ابنُ عباس ينادي طلاب العلم 3/ 3
أشرت في الجزء الثاني ابنُ عباس ينادي طلاب العلم 2 - 3 - الموقع الرسمي للدكتور/ عمر بن عبد الله المقبل إلى بعض معالم التميز في شخصية ابن عباس، وذكرتُ هناك معلمين بارزين في هذه الشخصية:

ـ اهتبالُه الفرصَ واغتنامه إياها بالقرب من العلماء متى ما لاحت له فرصة.
ـ حرصه على استدراك ما فاته من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسماعه ممن سمعه منه.

وفي هذا الجزء نختم بالإشارة إلى مَعْلَمين من معالم التميز في حياة هذا الحبر الجليل العلمية، وهما:
خامساً: حرصه - الذي أشرتُ إليه - على جمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لم يكن ليشغله عن الأصل الأكبر والأول، وهو القرآن الكريم: حفظاً، وفهماً، وتدبراً، وعملاً.

وقد سبق لنا - في المقالة السابقة - أنه بقي سنةً كاملة يتحين فرصةً ليسأل أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- عن آية في كتاب الله تعالى!

وها هو ابن عباس يحكي لنا موقفاً عاتب فيه أكابرُ قريش عمرَ - رضي الله عنه - على إدخال ابن عباس معهم، وعدم إدخال أقرانه من أبنائهم! فقال لهم عمر: «إنه ممن قد علمتم» قال ابن عباس: فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ـ وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ـ فقال: ما تقولون في: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا...﴾[النصر: 1، 2] حتى ختم السورة؟ فقال بعضهم: أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا، وقال بعضهم: لا ندري! أو لم يقل بعضهم شيئاً، فقال لي: يا ابن عباس! أكذاك تقول؟ قلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجَلُ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه الله له ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ فتح مكة، فذاك علامة أجلك: (فسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾[النصر: 3] قال عمر: «ما أعلم منها إلا ما تعلم»([1]).

وقد كان عمُرُ ابن عباس يومها لا يتجاوز خمساً وعشرين سنةً! وأوتي هذا الفهم العميق، الذي كان من أسبابه: الجدّ والحرص على تفهّم معاني كلام الله تعالى وتدبره.

ومن آثار تعلُّقه بالقرآن مِن صغره: أنه أرّخ مناسبة عزيزةً عليه: وهي حفظ المفصّل، ويقال له: المُحكم، فقال - كما في البخاري من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما -: «جمعتُ المحكم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم»، فقلت له: وما المحكم؟ قال: «المفصَّل»([2]).

هذا التعلق العظيم بالقرآن -فهماً وتدبراً- لم يكن بمعزلٍ عن العمل به؛ يوضّح ذلك ما رواه ابنُ أبي مليكة، قال: صحبتُ ابنَ عباس مِن مكة إلى المدينة، ومن المدينة إلى مكة, فكان إذا نزل منزلاً قام شطر الليل فأكثر في ذلك النشيج, قلت: وما النشيج؟ قال: النحيب البكاء, ويقرأ: ﴿وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد﴾[ق: 19]([3]).

فتأمل كم أثّر هذا الموقف في ابن أبي مليكة! وكم يربي العلماءُ العاملون في نفوس تلاميذهم بأمثال هذه المواقف ما لا تصنعه بهم عشرات الكلمات والخطب!

وهذا من توفيق الله لطالب العلم؛ أن يُرزق بعالم عامل، كما رزق الله ابنَ عباس بسيد العلماء العاملين صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وكما رزق ابن أبي مليكة بابن عباس رضي الله عنهما.

والمقصود، أن على طالب العلم - مهما كان ميله لفنٍّ من الفنون - أن يعتني بكتاب الله عز وجلّ، تلاوةً وفهماً وتدبراً وعملاً به، وأن انهماكه في علم من علوم الشريعة فضلاً عما سواها من العلوم؛ لا يعفيه من الاهتمام بالقرآن، فهو الكتاب الذي يتجاوز كلّ التخصصات.

لقد وجدتُ في تراجم الأئمة الذين نفع الله بهم الأمة، وصاروا محل القبول؛ اشتراكاً في الاهتمام بالقرآن، على تفاوت درجاتهم، لكنك لن تجد من هؤلاء الأئمة من ليس له ورد أو حزبٌ من القرآن.

إن مما يُحزن الإنسان أن تكون علاقة طالب العلم بالقرآن - كما حدثني أحدهم - من رمضان إلى رمضان!! فما الفرق بينه وبين العامة؟ بل بعض العامة خيرٌ منه.

إن توثيق الصلة بكتاب الله حقٌ على كل مسلم، وهو في حق من أوتي شيئاً من العلم آكد وأوجب، فهو كلام الله وكفى! فيه الشفاء والنور، وهو مصدر التشريع الأول، إلى غير ذلك من الدواعي التي تحتم على المسلم العناية به، بل إن العلم الذي يؤتاه الطالب يحض أصلاً على توثيق الصلة بالقرآن، ولا بركة للعلم إلا بالعمل.

سادساً: ذكر المزي في ترجمة ابن عباس من "تهذيب الكمال"([4]) نحواً من مائتي نفسٍ من تلاميذه، والآخذين عنه.

وهذا العدد - بالنسبة لذلك الزمن - عددٌ كبير، وهو ثمرة صبرٍ ومصابرة على الجلوس للتعليم. هذا الصبر والجهاد بالبيان؛ أثمر عدداً كبيراً من التلاميذ الذين كتب الله لهم القبول والتأثير في الأمة بعد ذلك، كعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وأبي العالية الرياحي، وسعيد بن المسيّب، ومجاهد، والضحاك بن مزاحم، والشعبي، وعُبَيد الله بن عبدالله بن عتبة - أحد الفقهاء السبعة - وابن سيرين، وغيرهم كثير.

والمشاهد في واقعنا المعاصر، أن أكثر العلماء تأثيراً في الواقع من حيث عدد التلاميذ، هم الذين أفنوا أعمارهم في تعلم العلم وتعليمه، وهؤلاء هم ولدُ العالم من جهة العلم، ولعل بعضهم أبرُّ به من ولده لصلبه!

والمراد: أن عاقبة الصبر في التعلم أولاً ثم التعليم ثانياً؛ عظيمة الأثر، وكبيرة النفع في أمته.

سلك الله بي وبك سبيل العلماء الربانيين.

ـــــــــــــــ ــــــــ
([1]) البخاري ح(4294).
([2]) البخاري ح(5036).
([3]) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 244) رقم(35720).
([4]) تهذيب الكمال في أسماء الرجال (15/ 154).