أو قرأوها صاروا يسابقون تتمتها في أذهانهم، ويكملونها في نفوسهم قبل أن يكتمل ذكرها أو قراءتها، وهذا لأن سمة أهل العصر العجلة والسرعة وعدم النفوذ إلى عمق القصص والأخبار والاكتفاء بظواهر معانيها فقط، هذا إن وعوها وفهموها.

فكان لابد إذن - والله تعالى أعلم - أن تورد على قلوبهم وعقولهم أخبار لتراجم جليلة لم يسمعوا بها إلا لماماً أو لم يسمعوا بها أبداً من قبل فتكون مثل الصافعة لهم ليتنبهوا، والصادمة لهم ليستيقظوا، وليقبلوا عليها بكُلِّيتهم، فعندئذ تقع الاستفادة - إن شاء الله تعالى- وذلك لأنهم سيكونون في شوق لسماعها، ورغبة في إكمالها بخلاف ما يعرفونه من أخبار، ودرجوا على سماعه من قصص وأحوال لعظماء الأمة ومقدمي المِلّة الأخيار.

وأهل هذا العصر يجهلون أكثر التراجم المسطورة في ثنايا الكتب، فمن السهولة بمكان أن تُهَيّئَ لهم مجموعة من التراجم المناسبة لتُعرض عليهم عرضاً مناسباً فساعتئذ سيتأثرون بها، إن شاء الله تعالى.

هذا وقد جربت هذا بنفسي ووقفت عليه لمّا أخذت في بيان سير أكثر من مائتين من هذه الشخصيات في القنوات الفضائية، وأكثرها مجهول تماماً عند أكثر الناس، أو يعرفون منها شذرات قليلة، فاستفاد منها كثير من الناس -بفضل الله تعالى- وتحدثوا بأثرها عليهم.

ـ هذا وقد درست في صدر الشباب وزمان الطلب الأول في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كلية الشريعة، وكنت قد درست على بعض مشايخي العقيدة السلفية، وعرفت شيئاً من فقه السلف، لكني كنت أجهل أكثر أعلامهم، ولا أعرف من سير غير مشهوري الصحابة والتابعين إلا الأقل من القليل، أما تابعو التابعين ومن بعدهم إلى زماننا هذا فقد كنت في عماية تامة عن جمهورهم الأعظم، وفي ذلك الوقت وقع في يدي كتاب "سير أعلام النبلاء" للحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- وكانت أجزاؤه تنشر تباعاً؛ إذ لم تكن القدرة المالية للناشرين على ما هي عليه اليوم، فلما أخذت في قراءته، وشرعت في تأمل محاسن تراجمه، وتدبر أخبار رجاله أخذني شيء عظيم، وندمت ندماً كبيراً أني لم أكن قد قرأت مثل تلك الأخبار، ولم أقف عليها من قبل، وعددت ذلك من جملة تقصيري وضعفي وتضييع أيامي، ولا يُدرى كم من دموع لي سالت، وقُشَعْرِيرة في جسدي حدثت، وكم من مشاعرَ مختلطةٍ عجيبة في نفسي انتابت، وقد رقّت نفسي شيئاً ما بعد شدة، وعرفت من قلبي شيئاً من خشوع بعد طول قسوة، وتغير شيء من خلقي وسلوكي بعد امتداد الجفوة، فلله كم تفعل هذه التراجم بالنفوس، وتبعد عنها البُوس، وتُفَرِّج عن الأسارير بعد شدة وعبوس، بما فيها من مجاهدات السلف والخلف، وأخبار زهدهم وعباداتهم، وقصص جهادهم وبطولاتهم، وحكايات مزاحهم ومداعباتهم، ولطائف تلك الأحوال، وجلال هاتيك الأقوال، وطرائق العناية الإلهية، ومدارج رقيّ تلك النفوس الزكية.

وقد كان هذا الذي أخبركم به قبل حوالي ثلاثين عاماً، وقد قرأت منذ ذلك الوقت قرابة مائة ألف ترجمة حتى ظننت أني استوعبت أكثر التراجم المطبوعة قراءة واطلاعاً وإذا بي أُفاجأ قبل سنة بكتاب -أعمل على تهذيبه الآن، وأرجو أن يوفقني الله لإخراجه، وأن يفسح في المدة لإتمامه- جليل جداً : ألا وهو "رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وافريقية وزهادهم ونساكهم وسير من أخبارهم وفضائلهم وأوصافهم".

فإذا قلت لكم إن الأكثرية الكاثرة من تراجم الكتاب لم أسمع بها قط فصدقوني، فإني والله كذلك، فإن أكثر من 90 بالمائة من تفاصيل أخبار تراجم هذا العِلْق النفيس والسِّفْر الجليل لم يكن لي بها عهد من قبل، وأصابني من التأثر بقراءتها ما أصابني قبل قرابة ثلاثين سنة من قراءة "سير أعلام النبلاء" وفي هذا دليل على ما ذكرته في بداية المبحث من أثر التراجم غير المعروفة للقارئ عليه، وأنها في غاية الأهمية لتصحيح مسيرته من كل جوانبها، فياليت رجال الدعوة والتعليم والتربية والإصلاح يستفيدون من هذه التراجم لينصبوها قدوات للشباب والشابات؛ فإنها من أعظم المعونات على التغيير لو أُوصلت إلى قلوبهم وعقولهم وأرواحهم بطريقة مناسبة لأهل العصر، والله أعلم.


المصدر
موقع التاريخ