هِجَر العِلْم الشبكية


خيَّم الكساد والركود على أنحاء عريضة مما كانت توسم بأنها معاقل العلم والعلماء، فأصبحت لا ترى من تلك إلا رسوم أولئك، ولا تسمع من خشخشة الأقلام إلا تذكار طلل بالٍ...
فلذلك السبب ولغيره أصبحت المواقع العلمية محلاً لهجرة كثير من طلبة العلم، الذين غدو اليوم هم أشبه الناس بالبدو الرحَّل، فنصبوا في أرجاء هذه المواقع خيامهم، ورفعوا على أطرافها أعلامهم، وأرسلوا في آبارها أدلاءهم، ولئن فعلوا، فلقد أصبحت هذه المياه هي المحل الرائج لسوق العلم، حتى غنَّت في أجوائها العصافرُ!
لكن ما لبث كثيرٌ من هؤلاء البدو الرحَّل أن حزموا حقائبهم، واستاقوا غنمهم، ورجعوا من حيث أتوا، وأقسموا ألا يعودوا، وأنشدوا:

بلادي وإن جارت علي بعيدة ### وأهلي وإن ظنوا علي كرام

حقاً، إن هجرة طلبة العلم من المواقع العلمية الجادة بعد انغماسهم في أغمار خيوطها العنكبوتية ردحاً من الزمن: لهو أمرٌ محير، وفي طياته الكثير من القلق!! وهو داعٍ إلى التفكر والتأمل مليا!
ولا شك أن سبب ذلك يختلف؛ لكن غالب الظن أن كثيراً منه يتردد بين أمرين:
أحدهما: عدم التوازن في النقاشات العلمية في هذه المواقع، فربما اعترض المشارك على المتخصص، وقد تبصر المليء وهو يحال إلى المفلَّس، وكم قضي الحدث المكفول بشهادة القاضي الماجن على العدل المبرَّز.
ويبدو أن هذا أيضاً هو الذي يكشف امتناع كثير من العلماء الأجلاء عن المشاركة في هذه المواقع العلمية على جديتها، وعلى تمحّضها العلمي، وعلى كونها هي اليوم أفضل القوالب الإعلامية، وعلى تلقي كثير من هؤلاء الدعوات الصريحة في المشاركة في خضم هذه المواقع.
وكأن قائلهم يقول: السعيد من وعظ بغيره، ولقد نصحني الرجل الصالح!
وكأني بأحدهم وهو يردد: العلم كرَّمنا ورفعنا، وحقاً له فلن نضعَه فنضعْ، ولن نبذلَه فنبتذل.
ولقد صدقوا، وحقيق بأحدهم أن يتمثل بقول الجرجاني:

يقولون لي فيك انقباض وإنما***رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم*** ومن أكرمته عزة النفس أكرما
ولم أقض حق العلم إن كان كلما*** بدا طمع صيرته لي سلما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى*** ولكن نفس الحر تحتمل الظما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي*** لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة*** إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم*** ولو عظموه في النفوس لعظَّما
ولكن أذلوه فهانوا ودنسوا*** محياه بالأطماع حتى تجهما

ولقد تنبَّه أهل العلم قديما إلى هذه الاختلال في التوازن، فأفردوا لها الفصول في بيان مراتب المجتهدين و درجات المقلدين، ومن هؤلاء ابن حزم الظاهري رحمه الله ففد أطلق على أولئك لسانه الملتهب بأحرفه الصارمة، فقال فيما قال:
"فمن استطاع إنكاراً فليبرز صفحته وليناظر مناظرة العلماء [المرحلة الأولى]
فمن عجز عن ذلك فليسأل سؤال المتعلمين [المرحلة الثانية]
أو ليسكت سكوت أهل الجهل الخبيرين بجهلهم [المرحلة الثالثة]
فإن أبوا إلا الرابعة، وهي هذر النوكى[الحمقى]، فتلك خطة عائدة على أهلها....." [المرحلة الرابعة]
وهذه المشكلة هي التي أردنا معالجتها بالقسم المتخصص بآداب الجدل وقوانين النظر، أعاننا الله وإياكم على تحمل هذه المسؤولية، فملتقى المذاهب الفقهية والدراسات العلمية له اتجاهان متعاكسان في الظاهر، وهما منتظمان في الحقيقة:
فالاتجاه الأول: هو اتجاه متسامح في اعتبار سائر الاتجاهات الفقهية المعتبرة.
والاتجاه الثاني: هو اتجاه صارم في رفضه لأي خرق للآداب وللقوانين التي فرغ أهل العلم قديما من تشييدها في قلاع العلم، ومدارس النظر.
ولعل في هذه الطريقة ما يذلل السبيل لأهل العلم إلى حيث المدرج الجديد لتلقي العلم وإلقائه، كلٌ في محله الذي يصلح له واللائق به.
-----------------------

الأمر الثاني في سبب هجر كثير من طلبة العلم من المواقع العلمية:
هو أن قسماً كبيرا من الموضوعات غير المفيدة تفسد على طلبة العلم الكثير من الأوقات، فصار ما يحصِّلونه من الفائدة العلمية مشروطاً بإهدار الكثير من الوقت والجهد اللذين سيحسبان عليهم أقساطاً مرهقة من مجموع حياتهم المعدودة.
فكان قرار الهجرة من هذه الملتقيات، والرجوع إلى رفوف الكتب، والتمسح بغبارها هو الحل الضروري، وهو القرار الأخير، وهو الذي لا بد منه، فقضية الوقت هي قضية مصيرية لدى طلبة العلم، هي في حافة أن أكون أو لا أكون، يضحي أحدهم براحته....وبعمره.. . وبماله... وبجاهه... وببلده...وربما بدكانه... بل ووربما بزوجته، وأكثر من ذلك.
فطالب العلم لا مجال لمماكسته في الزمن.

وبما أن ملتقى المذاهب الفقهية والدراسات العلمية يستهدف الشريحة المتخصصة بشكل أساسي وأولي، وبما أنه أخذ على عاتقه تذليل الصعاب أمامهم، والتشبث بأطراف ثيابهم، والتقرب إلى الله بحبهم وخدمتهم، فقد قرَّر أن يقوم بحول الله وتوفيقه بحل هذه المشكلة المعتاصة التي تعرض دونهم، فينتخب بشكل دوري لهؤلاء الجلة من أهل العلم الموضوعات المتميزة، ثم يقوم بإرسالها إلى جميع أعضاء الملتقى، وسيكون هذا على مدار الأسبوع، أو الشهر بحسب توافر المادة الجيدة.
وإدراكاً منه لقيمة وقت هؤلاء فإنه سيوفر لهم بهذه الطريقة مشقة تصفح الموضوعات المستجدة، خصوصاً مع انشغال كثير من الإخوة بما يحول بينهم وبين متابعة كل موضوعات الملتقى، كما هو حاصل الآن مع قلة الموضوعات، ومحدودية الأعضاء.
وحينئذ فإنه لن يحول انشغال هؤلاء عن متابعة المفيد من موضوعات الملتقى فإن هذه الفكرة ستحل بإذن الله عُقَدَ هذه المشكلة، وقد طرحنا هذه الفكرة على كثير من الإخوة المتميزين، فاستحسنوها، وذكروا أنها ستسمح لهم بمتابعة موضوعات الملتقى على الوجه المطلوب، لاسيما إذا أخذنا بالاعتبار انشغالات الحياة المعاصرة، وطول الدوامات وتعددها، والله المستعان.
وخصوصاً إذا أخذنا بالاعتبار تعدد المواقع العلمية الجادة، وتنافسها في التسابق العلمي المفيد في طرح الأبحاث المحررة، فإنه بإزاء كل هذه المواقع فإنه يكون من الصعوبة بمكان على الحريص المتابع أن يقرأ مجرَّد عناوين موضوعات هذه المواقع؛ فكيف بالمارِّ على هذه المواقع.! فكيف بالمشغول الذي لا يكاد يزور إلا تحيّنا وخلسة!
وفي ترسيم هذا المبدأ يواصل ملتقى المذاهب الفقهية منهجه المختص به، والذي أخذه على عاتقه من يوم أن رأى النورَ في تجويد الموضوعات وتحكيمها، فالاختيار أولاً، ثم التحكيم ثانياً.
وإنا – والفضل لله أولا وآخراً- نستبشر خيراً، ولقد ألمح كثير من الإخوة وصرَّحوا بجدية الملتقى العلمية، وصرامته البحثية مما يدعو إلى التريث في الكتابة والإفادة، وهذا معنىً مقصود بالأصالة في تأسيس الملتقى فليس المهم هو الموضوع ولا المشاركة بقدر ما هي الإفادة والإضافة.
كما نتمنى من الإخوة ألا يعجلوا علينا في بطء سير الملتقى التفاعلي والإعلامي، فإن هذا البطء يتناسب مع حجم المشروع المأمول، ومَنْ كانت له عناية بالاقتصاد يعلم تماما أن ضخامة المشاريع تنعكس سلباً على نسب النمو، ولهذا فإن ضخامة الصين اليوم وارتفاع نسب نموها إلى 10% يؤرِّق الغرب كثيراًَ، وهو أمرٌ خارجٌ عن العادة!
ثم لا تنتهي الصين حتى تقول: إنها تعالج الأزمة الطاحنة بالمحافظة على نسب نموها المرتفعة!!
فأخرجت الغرب من أزمته القلبية الخانقة إلى ذبحة صدرية مزمنة!!
غفر الله لي ولكم، دعونا من الصين المثخنة ومن أسوارها المترامية، فإنه يكفينا في كل يوم أو حتى في كل أسبوع موضوع واحد متميز نقرأه على مهل، فنفيد منه ونستفيد.
وإلا فما الفائدة بأن يتخم الملتقى ويمتلئ بالموضوعات، وما الإضافة التي سيقدمها حينئذٍ، ثم إن هذا الشيء متوافر في المواقع العلمية الجادة، فدونكم إياها.
كما أن سرعة سير الملتقى سيفقدنا ولا بد من السيطرة العلمية على الموقع، وليس المقصود تبني آراء معينة، أو تحديد اتجاهات مسبقة فإن هذا يخالف وثيقة الملتقى في المحافظة على المدارس الفقهية، واحتضان سائر الاتجاهات القديمة، والنزعات الفقهية المعاصرة ما دامت هي في حيز الاعتبار.
وإنما المقصود بالسيطرة العلمية - إذا لم يكن الأمر هو التقيد برسوم معينة - هو المحافظة على أحد أهم أهداف الملتقى، وهو تحرير المعلومة الفقهية مذهباً ودلالة، عن طريق فريق علمي متخصص قادر على التعاطي مع المعلومة المتلقَّاة، وإدراجها ضمن برامج الملكة العلمية ومشتقاتها، وإخراجها مفروزة بحسب مكوناتها الأولى، وبحسب الإضافات التالية، وبحسب ما تحمله من القدرة على تحصيل وظائفها.
وقد يتلقَّى هذا الفريق المواد الأولية مخلوطة بغيرها، فيعوزه ذلك إلى عمليات تفكيك من متعلقاتها الأولى، ليركِّب منها النماذج المقترحة.
وهذا الفريق لو كان مصنوعا فإنه لا يمكنه أن ينجمع بين عشية وضحاها؛ فكيف إذا أردنا – بإذن الله – صنع هذا الفريق، والتنقيب عن مواده الأولية في داخل الورش الصناعية في الملتقى، وما ذلك على الله بعزيز.
فؤاد بن يحيى الهاشمي.
http://www.mmf-4.com/vb/showthread.php?t=1708