(الحديث يعضد الحديث الآخر، ولكن هذا في أبواب ضيقة. وأقوى أنواع التقوية في هذا، أن تتعدد بلدان الحديث، مع وجود الفتوى عليه.
لماذا قلنا التعدد؟
دفعاً للموافقة، والوهم، والغلط، أن يوجد إسناد في العراق، وإسناد في مصر، إسناد في خرسان، إسناد في الكوفة، هذه متنوعة. أليست متنوعة؟ متنوعة.
عادة الإشاعة والخبر يكون في الناس في بلدة واحدة، تجد أنه من أهل هذه البلدة، يكون مصدر الخبر إذا كان لم يوجد عند غيره. لكن إذا وجد في البلد الفلاني، والبلد الفلاني، والبلد الفلاني، تعددت مصادر الخبر، وضعف أن يكون إشاعة، يكون له مصدر. هذا له أصل، وهذا يُعلم بالحس والنظر.
ولهذا نقول :
إذا تعددت مخارج الحديث من جهة البلدان، قوي. وأعظم المخارج هي مكة والمدينة. وقد تتعدد مخارج الحديث، لكنه لا يوجد لا في مكة ولا في المدينة إسناداً، ولا فتوى فقهية، فيكون الحديث مقبول أو مردود؟ مردود، الحديث مردود.
إذا وجدنا .. وهذا يحسم كثير من القضايا في تصحيح الأحاديث بمجموع الطرق. أسهل وسيلة يقف الإنسان فيها في وجه تصحيح الأحاديث، أو يحسم القضية، هو أنه إذا وُجد لديه حديث له عدة طرق، يدع هذه الطرق يمينه، ثم ينظر في أهل المدينة، وفي أهل مكة على سبيل الاستقلال. هل يوجد عندهم كلام في هذا الحديث؟ هل يوجد فتوى فقهية؟ هل يوجد إسناد عندهم؟
إذا لم يوجد هذا الحديث من مباحث الدين، خاصة أمور العبادة، فليضع مقدمة لديه أن هذه الطرق لا تنفع، هذا يحسم القضية أنها لا تنفع.
بعض الناس يأتي عكس، يأتي ويبحث في العدد، ويستكثر يقول لدي عشرين طريق، ثم تصنع هذه العشرين هالة في ذهنه، ثم يأتي لديه حينما ينظر في غيرها، يضعف في هذا الباب.
لهذا ينبغي للإنسان أن ينطلق في أمور الرواية من ماذا؟ أمور البحث من ماذا؟ من مكة والمدينة.
وتجد في كلام العلماء، في تقوية الأحاديث في مجموع الطرق، في كلام الإمام أحمد، كلام من تقدم كسفيان له كلام في تصحيح الحديث بمجموع طرق، عبد الرحمن بن مهدي، يحيى بن معين، علي بن المديني، لهم كلام في هذا. الترمذي _ عليه رحمة الله _ له كلام وافر في هذا، تجد أنهم يعولون على هذا المبدأ.
فأي مسألة إذا تكثر الطرق لديك وافرة وكثيرة جداً، انظر لهذين البلدين ثم انطلق منهما إلى البحث في هذه الأعداد، تجد أن هذه القضية مما يُحسم لديك في هذا الباب.
وقد تكون المسألة من وجه آخر، وهذا أمر ينبغي أن يُنتبه إليه. قد توجد فتاوى لدى المدنيين، أو المكيين في قضية من القضايا، والأحاديث في ذلك الموجودة كلها معلولة، الأحاديث في هذا كلها معلولة.
إذا كثرت أقوال المدنيين والمكيين في هذه المسألة، في مسألة من المسائل، هذا علامة على تقوية الحديث الموافق لها، أو عدم تقويته؟ إذا وجدنا في مسألة من المسائل عشرين قول لفقهاء المدينة، سواء من التابعين أو من أتباع التابعين، ثم لم نجد في هذا الحديث إلا ثلاثة أحاديث وكلها مطعون فيها، هل هذا دليل على تقوية الأحاديث نقويها أم نضعفها؟
نضعفها. لماذا؟ لماذا نضعفها؟ نضعف الأحاديث القليلة إذا لم يكن فيها شيء يرقى إلى الاحتجاج، نضعفها لأن هذه الفتاوى الكثيرة التي جاءت عن التابعين عشرين قول، أو خمسة عشر قول، ينبغي أن نأخذ فيها انطباع أن هذه المسألة محل اهتمام، وينبغي أن يكون هؤلاء قد اهتموا بالحديث ما وُجد له إسناد صحيح. لو وجد له إسناد صحيح، أول من يهتم به من؟ هؤلاء. لكن لو وجدنا قول وقولين في المدنيين، ثم وجدنا حديثين ضعيفة، هذه تعضد أو ما تعضد؟ تعضد. لماذا؟ لأن المسألة موجودة، لكنها ليست محل اهتمام، ليست محل اهتمام أهل المدينة، ولا أهل مكة. ولهذا ما أخذوها مأخذاً قوياً.
أما إذا أخذوها فقهياً مأخذاً قوياً، فأفتى بها عشرين من المدنيين، وما جاء فيها إلا ثلاثة أحاديث وكلها فيها علل، هل يمكن هذا؟ ويكون الحديث صحيح؟ هذا لا يكاد يثبت. ولهذا نقول إن المسألة مسألة موازنة، مسألة نسبة وتناسب، فيأخذ فيها الإنسان من جهة الإعلال، وهي قرائن دقيقة). انتهى.
(ج 1 / ص 409-411) بترقيم المكتبة الشاملة