تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 40 من 66

الموضوع: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

  1. #21
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد



    في لقاء الباب المفتوح [ 19 ] ،، للشيخ : محمد بن صالح العثيمين



    قرأت في كتاب التوحيد في باب ما جاء في الرقى والتمائم إذا كان المعلق من القرآن رخص فيه بعض السلف وبعضهم لم يرخص، ويجعله من المنهي عنه،
    منهم: ابن مسعود رضي الله عنه، وعن إبراهيم قال: [ كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن ] ولكن هذا قول إبراهيم وقول ابن مسعود رضي الله عنه وهو بسندٍ ضعيف أو صحيح؟؟؟.
    سؤالي:
    أولاً: في أي كتاب وجدت أقوال السلف الذين لم يرخصوا.

    ثانياً: وما حكمهما عندهم: هل هو شرك أو بدعةٌ أو مكروه كما في مسند أبي الجعد عن إبراهيم قال: [ كانوا يطلبون الشيء ولا يحرمونه ].
    ثالثاً: وما علة النهي، هل أنهم يدخلون به الخلاء أم عندكم علةٌ أخرى، كما قال ابن مسعود و إبراهيم في مصنف ابن أبي شيبة ؟

    الجواب
    التمائم هي ما يعلق على الإنسان المريض ليشفى من المرض أو يعلق على الإنسان الصحيح ليتقى به العين، وإن كان مريض يعلقها لكي يشفى ويزول المرض، أو صحيح ليس بمريض لكن يعلقها لئلا تصيبه العين (الحسد)، هذه التمائم لا تخرج عن حالات ثلاث: الحالة الأولى: أن يكتب فيها شرك وطلاسم، فهذه حرام بالاتفاق؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً ) فكيف بالتمائم؟ التمائم أشد.
    الحالة الثانية: ألا نعرف ما المكتوب فيها، فهذه أيضاً حرام؛ وذلك لأنه قد يكتب فيها شيء من الشرك من دعاء الجن أو الشياطين أو غير ذلك فتكون حراماً.
    الحالة الثالثة: أن نعلم أن المكتوب فيها من القرآن أو من الأدعية النبوية، فهذه فيها خلاف بين السلف والخلف، فمنهم من أجازها مستدلاً بعموم قوله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [الإسراء:82] فيقول: (ما هو شفاء) مطلق للمبين، فكل شيءٍ من القرآن يستشفي به الإنسان ويشفى فهو حق وأجاز ذلك، ومنهم من منعها وقال: إنها مكروهة كراهة تحريم أو كراهة تنزيه؛ لعموم النهي عن التمائم ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) فتكون ممنوعة، فمنهم من قال: إنها كراهة تنزيه، ومنهم من قال: إنها كراهة تحريم، ولا شك أننا إذا جعلناها قسماً من الشرك فإنها تكون محرمة؛ لأن الشرك محرم صغيره وكبيره، ووجه ذلك: أن الإنسان إذا علقها تعلق قلبه بها ونسي القراءة المشروعة والتعوذات المشروعة، بل وربما يتعلق قلبه بها تعلقاً تاماً ينسى بها الخالق، ولهذا جاء النهي عنها.
    وأما الكراهة في قول النخعي : كانوا يكرهون، فالكراهة في العرف السابق في سلف هذه الأمة للتحريم إلا إذا صرحوا بأنها كراهه تنزيه.
    أما الكراهة عند المتأخرين بعد أن كتبوا في أصول الفقه وألفوا وفرعوا وأكثروا، فإن الكراهة عندهم للتنزيه وليست للتحريم.
    والذي أرى في التمائم المكتوبة من القرآن أن تجنبها أولى ولكنها ليست حراماً.
    السائل: ولكن أريد أقوال السلف الذين لم يرخصوا في أي كتاب؟ الشيخ: الذين لم يرخصوا بذلك؟ السائل: نعم.
    الشيخ: هذا أثر ابن مسعود .
    السائل: هل هو بإسناد ضعيف؟
    الشيخ: إسناده ضعيف، لكن متنه قوي من حيث عموم ( إن الرقى والتمائم والتولة شرك ) .
    السائل: أي أنه فقط أصل ظاهر؟
    الشيخ: الأصل أن المتن هذا يقوى بالأحاديث، ويجب أن تعلم أنه قد يكون السند صحيحاً والمتن ضعيفاً، وقد يكون المتن قوياً والسند صحيحاً، ومن ثم اشترط العلماء -علماء مصطلح الحديث- لصحة الحديث ألا يكون الحديث معللاً ولا شاذاً، فإن كان معللاً بعلة قادحة أو شاذاً فإنه مردود ولو كان سنده صحيحاً، واعتبروا الشواهد فيما إذا كان السند ضعيفاً أو المتن، وأنه إذا جاءت شواهد تؤيد هذا الشيء فإنه يكون صحيحاً ولو كان سنده ضعيفاً.
    السائل: ولكن لما قال: إن بعضهم لم يرخص، أين البعض؟ هل البعض ابن مسعود رضي الله عنه أم غيره؟
    الشيخ: ابن مسعود أو غيره، والذي نقل هذا -أن بعضهم لم يرخص- هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وهو ثقة، وعلينا نحن الآن إذا قال بعضهم: علينا أن نبحث وأن ننظر في كتب الآثار كـ المصنف لـ عبد الرزاق و ابن أبي شيبه وغيرهما.
    السائل: قرأت في مصنف ابن أبي شيبة فما وجدت غير قول ابن مسعود رضي الله عنه فقط .
    الشيخ: لكن هناك مصنفات أخرى غير مصنف ابن أبي شيبة ، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثقة.



    منــــــــقــــ ـول
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  2. #22

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    بارك الله فيك.

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  3. #23
    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    الدولة
    مصر المنصورة
    المشاركات
    5,230

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    جزاك الله خيرا
    إن أفضل وأكثر ما لفت نظري
    دفاع الإمامُ عن الإمام ورفع اللائمة عنهم وذب كل ما من شأنه التنقص لأعراضهم لأنهم أئمة وليسوا أشباها
    هو إمام ثقة ثقة ،
    سبحان الله

  4. #24

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابوخزيمةالمصرى مشاهدة المشاركة
    جزاك الله خيرا
    إن أفضل وأكثر ما لفت نظري
    دفاع الإمامُ عن الإمام ورفع اللائمة عنهم وذب كل ما من شأنه التنقص لأعراضهم لأنهم أئمة وليسوا أشباها
    هو إمام ثقة ثقة ،
    سبحان الله
    وجزاك مثله.

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  5. #25

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    (8)

    باب

    من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما

    وقول الله تعالى:{ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [ النجم : 19 - 23 ].
    عن أبي واقد الليثي t قال:"خرجنا مع رسول الله r إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها:ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا:يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول اللهr :الله أكبر !! إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى:( اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ) (الأعراف :138). قال:" إنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم". رواه الترمذي وصححه(
    [1]).

    الشرح :

    هذا الباب مكمِّلٌ للأبواب التي قبله لأن الأبواب التي قبله في لبس الحلْقة والخيط ونحوهما أو تعليق الرُّقى والتّمائم وهذا فيه النهي عن التبرّك بالأشجار والأحجار فهذه الأبواب كلها مؤدّاها الاعتقاد بغير الله_سبحانه وتعالى_ أنه يضر أو ينفع وهذا شرك، لأن الذي يقدر على دفع الضر وجلب النفع هو الله_سبحانه وتعالى_وحده لا شريك له هو القادر_سبحانه وتعالى_ على ذلك لا يشاركه أحد وإن كان هناك أشياء يترتّب على استعمالها أو أكلها أو شُربها ضرر، أو يترتّب عليه نفع فهذه أسباب فقط، أما الذي يخلق ذلك فهو الله سبحانه ([2]).

    قوله: (تبرك) تفعل من البركة والبركة:هي كثرة الخير وثبوته وهي مأخوذة من البركة بالكسر. والبركة مجمع الماء ومجمع الماء يتميز عن مجرى الماء بأمرين:
    1_ الكثرة.
    2_ الثبوت.

    والبركة:مأخوذة من حيث الاشتقاق من مادة ( بروك ) أو من كلمة ( بركة ) أما اشتقاقها من البروك:فبروك البعير يدل على ملازمته وثبوته في ذلك المكان وأما اشتقاقها من البركة: فالبركة هي:مجتمع الماء وهي تدل على كثرة الماء في هذا الموضع، وعلى لزومه له وعلى ثبوته فيه, فيكون معنى البركة,إذًا:كثرة الشيء الذي فيه الخير وثباته ولزومه فالتبرك هو:طلب الخير الكثير وطلب ثباته وطلب لزومه فتبرّك يعني:طلب البركة, والتبرك طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
    1_ أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم مثل: القرآن قال تعالى:{كتاب أنزلناه إليك مباركاً }. فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح فأنقذ الله بذلك أمماً كثيرة من الشرك ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة.

    2_ أن يكون بأمر حسي معلوم مثل:التعليم والدعاء ونحو، فهذا الرجل يتبرك بعمله ودعوته إلى الخير فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيراً كثيراً (
    [3]). والنصوص في القرآن والسنة دلت على أن البركة من الله - جل وعلا - وأن الله - جل وعلا - هو الذي يبارك، وأنه لا أحد من الخلق يبارك أحدا، قال سبحانه:{تَبَارَك َ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} (الفرقان:1). يعني:عَظُمَ خير من نزّل الفرقان على عبده وكثر، ودام وثبت. وقال:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} (الملك:1)([4]). وقال سبحانه:{ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ }(الصافات:113) وقال:{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا }(مريم:31). فالذي يبارك هو الله - جل وعلا - فلا يجوز للمخلوق أن يقول:باركت على الشيء أو أبارك فعلكم لأن البركة وكثرة الخير ولزومه وثباته إنما ذلك من الذي بيده الأمر وهو الله-عز وجل -,وقد دلت النصوص في الكتاب والسنة على أن الأشياء التي أحل الله -جل وعلا-البركة فيها قد تكون أمكنة أو أزمنة وقد تكون مخلوقات آدمية فهذان قسمان:
    القسم الأول:أن الله تعالى بارك بعض الأماكن كبيت الله الحرام وحول بيت المقدس كما قال سبحانه:{ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ }( الإسراء:1). ومعنى كون الأرض مباركة:أن يكون فيها الخير الكثير اللازم يعني- أبدا -أن يُتَمَسَّح بأرضها أو أن يُتَمَسَّح بحيطانها لأن بركتها لازمة لا تنتقل بالذات يعني:أنك إذا لامست الأرض أو دفنت فيها أو تبركت بها فإن بركتها لا تنتقل إليك بالذات وإنما بركتها من جهة المعنى فقط .
    كذلك بيت الله الحرام هو مبارك لا من جهة ذاته يعني:ليس كما يعتقد البعض أن من تمسح به انتقلت إليه البركة وإنما هو مبارك من جهة المعنى يعني:اجتمعت فيه البركة التي جعلها الله في هذه البنية من جهة:تعلق القلوب بها وكثرة الخير الذي يكون لمن أرادها وأتاها وطاف بها وتعبد عندها وكذلك الحجر الأسود هو حجر مبارك ولكن بركته لأجل العبادة يعني أن من استلمه تعبدا مطيعا للنبي_صلى الله عليه وسلم_ في استلامه له وفي تقبيله فإنه يناله به بركة الاتباع.
    وقد قال عمر رضي الله عنه لما قبّل الحجر:"إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر"(
    [5]).

    فقوله:لا تنفع ولا تضر يعني لا يجلب لمن قبله شيئا من النفع ولا يدفع عن أحد شيئا من الضر وإنما الحامل على التقبيل مجرد الاتِّساء تعبدا لله ولذلك قال:"ولولا أني رأيت رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يقبلك ما قبلتك". فهذا معنى البركة التي جعلت في الأمكنة.

    وأما معنى كون الزمان مباركا - مثل شهر رمضان،أو بعض أيام الله الفاضلة فيعني:أن من تعبد فيها ، ورام الخير فيها ، فإنه ينال من كثرة الثواب ما لا يناله في غيرها من الأزمنة.
    والقسم الثاني:البركة المنوطة ببني آدم وهي البركة التي جعلها الله - جل وعلا - في المؤمنين من الناس وعلى رأسهم سادة المؤمنين:من الأنبياء والرسل فهؤلاء بركتهم بركة ذاتية يعني:أن أجسامهم مباركة فالله - جل وعلا - هو الذي جعل جسد آدم مباركا وجعل جسد إبراهيم عليه السلام مباركا وجعل جسد نوح مباركا وهكذا جسد عيسى وموسى عليهم جميعا الصلاة والسلام جعل أجسادهم جميعا مباركة بمعنى:أنه لو تبرك أحد من أقوامهم بأجسادهم إما بالتمسح بها أو بأخذ عرقها أو التبرك ببعض أشعارهم فهذا جائز لأن الله جعل أجسادهم مباركة بركة متعدية وهكذا نبينا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم جسده أيضا جسد مبارك ولهذا ورد في السنة أن الصحابة كانوا يتبركون بعرقه ويتبركون بشعره (
    [6]) وإذا توضأ اقتتلوا على وضوئه([7]). إلى آخر ما ورد في ذلك ذلك أن أجساد الأنبياء فيها بركة ذاتية ينتقل أثرها إلى غيرهم.
    وهذا مخصوص بالأنبياء والرسل أما غيرهم فلم يرد دليل على أن من أصحاب الأنبياء والرسل مَن بركتهم بركة ذاتية حتى أفضل هذه الأمة أبو بكر وعمر فقد جاء بالتواتر القطعي:أن الصحابة والتابعين والمخضرمين لم يكونوا يتبركون بأبي بكر وعمر وعثمان وعلي كما كانوا يتبركون بشعر النبي صلى الله عليه وسلم أو بوضوئه أو بنخامته أو بعرقه أو بملابسه ونحو ذلك فعلمنا بهذا التواتر القطعي أن بركة أبي بكر وعمر إنما هي بركة عمل ليست بركة ذات تنتقل كما هي بركة النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن من الشجر لَمَا بركته كبركة المسلم"([8]). فدل هذا:على أن في كل مسلم بركة وفي البخاري أيضا قول أسيد بن حضير:" ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر"([9]). فهذه البركة التي أضيفت لكل مسلم وأضيفت لآل أبي بكر هي:بركة عمل هذه البركة راجعة إلى الإيمان وإلى العلم والدعوة والعمل.
    فكل مسلم فيه بركة وهذه البركة ليست بركة ذات وإنما هي بركة عمل وبركة ما معه من الإسلام والإيمان وما في قلبه من الإيقان والتعظيم لله - جل وعلا - والإجلال له والاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم فهذه البركة التي في العلم أو العمل أو الصلاح : لا تنتقل من شخص إلى آخر.
    وعليه فيكون معنى التبرك بأهل الصلاح هو الاقتداء بهم في صلاحهم والتبرك بأهل العلم هو الأخذ من علمهم والاستفادة منه وهكذا ولا يجوز أن يُتبرك بهم بمعنى أن يُتمسح بهم أو يُتبرك بريقهم لأن أفضل الخلق من هذه الأمة وهم الصحابة لم يفعلوا ذلك مع خير هذه الأمة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وهذا أمر مقطوع به (
    [10]).

    وباب من: ( تبرك بشجر أو حجر ونحوهما ). يعني:ما حكم هذا الفعل؟
    الجواب:هو مشرك يعني: باب من:( تبرك بشجر أو حجر ونحوهما) فهو مشرك .
    قوله: (ونحوهما) كبقعة وقبر ونحو ذلك أي: فهو مشرك.
    قوله:(وحجر) اسم:جنس يشمل أي حجر كان حتى الصخرة التي في بيت المقدس فلا يتبرك بها وكذا الحجر الأسود لا يتبرك به، وإنما يتعبد الله بمسحه وتقبيله اتباعاً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وبذلك تحصل بركة الثواب.
    ولهذا قال عمر رضي الله عنه:" إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك". فتقبيله عبادة محضة خلافاً للعامة يظنون أن به بركة حسية ولذلك إذا استلمه بعض هؤلاء مسح على جميع بدنه تبركاً بذلك (
    [11]).

    وقوله:{أَفَرَأَي ْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ ...الآية .
    كانت اللات لثقيف و العزى لقريش وبني كنانة و مناة لبني هلال وقال ابن هشام:كانت لهذيل وخزاعة. فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء، وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح و رويس بتشديد التاء. فعلى الأولى قال الأعمش:سموا اللات من الإله، و العزى من العزيز قال ابن جرير: وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله تعالى، فقالوا:اللات مؤنثة منه، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا قال : وكذا العزى من العزيز.
    وقال ابن كثير:اللات كانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة، وحوله فناء معظم عند أهل الطائف، وهم ثقيف ومن تبعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش.
    قال ابن هشام:فبعث رسول الله r المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار. وعلى الثانية قال ابن عباس:" كان رجلا يلت السويق للحاج، فلما مات عكفوا على قبره". ذكره البخاري قال ابن عباس:" كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويسلوه عليها فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق". وعن مجاهد نحوه وقال:(فلما مات عبدوه) رواه سعيد بن منصور. وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس:"أنهم عبدوه". وبنحو هذا قال جماعة من أهل العلم.


    قلت:لا منافاة بين القولين فإنهم عبدوا الصخرة والقبر تأليها وتعظيما ولمثل هذا بنيت المشاهد والقباب على القبور واتخذت أوثانا وفيه بيان أن أهل الجاهلية كانوا يعبدون الصالحين والأصنام.
    وأما:العزى فقال ابن جرير :كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة - بين مكة والطائف - كانت قريش يعظمونها . كما قال أبو سفيان يوم أحد:" لنا العزى ولا عزى لكم". فقال رسول الله r :" قولوا الله مولانا ولا مولى لكم"
    ([12]).
    وروى النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال:"لما فتح رسول الله r مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة - وكانت بها العزى ، وكانت على ثلاث سمرات - فقطع السمرات، وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النبي r فأخبره فقال:ارجع فإنك لم تصنع شيئا، فرجع خالد، فلما أبصرته السدنة أمعنوا في الجبل وهم يقولون:يا عزى يا عزى، فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعمها بالسيف فقتلها ثم رجع إلى رسول الله r فأخبره فقال:تلك العزى. قال أبو صالح:كانوا يعلقون عليها السيور والعهن رواه عبد بن حميد وابن جرير.
    قلت:وكل هذا وما هو أعظم منه يقع في هذه الأزمنة عند ضرائح الأموات وفي المشاهد وأما مناة. فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة، وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج . وأصل اشتقاقها:من اسم الله المنان، وقيل:لكثرة ما يمنى- أي يراق- عندها من الدماء للتبرك بها.
    قال البخاري-رحمه الله- في حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها إنها صنم بين مكة والمدينة قال ابن هشام:" فبعث رسول الله r عليا فهدمها عام الفتح". فمعنى الآية كما قال القرطبي:أن فيها حذفا تقديره أفرأيتم هذه الآلهة أنفعت أو ضرت، حتى تكون شركاء لله تعالى.
    يقول_الله تعالى_:للمشركين الذين يعبدون الأصنام وفي مقدمتها الأصنام الثلاثة المشهورة عند العرب:اللات والعُزَّى ومَنَاة هل تنفع هذه الأصنام أو تضر؟ فيقول:{أَفَرَأَي ْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} هل نفعتكم؟ هل دفعت عنكم الضرر؟ هل جلبت لكم شيئاً من الرزق؟ فلا يستطيعون الجواب بأنها تضر أو تنفع لم تنفعهم في بدر وغيرها من الغزوات ولم تدفع عنهم ما أوقع الله بهم من الهزائم ما أجابوا عن هذا السؤال العظيم؛ فدلّ على انقطاع حجتهم.
    وهكذا في كل أسئلة القرآن الكريم التي هي من باب التحدِّي والتعجيز، لم يصدر لها جواب من قبل المشركين، ولن يصدر لها جواب إلى أن تقوم الساعة
    ([13]).

    ومطابقة الآيات للترجمة: من جهة أن عباد هذه الأوثان إنما كانوا يعتقدون حصول البركة معها بتعظيمها ودعائها والاستعانة بها والاعتماد عليها في حصول ما يرجونه منها ويؤملونه ببركاتها وشفاعتها وغير ذلك فالتبرك بقبور الصالحين كاللات، وبالأشجار كالعزى ومناة من فعل جملة أولئك المشركين مع تلك الأوثان، فمن فعل مثل ذلك واعتقد في قبر أو حجر أو شجر فقد ضاهى عباد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك على أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك فالله المستعان([14]).

    قوله: (خرجنا مع رسول الله r إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر......) الحديث.
    يعني:أن إسلامهم كان جديداً متأخراً، وهو يريد بذلك بيان العذر مما وقع منهم، أنهم كانوا جُهّالاً لم يتفقّهوا كما كان الصحابة الذين مع الرسول_صلى الله عليه وسلم_ فقهاء عرفوا العقيدة ودرسوها، لكن هؤلاء أسلموا قريباً، ولم يتمكّنوا من التفقّه في العقيدة، وكانوا آلفين لأشياء من دين الجاهلية، لم يتخلّصوا منها بعد, قال العلماء:فهذا فيه دليل على أن الإنسان إذا عاش في بيئة فاسدة ثم انتقل منها؛ أنه قد يبقى في نفسه منها شيء فهذا كان في بيئة شركية وأسلم قريباً.
    وهذا دليل على آفة الجهل وأن الإنسان قد يقع في الشرك بسبب الجهل وفيه الحث على تعلم العقيدة ومعرفتها والتبصّر فيها خشية أن يقع الإنسان في مثل ما وقع فيه هؤلاء فالذين ينادون اليوم بتهوين أمر العقيدة ويقولون:لماذا يدرسون العقيدة وهم مسلمون؟ يا سبحان الله المسلم هو أولى بدراسة العقيدة من أجل أن يصحِّح إسلامه، ومن أجل أن يحفظ دينه هؤلاء مسلمون ومع هذا وقعوا في هذه القضية بسبب أنهم لم يتعلموا، ففي هذا دليل على وجوب تعلم العقيدة الصحيحة، ووجوب تعلّم ما يضادها من الشرك والبدع والخرافات حتى يكون الإنسان على حذر منها وما أوقع اليوم عُبّاد الأضرحة- أو كثير منهم- في عبادة القبور إلاَّ بسبب الجهل، ويظنون أن هذه من الإسلام، فهذه مصيبة عظيمة (
    [15]).

    قوله: ( قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة).
    شبه مقالتهم هذه بقول بني إسرائيل بجامع أن كلا طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله وإن اختلف اللفظان فالمعنى واحد، فتغيير الاسم لا يغير الحقيقة.


    ففيه الخوف من الشرك ([16]) وأن الإنسان قد يستحسن شيئا يظن أنه يقربه إلى الله، وهو أبعد ما يبعده من رحمته ويقربه من سخطه، ولا يعرف هذا على الحقيقة إلا من عرف ما وقع في هذه الأزمان من كثير من العلماء والعباد مع أرباب القبور من الغلو فيها وصرف جل العبادة لها، ويحسبون أنهم على شيء وهو الذنب الذي لا يغفره الله.
    قال الحافظ أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعي المعروف بابن أبي شامة في كتاب البدع والحوادث:"ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وإسراج مواضع مخصوصة في كل بلد، يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم لفرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لها وهي من عيون وشجر وحائط وحجر...". وفي هذه الجملة من الفوائد:أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك ولا يغتر بالعوام والطغام ولا يستبعد كون الشرك بالله تعالى يقع في هذه الأمة.
    فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا،وطلبوه من النبي_صلى الله عليه وسلم_ حتى بين لهم أن ذلك كقول بني إسرائيل:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} فكيف لا يخفى على من دونهم في العلم والفضل بأضعاف مضاعفة مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة؟! بل خفي عليهم عظائم الشرك في الإلهية والربويية فأكبروا فعله واتخذوه قرب
    ة ([17]) .
    قوله:( قال إنكم قوم تجهلون......) الخ أي:السبب الذي أوقعكم في هذا هو الجهل بالتّوحيد، وهذا- كما ذكرنا- يُوجب على المسلمين أن يتعلموا العقيدة ولا يكتفوا بقولهم:نحن مسلمون نحن في بلاد إسلام نحن في بيئة إسلامية، كما يقوله الجهال أو الذين يُثَبِّطون عن تعلّم العقيدة.
    ففيه آفة الجهل وان الجهل قد يوقع في الكفر بالله عزّ وجلّ وهذه خطورة عظيمة ولا يُنجّي من هذا الجهل إلاَّ تعلّم العقيدة الصحيحة،والتأكّ ُد منها وتدريسها وتكرارها على الناس وتعليمها للناس ونشرها بكل وسيلة في المساجد وفي المدارس وفي وسائل الإعلام وفي المجالس وفي البيوت"
    ([18]).

    فيه مسائل:
    الأولى:تفسير آية النجم.
    الثانية:معرفة صورة الأمر الذي طلبوا.
    الثالثة:كونهم لم يفعلوا.
    الرابعة:كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه.
    الخامسة:أنهم جهلوا هذا ؛ فغيرهم أولى بالجهل.
    السادسة:أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم.
    السابعة:أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم بل رد عليهم بقوله:« الله أكبر إنها السنن لتتبعن سَنَن من كان قبلكم » فغلّظ الأمر بهذه الثلاث.
    الثامنة:الأمر الكبير - وهو المقصود - :أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا}.
    التاسعة:أن نفي هذا من معنى: ( لا إله إلا الله ) مع دقته وخفائه على أولئك.
    العاشرة:أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
    الحادية عشرة:أن الشرك فيه أكبر وأصغر ، لأنهم لم يرتدوا بهذا.
    الثانية عشرة:قولهم ( ونحن حدثاء عهد بكفر ) فيه:أن غيرهم لا يجهل ذلك.
    الثالثة عشرة:التكبير عند التعجب خلافا لمن كرهه.
    الرابعة عشرة:سد الذرائع.
    الخامسة عشرة:النهي عن التشبه بأهل الجاهلية.
    السادسة عشرة:الغضب عند التعليم.
    السابعة عشرة:القاعدة الكلية لقوله: « إنها السنن ».
    الثامنة عشرة:أن هذا عَلَم من أعلام النبوة ، لكونه وقع كما أخبر.
    التاسعة عشرة : أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
    العشرون:أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيه التنبيه على مسائل القبر أما من ربك ؟ فواضح وأما من نبيك؟ فمن إخباره بأنباء الغيب وأما ما دينك؟ فمن قولهم: (اجعل لنا) إلى آخره.
    الحادية والعشرون:أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين.
    الثانية والعشرون:أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يُؤْمَن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة ، لقولهم:ونحن حدثاء عهد بكفر.




    ([1]) أخرجه أحمد (21897) والنسائي في الكبرى (11185) و الترمذي : (2181) وقال : حديث حسن صحيح . وصححه الألباني.
    ([2]) " إعانة المستفيد " (ج 1_ ص 155) .
    ([3]) " القول المفيد " (ج1_ ص194) .
    ([4]) انظر لسان العرب : ( ج10_ ص397) و التمهيد: (ص126) .
    ([5]) أخرجه البخاري ( 1597 ) و(1605) و( 1610 ) ومسلم (1270) .
    ([6]) أخرجه مسلم ( 1305 ) والبخاري (170) و(171) .
    ([7]) أخرجه البخاري ( 2731 ) و( 2732 ) .
    ([8]) أخرجه البخاري رقم: (5444) .
    ([9]) أخرجه البخاري (334) و(336) و(3672) و(3773) و(4583) و(4607) و(4608) و(5164) و(5250) و(5882) و(6844) و(6845) وقوله : ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر . إنما هو قول أسيد بن حضير وليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم .
    ([10]) انظر التمهيد: (ص127) .
    ([11]) القول المفيد: ( ج1_ ص 196) .
    ([12]) رواه أحمد ( 4/293), ورواه البخاري في مواضع من صحيحه ( 3039_3986_4043_4067_4561) .
    ([13]) إعانة المستفيد: ( ج1_ ص 156).
    ([14]) انظر فتح المجيد (ص155_ص 158) وانظر القول المفيد: (ج1_ص 200).
    ([15]) إعانة المستفيد: ( ج1_ ص 159 ).
    ([16]) ولهذا جاء المؤلف بباب ( الخوف من الشرك ) وهو الباب الثالث.
    ([17]) انظر فتح المجيد:(ص 160).
    ([18]) انظر إعانة المستفيد: ( ج1_ ص161 ).

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  6. #26

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    (9)
    باب
    ما جاء في الذبح لغير الله

    وقول الله تعالى:{ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ }.( الأنعام:162). وقال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } (الكوثر:2) .

    وعن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ بأربع كلمات:" لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه،لعن الله من آوى محدثا،لعن الله من غير منار الأرض" رواه مسلم
    ([1]).

    وعن طارق بن شهاب أن رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ قال:"دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب قالوا:وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال:مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا،فقالوا لأحدهما قرّب،قال:ليس عندي شيء أقرّب،قالوا له:قرّب ولو ذبابا ،فقرّب ذبابا،فخلوا سبيله فدخل النار،وقالوا للآخر: قرّب، فقال:ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله- عز وجل- فضربوا عنقه فدخل الجنة" رواه أحمد
    ([2]).

    الشرح :

    هذا الباب كالأبواب التي قبله في بيان أنواع من الشرك التي يمارسها بعض الناس في مختلف الأزمان، من عهد الجاهلية، ولا تزال مستمرَّة، وذلك من أجل أن يتميّز الخبيث من الطيّب، ولله الحكمة سبحانه وتعالى في بقاء هذا الشرك والكفر؛ من أجل أن يتميّز الخبيث من الطيّب، والموحِّد من المشرك، والمهتدي من الضال:{لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً}، ولكن لو هداهم جميعاً لم تكن هناك مِيزَة لأحد على أحد، ولكن اقْتَضَتْ حكمته سبحانه أن يُجري الامتحان من أجل أن يتميّز الخبيث من الطيّب([3]).

    قوله:(ما جاء في الذبح ......) أي: من الوعيد وأنه شرك وصاحبه ملعون.
    قوله: (لغير الله ),اللام للتعليل، والقصد:أي قاصداً بذبحه غير الله، والذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:
    · أن يذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً، فهذا شرك أكبر مخرج عن الملة.
    · أن يذبح لغير الله فرحاً وإكراماً، فهذا لا يخرج من الملة، بل هو من الأمور العادية التي قد تكون مطلوبة أحياناً وغير مطلوبة أحياناً، فالأصل أنها مباحة.

    ومراد المؤلف هنا القسم الأول والذبح:هو إراقة الدم تعبدا لله. وبكسر الدال:هو ما يذبح ([4]). والذبح يقع على أربعة جهات:
    * أن يذبح باسم الله لله ، فهذا هو التوحيد.
    * أن يذبح باسم الله لغير الله ، وهذا شرك في العبادة.
    * أن يذبح باسم غير الله لغير الله ، وهذا شرك في الاستعانة ، وشرك في العبادة أيضا.
    *أن يذبح بغير اسم الله ويجعل الذبيحة لله ، فهذا شرك في الربوبية
    ([5]).

    قال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:{وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} ظاهره:أنه ما ذبح لغير الله، مثل أن يقول: هذا ذبيحة لكذا. وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ، وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه: باسم المسيح أو نحوه. كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله كان أذكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: بسم الله.
    فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة، فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى؛ فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله، وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم وإن قال فيه باسم الله، كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين يتقربون إلى الكواكب بالذبح والبخور ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال. لكن يجتمع في الذبيحة مانعان:
    الأول: أنه مما أهل به لغير الله.
    والثاني: أنها ذبيحة مرتد.
    ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي_صلى الله عليه وسلم_:" أنه نهى عن ذبائح الجن"
    ([6]). قال الزمخشري:"كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك". وذكر إبراهيم المروزي: أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه، أفتى أهل بخارى بتحريمه; لأنه مما أهل به لغير الله([7]).

    قوله: ( قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي ...الخ ).
    مناسبة الآية للترجمة: أن الله تعالى تعبد عباده بأن يتقربوا إليه بالنسك، كما تعبدهم بالصلاة وغيرها من أنواع العبادات؛ فإن الله تعالى أمرهم أن يخلصوا جميع أنواع العبادة له دون كل ما سواه، فإذا تقربوا إلى غير الله بالذبح أو غيره من أنواع العبادة، فقد جعلوا لله شريكا في عبادته، ظاهر في قوله:{لا شَرِيكَ لَهُ} نفى أن يكون الله تعالى شريك في هذه العبادات، وهو بحمد الله واضح .
    وقَرْن النُّسُك بالصلاة يدلّ على أنه عبادة عظيمة، لا يجوز صرفها لغير الله، والنسك قد تساهل فيه كثير من الناس فصاروا يذبحون للجن طاعة للمُشَعْوِذِين من أجل العلاج بزعمهم.
    قال ابن كثير: "يأمره الله تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله وبذبحون له: بأنه أخلص لله صلاته وذبيحته؛ لأن المشركين يعبدون الأصنام ويذبحون لها، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.
    قال مجاهد: النسك الذبح في الحج والعمرة. وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير: ونسكي ذبحي, وكذا قال الضحاك"
    ([8]).

    قوله:( فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ). قال شيخ الإسلام رحمه _الله تعالى_:" أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْن ِ الْعَظِيمَتَيْن ِ وَهُمَا الصَّلَاةُ وَالنُّسُكُ الدَّالَّتَانِ عَلَى الْقُرْبِ وَالتَّوَاضُعِ وَالِافْتِقَارِ وَحُسْنِ الظَّنِّ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَى اللَّهِ وَإِلَى عُدَّتِهِ وَأَمْرِهِ وَفَضْلِهِ وَخُلْفِهِ عَكْسُ حَالِ أَهْلِ الْكِبْرِ وَالنُّفْرَةِ وَأَهْلِ الْغِنَى عَنْ اللَّهِ الَّذِينَ لَا حَاجَةَ فِي صَلَاتِهِمْ إلَى رَبِّهِمْ يَسْأَلُونَهُ إيَّاهَا وَاَلَّذِينَ لَا يَنْحَرُونَ لَهُ خَوْفًا مِنْ الْفَقْرِ وَتَرْكًا لِإِعَانَةِ الْفُقَرَاءِ وَإِعْطَائِهِمْ وَسُوءِ الظَّنِّ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا. فِي قَوْله تَعَالَى {قُلْ إنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وَالنُّسُكُ هِيَ الذَّبِيحَةُ ابْتِغَاءَ وَجْهِهِ.

    وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الصَّلَاةَ وَالنُّسُك هُمَا أَجَلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ أَتَى فِيهِمَا بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى السَّبَبِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالنَّحْرُ سَبَبٌ لِلْقِيَامِ بِشُكْرِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاهُ مِنْ الْكَوْثَرِ وَالْخَيْرِ الْكَثِيرِ فَشُكْرُ الْمُنْعِمِ عَلَيْهِ وَعِبَادَتُهُ أَعْظَمُهَا هَاتَانِ الْعِبَادَتَانِ بَلْ الصَّلَاةُ نِهَايَةُ الْعِبَادَاتِ وَغَايَةُ الْغَايَاتِ.كَأ نَّهُ يَقُولُ: {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} الْخَيْرَ الْكَثِيرَ وَأَنْعَمْنَا عَلَيْك بِذَلِكَ لِأَجْلِ قِيَامِك لَنَا بِهَاتَيْنِ الْعِبَادَتَيْن ِ شُكْرًا لِإِنْعَامِنَا عَلَيْك وَهُمَا السَّبَبُ لِإِنْعَامِنَا عَلَيْك بِذَلِكَ فَقُمْ لَنَا بِهِمَا فَإِنَّ الصَّلَاةَ وَالنَّحْرَ مَحْفُوفَانِ بِإِنْعَامِ قَبْلِهِمَا وَإِنْعَامٍ بَعْدِهِمَا.

    وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ النَّحْرُ وَأَجَلُّ الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الصَّلَاةُ وَمَا يَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَجْتَمِعُ لَهُ فِي غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ كَمَا عَرَفَهُ أَرْبَابُ الْقُلُوبِ الْحَيَّةِ وَأَصْحَابُ الْهِمَمِ الْعَالِيَةِ وَمَا يَجْتَمِعُ لَهُ فِي نَحْرِهِ مِنْ إيثَارِ اللَّهِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ وَقُوَّةِ الْيَقِينِ وَالْوُثُوقِ بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ أَمْرٌ عَجِيبٌ إذَا قَارَنَ ذَلِكَ الْإِيمَانَ وَالْإِخْلَاصَ وَقَدْ امْتَثَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَ رَبِّهِ فَكَانَ كَثِيرَ الصَّلَاةِ لِرَبِّهِ كَثِيرَ النَّحْرِ حَتَّى نَحَرَ بِيَدِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً وَكَانَ يَنْحَرُ فِي الْأَعْيَادِ وَغَيْرِهَا" ([9]).

    قوله: (لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه....)الحديث.
    عن أبي طفيل قال: قلنا لعلي: أخبرنا بشيء أسره إليك رسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ فقال: ما أسر إلي شيئا كتمه الناس; ولكن سمعته يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الأرض، يعنى المنار"
    ([10]).
    اللعن: هو الطرد والإبعاد من رحمة الله جل وعلا
    ([11]).وهذا اللعن على سبيل العموم وأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان:
    أحدهما: أنه جائز. اختاره ابن الجوزي وغيره.
    والثاني: لا يجوز. اختاره أبو بكر عبد العزيز وشيخ الإسلام.

    قال النووي رحمه _الله تعالى_ :"واتفق العلماء على تحريم اللعن فانه فى اللغة الإبعاد والطرد وفى الشرع الإبعاد من رحمة الله تعالى فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله تعالى من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية فلهذا قالوا لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو كافرا أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس وأما اللعن بالوصف فليس بحرام كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله والمصورين والظالمين والفاسقين والكافرين ولعن من غير منار الأرض ومن تولى غير مواليه ومن انتسب إلى غير أبيه ومن أحدث في الإسلام حدثا أو آوى محدثا وغير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاقه على الأوصاف لأعلى الأعيان والله اعلم" ([12]).

    والمسلم لا يجوز أن يكون لعّاناً، ولا سبّاباً، ولا بذيئاً، المسلم يجب أن يكون مؤدباً، ويتكلم بالكلام الطيّب:{وَقُولُو ا لِلنَّاسِ حُسْناً} {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، هكذا ينبغي للمسلم أنه يحفظ لسانه عن القول البذيء، ولاسيّما إذا كان هذا القول من أقبح الكلام كاللعن والسبّ والشتم، حتى البهائم والدواب والدُّور والمساكن لا يجوز لعنها، فقد لعنت امرأة ناقة لها وهي تسير مع النبي _صلى الله عليه وسلم_، فأمر النبي _صلى الله عليه وسلم_ بأخذ ما على الناقة وتركها تمشي، لا يتعرّض لها أحد، من باب التأديب والتعزير فلا يجوز لعن الآدميين، ولا لعن الدواب، ولا لعن المساكن، أو السيارات، أو غير ذلك.
    فالحاصل: أن قوله سبحانه:{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} وقوله:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} وقول الرسول :"لعن الله من ذبح لغير الله". يشمل كل هذه الأمور:
    1- ما ذُبح للأصنام تقرّباً إليها.
    2- ما ذُبح للحم وذكر عليه اسم غير الله سبحانه وتعالى.
    3- ما ذُبح تعظيماً لمخلوق وتحيّة له عند نزوله ووصوله إلى المكان الذي تستقبل فيه.
    4- ما ذُبح عند انحباس المطر في مكان معين أو عند قبر لأجل نزول المطر.
    5- ما يُذبح عند نزول البيوت خوفاً من الجن أن تصيبه، كل هذا يدخل في الذبح لغير الله، ويكون شركاً بالله سبحانه وتعالى
    ([13]).

    قوله: (وعن طارق بن شهاب أن رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ قال:" دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب .....الحديث ).
    فقالوا لأحدهما: قرّب، قال: ليس عندي شيء أقرِّبه اعتذر بالعدم، ولم يقل:إن الذبح لغير الله لا يجوز، أو هذا منكر- والعياذ بالله-، وهذا يدلّ على أنه لو كان عنده شيء لقربه. قالوا له: قرِّب ولو ذباباً فقرب ذباباً، يعني: اذبحه للصنم، فقرِّب ذباباً فخلوا سبيله سمحوا له بالمرور، فدخل النار بسبب الشرك، وأنه ذبح لغير الله، والعبرة بالنيّة والقصد لا بالمذبوح. والقصد أنه ما استنكر هذا الشيء، ولا تمنع منه، وإنما اعتذر بعدم وجود شيء فلذلك دخل النار- والعياذ بالله.
    وقالوا للآخر: قرِّب ؟ فقال: ما كنت لأقرِّب لأحد شيئاً دون الله عزّ وجلّ. امتنع وأنكر الشرك، فضربوا عنقه يعني: قتلوه، فدخل الجنة, بسبب التّوحيد, فهذا الحديث حديث عظيم، فيه مسائل عظيمة:
    المسألة الأولى: هذا الحديث فيه جواز الإخبار عن الأمم السابقة، والتحدّث عنها بما ثبت لأجل العظة والعبرة.
    المسألة الثانية: في الحديث دليل على تحريم الذبح لغير الله، ومن ذبح لغير الله فقد أشرك، لأن هذا الرجل الذي ذبح الذباب دخل النار، وحتى لو كان المذبوح شيئاً تافهاً، والرجل الثاني عظّم الشرك، وتجنبه ولو كان شيئاً حقيراً، فدخل الجنة.
    المسألة الثالثة: كما قال الشيخ رحمه الله في مسائله: أن المدار على أعمال القلوب، وإن كان الشيء الظاهر تافهاً، لكن المدار على عمل القلب.
    المسألة الرابعة: فيه دليل- كما قال الشيخ _رحمه الله- على قُرب الجنة والنار من الإنسان، كما قال_ صلى الله عليه وسلم_ :"الجنة أقرب إلى أحدكم من شِراك نعله، والنار مثل ذلك". هذا ضربوا عنقه فدخل الجنة، وذاك خلو سبيله فدخل النار.
    المسألة الخامسة: أن هذا الرجل الذي ذبح الذباب كان مؤمناً، فدخل النار بذبحه الذباب، لأنه لو كان كافراً لدخل النار بكفره، لا بذبح الذباب، فدلّ على أنه كان مؤمناً، وهذه مسألة خطيرة جدًّا، فأين الذين يذبحون للقبور وللجن،وللشياطين ،وللعفاريت، وللسخرة؟، فدلّ على أن الشرك الأكبر يخرج من الملة ولو كان شيئاً يسيراً، فأمور التّوحيد وأمور العقيدة لا يُتسامح فيها
    ([14]).

    فيه مسائل:
    الأولى:تفسير {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي} [الأنعام: 162].
    الثانية:تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2].
    الثالثة:البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
    الرابعة:لعن من لعن والديه، ومنه أن تعلن والدي الرجل فيلعن والديك.
    الخامسة:لعن من آوى محدثا، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق لله، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك.
    السادسة:لعن من غير منار الأرض وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
    السابعة:الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
    الثامنة:هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
    التاسعة:كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم.
    العاشرة:معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين؛ كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر!
    الحادية عشرة:أن الذي دخل النار مسلم،لأنه لو كان كافرا لم يقل:"دخل النار في ذباب ".
    الثانية عشرة:فيه شاهد للحديث الصحيح:«الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك».
    الثالثة عشرة:معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأوثان.





    ([1]) أخرجه مسلم (1978) .

    ([2]) أخرجه أحمد في الزهد (ص15) وأخرجه أبو نعيم في الحلية: (1 / 203 ) والبيهقي في شعب الإيمان:( 5/485 رقم 7343). موقوفا على سلمان الفارسي رضي الله عنه بسند صحيح. وأورده ابن القيم مرفوعاً في الجواب الكافي: (ص52) والصحيح الوقف وقال بعض أهل العلم ليس له حكم الرفع لأن في متنه نكارة .
    ([3]) انظر إعانة المستفيد:(ص164).
    ([4]) ينظر مختار الصحاح:(ص92).
    ([5]) انظر التمهيد لزاماً: (ص140), والقول المفيد على كتاب التوحيد:(ج 1_ص214).
    ([6]) أخرجه ابن الجوزي في الموضوعات:(2/302) من حديث أبي هريرة وقال: فيه عبد الله بن أذينة وذكره الذهبي في الميزان:(2/391) معزوا لابن حبان وأخرجه البيهقي في السنن (9/314) مرسلا. وضعفه الشوكاني في الفوائد المجموعة والألباني في الروضة الندية.
    ([7]) انظر فتح المجيد: ( 167) ,والتمهيد لشرح كتاب التوحيد ( ص141).
    ([8]) انظر فتح المجيد (ص166).
    ([9]) مجموع الفتاوى : (ج16_ص531) وانظر فتح المجيد (ص167).
    ([10]) رواه الإمام أحمد: (1/108) والإمام مسلم .
    ([11]) انظر مختار الصحاح: ( ص250).
    ([12]) المنهاج شرح صحيح مسلم ابن الحجاج : (ج2_ص67) وانظر فتح المجيد (171).
    ([13]) انظر إعانة المستفيد: (ص169).
    ([14]) انظر إعانة المسفيد :(ص172).

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  7. #27
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    للرفع
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  8. #28

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    (10)

    باب

    لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله

    وقوله تعالى :{ لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِين َ } (التوبة:108) .
    وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال:" نذر رجل أن يذبح إبلا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا : لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا قال:" أوف بنذرك فإنه لا وفاء بنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم " رواه أبو داود(
    [1]) وإسناده على شرطهما .

    الشرح :

    هذا الانتقال من المؤلف من أحسن ما يكون، ففي الباب السابق ذكر الذبح لغير الله، فنفس الفعل لغير الله, وفي هذا الباب ذكر الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره، كمن يريد أن يضحي لله في مكان يذبح فيه للأصنام، فلا يجوز أن تذبح فيه، لأنه موافقة للمشركين في ظاهر الحال، وربما أدخل الشيطان في قلبك نية سيئة، فتعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر. وهذا الباب تابعٌ للباب الذي قبله؛ لأن الباب الذي قبله: ( ما جاء في الذبح لغير الله ). يعني: أنه محرَّمٌ وأنه شرك، وهذا الباب فيه سدُّ الذريعة المُفْضية إلى الذبح لغير الله([2]).

    وقوله:( لا يذبحُ لله في مكان يذبح فيه لغير الله ). لأن الذبح في هذا المكان وإن كان لله عزّ وجلّ، فإنه وسيلة إلى الشرك، وكذلك في الذبح في هذا المكان تعظيم له ومشابهة للمشركين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسائل المُفْضية إلى الشرك، مثل: نهيه عن الصلاة إلى القُبور وإنْ كان المصلي لا يصلي إلاَّ لله عزّ وجلّ، ونهي عن الدعاء عند القُبور وإن كان الداعي لا يدعو إلاَّ الله وحده، لكن هذا المكان لا يصلُح التعبد لله فيه، لأنه وسيلةٌ إلى الشرك([3]).

    وجه المناسبة من الآية:
    أنه لما كان مسجد الضرار مما اتخذ للمعاصي ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، نهى الله ورسوله أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله، فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، مع أن صلاته فيه لله، فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، فهذا المسجد متخذ للصلاة، لكنه محل معصية، فلا تقام فيه الصلاة. وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله كان حراماً، لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار.
    وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، لأنهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس، فهذا باعتبار الزمن والوقت والحديث الذي ذكره المؤلف باعتبار المكان.

    وقول الله تعالى:{لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} قال المفسرون: إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار، والأمة تبع له في ذلك، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله صلي الله عليه وسلم وجمعا لكلمة المؤمنين، ومعقلا ومنزلا للإسلام وأهله، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال:" صلاة في مسجد قباء كعمرة ". وفي الصحيح:" أن رسول الله صلى_ الله عليه وسلم_ كان يزور قباء راكبا وماشيا ". وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وعروة; وعطية، والشعبي، والحسن وغيرهم.
    قلت: ويؤيده قوله في الآية:{فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا} وقيل: هو مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ لحديث أبي سعيد قال: " تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء. وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: هو مسجدي هذا " رواه مسلم، وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم.

    قال ابن كثير: وهذا صحيح. ولا منافاة بين الآية والحديث؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ بطريق أولى، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى:{وَالَّذِي نَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}. فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة. وكان الذين بنوه جاءوا إلى النبي _صلى الله عليه وسلم_ قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية، فقال: " إنا على سفر; ولكن إذا رجعنا - إن شاء الله - فلما قفل - عليه السلام - راجعا إلى المدينة; ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة([4]).

    قال العلامة صالح الفوزان _حفظه الله تعالى_: ففي هذه الآيات: أن النّيات تؤثِّر في الأمْكنة والمباني، النيّات الخبيثة تؤثر في الأمكنة والبِقاع خبثاً، والنيّات الصالحة تؤثِّر فيها بركة وخيراً. ففيها: الحث على إصلاح المقاصد.
    وفيها: دليلٌ على أن الاعتبار بالمقاصد لا بالمظاهر؛ هؤلاء بنوا مسجداً في الظاهر، ولكن ليس مقصودهم المسجد، فدلّ على أن ما كل من أظهر الصلاح يُقبَل منه حتى تُعرف حقيقته وفيه: التنبيه على خِداع المخادِعين، وأن يكون المؤمنون على حذر دائماً من المشبوهين ومن تضليلهم، وأنهم قد يتظاهرون بالصلاح، ويتظاهرون بالمشاريع الخيرية، ولكن ما دامت سوابقهم وما دامت، تصرُّفاتهم تشهد بكذبهم فإنه لا يُقبل منهم، ولا ننخدع بالمظاهر دون نظر إلى المقاصد وإلى ما يترتب -ولو على المدى البعيد- على هذه المظاهر. ففيه: تنبيه المسلمين إلى الحذر في كل زمان ومكان من تضليل المشبوهين، وأن كل من تظاهر بالخير والصلاح والمشاريع الخيرية لا يكون صالحاً، إلاَّ من لم يكن له سوابق في الإجرام، ولم يُعرف عنه إلاَّ الخير؛ فهذا يُقبل منه، لكن من كان معروفاً بالسوابِق السيِّئة والمكائد الخبيثة، أو يظهر عليه أو على فلتات لسانه أو على كَلامه شيء؛ فإننا نأخذ الحذر منه ولا ننخدع، لأنّ الله جل وعلا نهى رسوله أن يصليَ في مكان أُعِدَّ للمعصية، فدلّ هذا على أنه لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله، كما لا يصلى لله في مكان أُعِدَّ للمعصية والكفر، كذلك لا يُذبح لله في مكان أُعِدَ للمعصية. وقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} هو مسجد قباء لصلاح نية أهله رضي الله عنهم(
    [5]).

    وقال العلامة السعدي رحمه _ الله تعالى _: وفي هذه الآيات فوائد عدة:
    منها: أن اتخاذ المسجد الذي يقصد به الضرار لمسجد آخر بقربه، أنه محرم، وأنه يجب هدم مسجد الضرار، الذي اطلع على مقصود أصحابه.
    ومنها: أن العمل وإن كان فاضلا تغيره النية، فينقلب منهيا عنه، كما قلبت نية أصحاب مسجد الضرار عملهم إلى ما ترى.
    ومنها: أن كل حالة يحصل بها التفريق بين المؤمنين، فإنها من المعاصي التي يتعين تركها وإزالتها. كما أن كل حالة يحصل بها جمع المؤمنين وائتلافهم، يتعين اتباعها والأمر بها والحث عليها، لأن الله علل اتخاذهم لمسجد الضرار بهذا المقصد الموجب للنهي عنه، كما يوجب ذلك الكفر والمحاربة لله ورسوله.
    ومنها: النهي عن الصلاة في أماكن المعصية، والبعد عنها، وعن قربها.
    ومنها: أن المعصية تؤثر في البقاع، كما أثرت معصية المنافقين في مسجد الضرار، ونهي عن القيام فيه، وكذلك الطاعة تؤثر في الأماكن كما أثرت في مسجد: ( قباء ) حتى قال الله فيه:{لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}. ولهذا كان لمسجد قباء من الفضل ما ليس لغيره، حتى كان _صلى الله عليه وسلم_ يزور قباء كل سبت يصلي فيه، وحث على الصلاة فيه.
    ومنها: أنه يستفاد من هذه التعاليل المذكورة في الآية، أربع قواعد مهمة، وهي:
    1_ كل عمل فيه مضارة لمسلم، أو فيه معصية لله، فإن المعاصي من فروع الكفر، أو فيه تفريق بين المؤمنين، أو فيه معاونة لمن عادى الله ورسوله، فإنه محرم ممنوع منه، وعكسه بعكسه.
    2_ ومنها: أن الأعمال الحسية الناشئة عن معصية الله لا تزال مبعدة لفاعلها عن الله بمنزلة الإصرار على المعصية حتى يزيلها ويتوب منها توبة تامة بحيث يتقطع قلبه من الندم والحسرات.
    3_ ومنها: أنه إذا كان مسجد قباء مسجدا أسس على التقوى، فمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أسسه بيده المباركة وعمل فيه واختاره الله له من باب أولى وأحرى.
    4_ ومنها: أن العمل المبني على الإخلاص والمتابعة، هو العمل المؤسس على التقوى، الموصل لعامله إلى جنات النعيم. والعمل المبني على سوء القصد وعلى البدع والضلال، هو العمل المؤسس على شفا جرف هار، فانهار به في نار جهنم، والله لا يهدي القوم الظالمين(
    [6]).

    قوله:وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال( نذر رجل أن يذبح إبلا ببوانة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ ....)الحديث.
    النذر في اللغة هو: الالتزام- يقال: نذر كذا إذا التزمه، ونذر دم فلان بمعنى أنه التزم أن يقتله. وأما في الشرع: فالنذر معناه:" إلزام المكلَّف نفسه طاعة لله لم تجب عليه بأصل الشرع" من صلاة وصيام وحجٍّ وعمرة وصدقة وغير ذلك.
    والنذر -في الأصل- غير مشروع، ولا يُستحب للإنسان أنه ينذر لنهيه _صلى الله عليه وسلم_ عن النذر وقال:" إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يُستخرج به من البخيل" وفي رواية: "لا تنذروا- بالنهي- "فإن النذر لا يأتي بخير"، فما دام الإنسان على السَّعَة فإنه لا ينبغي له أن ينذر ليكون في سَعة، إنْ أراد أن يتعبّد ويأتي بالطاعة أتى بها، وإلاّ فليست لازمة له، ولكنه إذا نذر ورَّط نفسه، ووجب عليه الوفاء بالنذر، قال تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}، وقال تعالى:{وَلْيُوفُ وا نُذُورَهُمْ}، قال تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}، وقال _صلى الله عليه وسلم_: "من نذر أن يطيع الله فليطعه".
    قوله: ( أن ينحر إبلاً ) النحر معناه: ذبح الإبل في النحر -وهو اللَّبَّة-، يقال: نحر البعير، وذبح الشاة والبقرة. فالنحر خاصٌّ بالإبل، وأما الذبح فيكون لغير الإبل.
    قوله: ( ببُوانة ) (بُوانة) اسم موضع بين مكة والمدينة، قيل:إن قريبٌ من مكة عند (السعديّة) التي هي (يَلَمْلَم) ميقات أهل اليمن، وقيل إنه قريبٌ من المدينة عند (ينبع). فالحاصل؛ أنه اسم موضع بين مكة والمدينة.
    قوله: (فسَأل النبي صلى الله عليه وسلم). فيه دليل: على الرجوع إلى أهل العلم، وأن الإنسان لا يقدِم على شيء من العبادات حتى يعرف هل هو مشروع أو غير مشروع؟
    قوله: ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها وَثنٌ من أوثان الجاهلية يعبد؟ ), يعني: هل كان في هذا المكان - ببُوانة- وثن من أوثان الجاهلية يُعبد، يعني: وأُزيل الآن.
    والوثن: كل ما عُبد من دون الله من حجر ومن شجر أو صورة أو قبر، أما الصنم فهو خاصٌّ بما كان على صورة, فهذا فيه: دليلٌ على أنّ الصنم ولو زال وأن الوثن ولو زال من المكان أنّ هذا المكان يُترك ولا يُذبح فيه، لأنه قال: ( هل كان فيها؟ )، يعني: في الزمان الماضي؛ فدلّ على أنّ مكان الوثن يجب أن يُهجَر قال تعالى:{وَالرُّجْ زَ فَاهْجُرْ} الرجز الأصنام وهجرها: تركها وترك المكان الذي كانت فيه.
    وفيه التثبت في الفتوى؛ لأن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ تثبّت قبل الفتوى؛ وبعض الناس يتسرّع في الفتوى مباشرة قبل أن يكمِّل السائل السؤال أو قبل أن يعرف مقصده.

    فهذا الحديث يدلُّ على مسائل عظيمة:
    المسألة الأولى: أنّ الذبح عبادة لا تجوز لغير الله.
    المسألة الثانية: فيه مشروعية الرجوع إلى أهل العلم وسؤال أهل العلم؛ لأن هذا الرجل لم يُقدِم على تنفيذ النذر إلاَّ بعد أن سأل النبي صلى الله عليه وسلم.
    المسألة الثالثة: في الحديث دليل على مشروعية تثبُّت المفتي من حال السائل، ومقاصده قبل إصدار الفتوى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تثبّت قبل الفتوى؛ وبعض الناس يتسرّع في الفتوى مباشرة قبل أن يكمِّل السائل السؤال أو قبل أن يعرف مقصده.
    المسألة الرابعة: وهي الشاهد للباب: أنه لا يُذبح لله بمكان يُذبح فيه لغير الله عزّ وجلّ، لأن هذا من وسائل الشرك.
    المسألة الخامسة: فيه: خطورة الذبح لغير الله؛ لأنه إذا كان لا يُذبح لله في المكان الذي يُذبح فيه لغير الله فكيف بالذبح لغير الله؟.
    المسألة السادسة: فيه: وُجوب الوفاء بالنذر إذا كان نذر طاعة.
    المسألة السابعة: فيه: أنّ النذر إذا كان نذر معصية أو أنه لا يجوز الوفاء به أو في شيء لا يملكه الناذر فإنه لا يلزمه؛ وإنما اختلف العلماء: هل عليه كفّارة يمين أو لا؟، على قولين أرجحهما ليس عليه شيء.
    المسألة الثامنة: في الحديث: دليلٌ على تحريم نذر المعصية، كمن نذر أن يقتل فلاناً- أو نذر الذبح لغير الله، أو نذر الذبح في مكان يُذبح فيه لغير الله، وفيه: دليل على تحريم الوفاء بنذر المعصية(
    [7]).

    ويستفاد من الحديث: أنه لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله، وهو ما ساقه المؤلف من أجله، والحكمة من ذلك ما يلي:
    الأول: أنه يؤدي إلى التشبه بالكفار.
    الثاني: أنه يؤدي إلى الاغترار بهذا الفعل، لأن من رآك تذبح بمكان يذبح فيه المشركون ظن أن فعل المشركين جائز.
    الثالث: أن هؤلاء المشركين سوف يقوون على فعلهم إذا رأوا من يفعل مثلهم، ولا شك أن تقوية المشركين من الأمور المحظورة، وإغاظتهم من الأعمال الصالحة، قال الله تعالى:{وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}(
    [8]).

    فيه مسائل:
    الأولى: تفسير قوله {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة: 108]
    الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض، وكذلك الطاعة.
    الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة؛ ليزول الإشكال.
    الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.
    الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به؛ إذا خلا من الموانع.
    السادسة: المنع منه؛ إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية، ولو بعد زواله.
    السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم، ولو بعد زواله.
    الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية.
    التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده.
    العاشرة: لا نذر في معصية.
    الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك.


    _______________
    ([1]) كتاب الأيمان والنذور _باب_ ما يؤمن به من الوفاء بالنذر رقم : (3313). وصححه ابن حجر في التلخيص :(4_180). والألباني في المشكاة رقم (3437).
    ([2]) انظر القول المفيد:(ج1_ص232) وإعانة المستفيد:(ص174).
    ([3]) إعانة المستفيد : (ص174).
    ([4]) انظر فتح المجيد (176).
    ([5]) انظر اعانة المستفيد (ص176).
    ([6]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان :(ص352).
    ([7]) انظر إعانة المستفيد:(ص179).
    ([8]) انظر القول المفيد :(ج1_ص240).

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  9. #29

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    هذا الكتاب فيه دواه ومنكرات ما لا تحصى كما قال الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن

  10. #30

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله آل موسى مشاهدة المشاركة
    هذا الكتاب فيه دواه ومنكرات ما لا تحصى كما قال الإمام عبد اللطيف بن عبد الرحمن
    اخي بارك الله فيك أي كتاب وضح؟
    هذا الجمع لي هل رأه عبد اللطيف بن عبد الرحمن؟!

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  11. #31

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    أعتذر ظننته كتاب عثمان بن منصور لعنه الله
    له كتاب باسم مشابه

  12. #32

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عبد الله آل موسى مشاهدة المشاركة
    أعتذر ظننته كتاب عثمان بن منصور لعنه الله
    له كتاب باسم مشابه
    لاعليك, بارك الله فيك.

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  13. #33
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    للرفع
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  14. #34

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    (11)
    باب

    باب من الشرك النذر لغير الله تعالى
    وقول الله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} [الإنسان: 7]. وقوله:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [البقرة:270].
    وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه
    "([1]).
    الشرح :
    هذا الباب كالمتمم للباب الذي قبله لأنه هناك تكلم عن النذر تبعاً وهنا أفرد له باباً مستقلاً ( من الشرك النذر لغير الله ) أي: لكونه عبادة يجب الوفاء به إذا نذره لله، فيكون النذر لغير الله تعالى شركا في العبادة, لذلك أورد المصنف قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}, فالآية دلت على وجوب الوفاء بالنذر ومدح من فعل ذلك طاعة لله ووفاء بما تقرب به إليه, وجه الاستدلال به على كون النذر عبادة ظاهر، وهو أن الله -جل وعلا- مدح الموفين بالنذر، ومدحه للموفين بالنذر يقتضي أن الوفاء بالنذر محبوب له -جل وعلا- وأنه مشروع، وما كان كذلك فهو من أنواع العبادات، فيكون صرفه لغير الله -جل وعلا- شركاً أكبر. وهذا النذر لغير الله لا ينعقد إطلاقاً، ولا تجب فيه كفارة، بل هو شرك تجب التوبة منه، كالحلف بغير الله فلا ينعقد وليس فيه كفارة. وإذا ثبت كونه عبادة، فصرفه إلى غير الله شرك، وهذه قاعدة في توحيد العبادة، فأي فعل كان عبادة، فصرفه لغير الله شرك.

    وأما نذر المعصية، فينعقد، لكن لا يجوز الوفاء به، وعليه كفارة يمين، كالحلف بالله على المحرم ينعقد، وفيه كفارة. وإذا كان كذلك فهو من أنواع العبادة، لأن العبادة كما عرّفها شيخ الإسلام ابن تيمية: أسم جامع لكل ما يحبه الله و يرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فكل أنواع الطاعات التي أمر الله بها، أو أمر بها رسوله _صلى الله عليه وسلم_ ومنها الوفاء بالنذر عبادة، فمن صرف شيئاً من هذه الأنواع لغير الله صار مشركاً الشرك الأكبر الذي يُخرجه من المَلَّة([2]).
    وقوله تعالى:{وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ}.
    قوله:{فإن الله يعلمه}. تعليق الشيء بعلم الله دليل على أنه محل جزاء، إذ لا نعلم فائدة لهذا الإخبار بالعلم إلا لترتب الجزاء عليه، وترتب الجزاء عليه يدل على أنه من العبادة التي يجازى الإنسان عليها، وهذا وجه استدلال المؤلف بهذه الآية.
    قال ابن كثير رحمه_ الله تعالى_:" يخبر تعالى أنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين ابتغاء وجهه". إذا علمت ذلك، فهذه النذور الواقعة من عباد القبور، تقربا بها إليهم ليقضوا لهم حوائجهم وليشفعوا لهم، كل ذلك شرك في العبادة بلا ريب, كما قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
    ([3]).
    حصول المقصود لا يدل على جواز النذر لغير الله:
    وقد يفعلون هذا ويحصل لهم مقصودهم ابتلاءً وامتحاناً من الله سبحانه وتعالى، أو أن هذا يصادف قضاءً وقدراً فيحصل، ويظنوا أنه بسبب النذر لهذا الميت أو لهذا القبر أو هذا الوليّ- بزعمهم- وحصول المقصود لا يدل على جواز الفعل، فيجب أن يُتنبّه لهذه الشبهة، لأنهم أهلكوا بها كثيراً من الناس، يقولون: القبر الفلاني مجرَّب، إذا فعل الإنسان عنده نذراً أو ذبح ذبيحة يحصل له مقصوده، فبذلك انصرفت قلوب كثير من العوام والجُهَّال، أو حتى بعض من العلماء غير المحقِّقين إلى فعل هذا، والنبي _صلى الله عليه وسلم_ يقول: "وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين"([4]). فالخطر شديد من هذه الأمور، لأنها كثُرت في الأمة، بسبب وجود هذه الأوثان التي يسمونها الأضرحة.
    والنذر في اللغة: التزام فعل الشيء, وفي الشرع: التزام مكلّف فعل طاعة لم تجب عليه بأصل الشرع. وهذا منهيٌّ عنه؛ لما فيه من إحراج الإنسان لنفسه، وتحميلها شيئاً قد يشق عليها، وكان قبل أن ينذر في سعة من أمره؛ إن شاء فعل هذه الطاعة المستحبة، وإن شاء لم يفعلها، فلمَّا نذر فِعْلها لزمَتْه([5]).

    تنويع الأدلة يزيدها قوة ويقطع الخصم:
    في أول الكتاب أستدل الشيخ بالأدلة العامة على وجوب توحيد الباري وعلى حرمة الشرك ويدخل في ذلك النذر وهنا جاء بأدلة خاصة على أن صرف النذر لغير الله تعالى شرك في العبادة.
    ولهذا قال الشيخ -رحمه الله- هنا: ( باب من الشرك النذر لغير الله ). واستدل على ذلك بخصوص أدلة وردت في النذر. وأما الآيات التي قدّمها في أول الكتاب، كقوله جلا وعلا:{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وكقوله:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56] وقوله:{وَاعْبُدُ وا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}[النساء:36] وكقوله:{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام: 15] فهذه أدلة تصلح لأن تستدل بها على أن صرف النذر لغير الله شرك؛ فتقول: النذر لغير الله عبادة، والله -جل وعلا- نهى أن تصرف العبادة لغيره، وأن من صرف العبادة لغير الله فهو مشرك، فتقول: النذر عبادة؛ لأنه داخل في حد العبادة؛ لأن الله -جل وعلا- يرضاه، ومدح الموفين به.

    فالدليل الخاص -إذاً- هو أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر؛ ولهذا أورد الشيخ -هنا- الدليل التفصيلي، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف. ومن الفقه في الأدلة الشرعية: أن المستدل على مسائل التوحيد، ينبغي له أن يراعي التنويع؛ لأن تنويع الاستدلال، وإيراد الأدلة من عدة وجوه، من شأنه أن يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله، وللشرك به -جل وعلا- فإذا أوردت على الخصم مرة دليلاً خاصاً، وتارة دليلاً عاماً، ونوعت في ذلك، فإن هذا مما يضيق به المخاصم، ويقطع حجته، أما إذا لم تورد إلا دليلاً واحداً فربما أوله لك، أو ناقشك فيه، فيحصل عند المستدل ضعف عند المواجهة، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم، وحفظ الأدلة فإنه يقوى على مجادلة الخصوم، والله -جل وعلا- وعد عباده بالنصر كما في قوله:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر:51].

    فما يفعله عُبّاد القبور، والمتصوّفة، والمخرِّفون، من هذه النذور التي تقدّم للقبور، أو تقدّم للجن والشياطين، أو حتى للأولياء والصالحين، أنها عبادة لغير الله عزّ وجلّ، وشرك بالله عزّ وجلّ، فلا يجوز عملها، ويجب المنع منها، والتحذير منها، وأن هذه النذور باطلة، لا يجوز له الوفاء بها، فإن وَفَى بها ونفّذها صار مشركاً بالله الشرك الأكبر، فيجب عليه أن يتوب وأن يدخل في الإسلام من جديد. فهذا في النذر الواحد، فكيف بالذي أفنى عمره بالنذور، وضيع ماله بالنذور، كلما أحسَّ بشيء، أو خاف من شيء صار يَنْذُر للأولياء والصالحين؟!. فالمسألة خطيرة جداً.
    ولكن مهما عمل الإنسان من الشرك والكفر إذا تاب، تاب الله عليه، ولو أفنى عمره في الشرك والكفر ثم تاب توبة صحيحة تاب الله عليه:{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}. فلو أن هؤلاء القبوريّين تابوا إلى الله لتاب الله عليهم
    ([6]).

    وفي الصحيح عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:"من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". الحديث صريح في أن النذر يكون طاعة، وإذا كان طاعة فهو عبادة، وإذا كان عبادة، فصرفه لغير الله شرك أكبر.
    وأعلم أن النذر لا يأتي بخير ولو كان نذر طاعة، وإنما يستخرج به من البخيل، ولهذا نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعض العلماء يحرمه، وإليه يميل شيخ الإسلام ابن تيمية للنهي عنه، ولأنك تلزم نفسك بأمر أنت في عافية منه، وكم من إنسان نذر وأخيراً ندم، وربما لم يفعل. ويدل لقوة القول بتحريم النذر قوله تعالى:{وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن } [النور: 53]، فهذا التزام مؤكد بالقسم فيشبه النذر.

    قال الله تعالى:{ قل لا تقسموا طاعة معروفة }[النور: 53]، أي: عليكم طاعة معروفة بدون يمين، والإنسان الذي لا يفعل الطاعة إلا بالنذر، أو حلف على نفسه يعني أن الطاعة ثقيلة عليه. ومما يدل على قوة القول بالتحريم أيضاً خصوصاً النذر المعلق: أن الناذر كأنه غير واثق بالله - عز وجل ـ، فكأنه يعتقد أن الله لا يعطيه الشفاء إلا إذا أعطاه مقابلة، ولهذا إذا أيسوا من البرء ذهبوا ينذرون، وفي هذا سوء ظن بالله- عز وجل -.والقول بالتحريم قول وجيه.
    فإن قيل: كيف تحرمون ما أثنى الله على من وفى به؟
    فالجواب: أننا لا نقول: إن الوفاء هو المحرم حتى يقال: إننا هدمنا النص، إنما نقول: المحرم أو المكروه كراهة شديدة هو عقد النذر، وفرق بين عقده ووفائه، فالعقد ابتدائي، والوفاء في ثاني الحال تنفيذ لما نذر([7]).

    فيه مسائل:
    الأولى: وجوب الوفاء بالنذر.
    الثانية: إذا ثبت كونه عبادة لله، فصرفه إلى غير الله شرك.
    الثالثة: أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به.




    ([1]) أخرجه البخاري (6696) و(6700).
    ([2]) انظر إعانة المستفيد :( ص180).
    ([3]) ينظر فتح المجيد :(ص181), والتمهيد (ص162), والقول المفيد: (ج1_ص245_246).
    ([4]) رواه الإمام أحمد :( 22395) قال المعلق على المسند إسناده صحيح على شرط مسلم .
    ([5]) ينظر إعانة المستفيد:(ص180_ص181) .
    ([6]) إعانة المستفيد: (ص162 _ص185).
    ([7]) القول المفيد : (ج1_ص247).

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  15. #35
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ابو العبدين البصري مشاهدة المشاركة


    فالدليل الخاص -إذاً- هو أن تستدل بخصوص ما جاء في الكتاب والسنة من الأدلة على النذر؛ ولهذا أورد الشيخ -هنا- الدليل التفصيلي، وفي أول الكتاب أتى بالأدلة العامة على كل مسائل العبادة، وهذا من الفقه الدقيق في التصنيف. ومن الفقه في الأدلة الشرعية: أن المستدل على مسائل التوحيد، ينبغي له أن يراعي التنويع؛ لأن تنويع الاستدلال، وإيراد الأدلة من عدة وجوه، من شأنه أن يضعف حجة الخصوم الذين يدعون الناس لعبادة غير الله، وللشرك به -جل وعلا- فإذا أوردت على الخصم مرة دليلاً خاصاً، وتارة دليلاً عاماً، ونوعت في ذلك، فإن هذا مما يضيق به المخاصم، ويقطع حجته، أما إذا لم تورد إلا دليلاً واحداً فربما أوله لك، أو ناقشك فيه، فيحصل عند المستدل ضعف عند المواجهة، أما إذا انتبه لمقاصد أهل العلم، وحفظ الأدلة فإنه يقوى على مجادلة الخصوم، والله -جل وعلا- وعد عباده بالنصر كما في قوله:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر:51].

    فائدة قيمة ..
    جزاكم الله خيرا ،،
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  16. #36

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم علي طويلبة علم مشاهدة المشاركة

    فائدة قيمة ..
    جزاكم الله خيرا ،،
    وجزاكم مثله بارك الله فيك.

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  17. #37

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد


    (12)
    باب
    بابٌ من الشرك الاستعاذة بغير الله

    وقول الله تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [ الجن :6] .
    وعن خولة بنت حكيم _رضي الله عنها_ قالت : قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ :" من نزل منزلا فقال : أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك " رواه مسلم
    ([1]) .
    الشرح:
    هذا الباب عنونه الإمام - رحمه الله – بقوله: (باب من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى ). وهذا الباب مع الذي قبله والأبواب التي سلفت أيضا: كلها في بيان المقصد من هذا الكتاب وبيان الغرض من تأليفه وأن التوحيد إنما يُعرف بضده ، فمن طلب التوحيد فليطلب ضده لأنه - أعني التوحيد- يجمع بين الإثبات والنفي ، فيجمع بين الإيمان بالله ، وبين الكفر بالطاغوت ، فمن جمع بين هذين الأمرين فإنه يكون قد عرف التوحيد ولهذا فصل الشيخ - رحمه الله - أفراد توحيد العبادة ، وفصل أفراد الشرك ؛ فبين أصناف الشرك الأصغر: القولي والعملي وبين أصناف الشرك الأكبر: العملي والاعتقادي فذكر الذبح لغير الله ، وذكر النذر لغير الله ، والذبح والنذر: عبادتان عظيمتان([2]).
    ومن هنا: للتبعيض، وهذه الترجمة ليست على إطلاقها، لأنه إذا استعاذ بشخص مما يقدر عليه، فإنه جائز، كالاستعانة وسيأتي تفصيل المسألة وبيان وجه الجمع فيها.

    الاستعاذة: الالتجاء والاعتصام، ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذا وملجأ. فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه واعتصم واستجار به والتجأ إليه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله; والاعتصام به، والانطراح بين يدي الرب، والافتقار إليه والتذلل له أمر لا تحيط به العبارة. قاله ابن القيم - رحمه الله -, وقال ابن كثير _رحمه الله تعالى_:" الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر. واللياذ لطلب الخير". انتهى.
    قلت: وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده; كما قال تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}. فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة، فمن صرف شيئا من هذه العبادات لغير الله جعله شريكا لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدا لغير الله ولا فرق، كما سيأتي تقريره قريبا إن شاء الله تعالى([3]).
    وقوله هنا: ( من الشرك الاستعاذة بغير الله ), هذا الغير شامل لكل من يتوجه إليهم بالعبادة ويشركونهم مع الله, ويدخل في ذلك - بالأولية - ما كان المشركون الجاهليون يتوجهون إليهم بالعبادة: من الجن والملائكة والرسل والأنبياء ، والصالحين ، والأشجار والأحجار ، وغير ذلك من معبوداتهم, لكن هل مقصوده بقوله:( باب من الشرك الاستعاذة بغير الله ). شمول هذا الحكم على فاعله بالشرك ، لكل أنواع الاستعاذة ، ولو كان فيما يقدر عليه المخلوق ؟
    والجواب: أن هذا فيه تفصيل فمن العلماء من يقول: الاستعاذة توجه القلب واعتصامه والتجاؤه ورغبه وهذه المعاني جميعا لا تصلح إلا لله - جل وعلا - .

    وقال آخرون: قد جاءت أدلة بأنه يستعاذ بالمخلوق فيما يقدر([4]). عليه, لأن حقيقة الاستعاذة: طلب انكفاف الشر وطلب العياذ وهو :أن يستعيذ من شر أحدق به ، وإذا كان كذلك: فقد يملك المخلوق شيئا من ذلك ، وعلى هذا فتكون الاستعاذة بغير الله شركا أكبر إذا كان ذلك المخلوق لا يقدر على أن يعيذ ، أو طلبت منه الإعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله, والذي يظهر أن المقام كما سبق فيه تفصيل وهو: أن الاستعاذة فيها عمل ظاهر وفيها عمل باطن فالعمل الظاهر: أن يطلب العوذ ، وأن يطلب العياذ وهو أن يُعصم من هذا الشر أو أن ينجو من هذا الشر وفيها أيضا عمل باطن وهو: توجه القلب وسكينته ، واضطراره وحاجته إلى هذا المستعاذ به ، واعتصامه بهذا المستعاذ به وتفويض أمر نجاته إليه. فإذا كانت الاستعاذة تجمع هذين النوعين فيصح أن يقال: إن الاستعاذة لا تصلح إلا بالله ، لأن منها ما هو عمل قلبي كما تقدم وهو بالإجماع لا يصلح التوجه به إلا لله.
    وإذا قصد بالاستعاذة العمل الظاهر فقط وهو طلب العياذ والملجأ فيجوز أن يتوجه بها إلى المخلوق ، وعلى هذا يحمل الدليل الوارد في جوازها. فحقيقة الاستعاذة إذًا تجمع بين الطلب الظاهر ، والمعنى الباطن ؛ ولهذا اختلف أهل العلم في جواز طلبها من المخلوق ، فالذي ينبغي أن يكون منك دائما على ذكر: أن توجُّه أهل العبادات الشركية لمن يشركون به من الأولياء ، أو الجن ، أو الصالحين ، أو غيرهم أنهم جمعوا بين القول باللسان ، وأعمال القلوب التي لا تصلح إلا لله - جل وعلا - وبهذا يبطل ما يقوله أولئك الخرافيون من : أن الاستعاذة بهم إنما هي فيما يقدرون عليه ، وأن الله أقدرهم على ذلك ؛ فيكون إبطال مقالهم راجعا إلى جهتين
    :
    الجهة الأولى: أن يُبطل قولهم بأن يقال: إن هذا المَيْت أو هذا الجني يقدر على هذا الأمر الذي طلب منه ، فإذا لم يقتطع بذلك ، أو حصل عنده اشتباه ما ، انتقل الجني إلى.
    الجهة الثانية: من الإبطال: وهو إثبات أن الاستعاذة فيها توجه بالقلب إلى المستعاذ به واضطرار إليه واعتصام به وافتقار إليه ؛ وهذا الذي توجه إلى ذلك الميت أو الولي قد قامت هذه المعاني بقلبه ، ولا يجوز أن يكون شيء من ذلك إلا لله وحده - عز وجل - ([5]).


    (أقسام الطلب أو النداء)
    والطلب يختلف نوعه ومسماه باختلاف المطلوب منه:
    1_ فإذا كان الطلب من مقارن : فيسمى التماسا.
    2_ وإذا كان ممن هو دونك: فيسمى أمرا.
    3_ وإذا كان ممن هو أعلى منك : فيسمى دعاء .
    والمستعيذ والمستغيث، لا شك أنه طالب ممن هو أعلى منه ؛ لحاجته إليه ؛ فلهذا يصح أن يكون كل دليل فيه ذكر إفراد الله - جل وعلا - بالدعاء أو بالعبادة ، دليلا على خصوص هذه المسألة وهي: أن الاستعاذة من العبادات العظيمة ، وإذ كانت كذلك ، فإن إفراد الله بها واجب
    ([6]).


    ( وجوب الإيمان الجن وبيان الفرق بين من ينكر وجود الجن وبين من ينكر تأثيرهم )
    قوله:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ} الإنس: بنو آدم.{يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} الجن المُراد بهم: عالم من عالم الغيب، يعيشون معنا في هذه الأرض، وهم مكلّفون، مأمورون بطاعة الله، ومَنْهِيُّون عن معصية الله، مثل الإنس، لكننا لا نراهم، قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ} يعني: إبليس {هُوَ وَقَبِيلُهُ} يعني: جماعته من الجن {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ}، فهم يروننا ونحن لا نراهم، وقد يتصوّرون بصور متشكّلة، ويتصوّرون بصور حيّات، وبصور حيوانات، وبصور آدميين، أعطاهم الله القُدرة على ذلك، وهم عالم مخلوق من نار، والإنس خُلقوا من الطين، كما قال تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} يعني:من الطين{وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} الجان: جمع جنِّي، سُمُّوا بالجن لاجتنانهم أي: استتارهم عن الأنظار، ومنه سُمِّي الجَنين في بطن أمه لأنه لا يُرى، فهو مُجْتَنّ في بطن أمه، ومنه المِجن الذي يتّخذ في الحرب يتوقّى به المقاتل سهام العدو، سُمِّي مِجَنًّا لأنه يُجِنُّه من السهام، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "الصوم جُنّة" بمعنى: أنه ساتر بين العبد وبين المعاصي، يستتر به من المعاصي، ومن كيد الشيطان، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} {جَنَّ عَلَيْهِ} يعني: غطّاه ظلام الليل.
    فالحاصل: أن الجن عالم خفي، لا نراهم، وهم يعيشون معنا، وهم مكلّفون كما كُلِّفنا بالأوامر والنواهي, والإيمان بوجودهم من الإيمان بالغيب، تصديقاً لخبر الله سبحانه وتعالى، وخبر رسوله _صلى الله عليه وسلم_، فوجود الجن ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، ومن جحد وجود الجن فهو كافر، لأنه مكذِّب لله ولرسوله ولإجماع المسلمين، وهل كل ما لا يراه الإنسان يُنكر؟.
    وقد ظهرت طائفة من جهلة الأطباء- كما يقول الإمام ابن القيّم-، وكذلك من بعض المفكِّرين والكُتّاب المنتسبين للإسلام؛ ينكرون وجود الجن، لأنهم لا يؤمنون إلاَّ بما تقرّه عقولهم، وعقولهم لا تتّسع للتصديق بهذه المغيّبات، وكذلك الجن يمسُّون الإنس ويخالطونهم ويصرعونهم، وهذا شيء ثابت، لكن من جَهَلَة الناس من يُنكر صَرْع الجن للإنس، وهذا لا يَكْفُر، لأن هذه مسألة خفيّة، ولكنه يُخطّأ، فالذي يُنكر مسّ الجن للإنس لا يُكَفَّر، ولكن يضلّل، لأنه يُكذِّب بشيء ثابت، أما الذي يُنكر وجودهم أصلاً فهذا كافر، فقوله تعالى:{ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} أي: يلتجئون إليهم ليدفعوا عنهم الشرور.

    وسبب نزول هذه الآية: أن العرب كانوا في الجاهلية إذا نزلوا منزلاً قال أحدهم: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فأنزل الله هذه الآية: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ}. فهذه عقيدة جاهليّة، أبطلها الله سبحانه وتعالى بالأمر بالاستعاذة به وحده لا شريك له، وذلك في قوله:" عن خَوْلَة بنت حكيم"- رضي الله تعالى عنها- أن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ قال: "من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامّات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك"رواه مسلم. هذه هي الاستعاذة الشرعية البديلة من الاستعاذة الشركية.
    فقوله:" أعوذ بكلمات الله التّامّات من شر ما خلق" كلمات الله: المُراد. بها: كلامه سبحانه وتعالى المنزّل على رسوله _صلى الله عليه وسلم_ والاستعاذة بالقرآن مشروعة، لأن القرآن كلام الله، فالاستعاذة بالقرآن استعاذة بصفة من صفات الله، وهي الكلام، وليست استعاذة بمخلوق.

    واستدلّ أهل السنّة والجماعة بهذا الحديث على أن القرآن غير مخلوق، لأنه لا تجوز الاستعاذة بالمخلوق، فلو كان القرآن مخلوقاً- كما تقوله الجهمية والمعتزلة- لصار هذا من الاستعاذة بالمخلوق، وهي شرك، كما دلّ هذا الحديث على مشروعية الاستعاذة بالله عزّ وجلّ، وترك الاستعاذة بغيره سبحانه وتعالى.
    وقوله: ( التّامّات ) أي: الصادقات العادلات، التي لا يتطرّق إليها نقص، لأن كلام الله سبحانه وتعالى كامل، لأن الله جل وعلا كامل وصفاته كاملة، وكلامه كامل لا يتطرّق إليه النقص:{لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}،{وَتَمّ َتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }([7]). وتمام الكلام بأمرين:
    1_ الصدق في الأخبار.
    2 _ العدل في الأحكام
    .
    قال الله تعالى:{ وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً } [الأنعام: 115].
    قوله: ( من شر ما خلق )، أي: من شر الذي خلق، لأن الله خلق كل شيء: الخير والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه، لأنه خلق الشر لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيراً، فكان خيراً, وعلى هذا تكون ( ما ) موصولة لا غير، أي: من شر الذي خلق، لأنك لو أولتها إلى المصدرية وقلت: من شر خلقك، لكان الخلق هنا مصدراً يجوز أن يراد به الفعل، ويجوز أيضاً المفعول، لكن لو جعلتها اسماً موصلاً تعين أن يكون المراد بها المفعول، وهو المخلوق.
    وليس كل ما خلق الله فيه شر، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه شر، لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
    1_ شر محض: كالنار وإبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها، فهي خير.
    2_ خير محض: كالجنة، والرسل، والملائكة.
    3_ فيه شر وخير، كالإنس، والجن، والحيوان. وأنت إنما تستعيذ من شر ما فيه شر.

    قوله: ( لم يضره شيءنكرة في سياق النفي، فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر الخفي حتى يرتحل من منزله، لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره، لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف، فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر.
    ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب، فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل: قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصوراً في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره.
    ومنه: التسمية عند الجماع، فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب
    ([8]).

    قوله: ( لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك ), قال القرطبي:"هذا خبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلا وتجربة؛ فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته، فلدغتني عقرب بالمهدبة([9]) ليلا، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات"([10]).

    فيه مسائل:
    الأولى: تفسير آية الجن .
    الثانية: كونه من الشرك .
    الثالثة الاستدلال على ذلك بالحديث ؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة ؛ قالوا : لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك .
    الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره .
    الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية ؛ من كف شر ؛ أو جلب نفع ؛ لا يدل على أنه ليس من الشرك .






    ([1]) أخرجه مسلم (2708) .
    ([2]) التمهيد:(ص165).
    ([3]) انظر فتح المجيد :(ص187).
    ([4]) منها:عن أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ» .رواه البخاري _ بَابُ عَلاَمَاتِ النُّبُوَّةِ فِي الإِسْلاَمِ_ (3601), ومسلم _ بَابُ نُزُولِ الْفِتَنِ كَمَوَاقِعِ الْقَطْرِ _(2886).
    ومنها: ما رواه مسلم: قال: دَخَلَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ صَفْوَانَ وَأَنَا مَعَهُمَا، عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ_ رضي الله عنها_، فَسَأَلَاهَا عَنِ الْجَيْشِ الَّذِي يُخْسَفُ بِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَعُوذُ عَائِذٌ بِالْبَيْتِ، فَيُبْعَثُ إِلَيْهِ بَعْثٌ، فَإِذَا كَانُوا بِبَيْدَاءَ مِنَ الْأَرْضِ خُسِفَ بِهِمْ» فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ كَارِهًا؟ قَالَ: «يُخْسَفُ بِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى نِيَّتِهِ». برقم: (2882)_ بَابُ الْخَسْفِ بِالْجَيْشِ الَّذِي يَؤُمُّ الْبَيْتَ _.

    ([5]) انظر التمهيد :(ص167_ص169).
    ([6]) انظر التمهيد:(ص167).
    ([7]) انظر إعانة المستفيد:(ص188_ص189) .
    ([8]) انظر القول المفيد:(ج1_ص253_ص354) .
    ([9]) المهدية : مدينة عامرة ببلاد المغرب السليب. فتح المجيد:(ص191).
    ([10]) المصدر السابق.

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  18. #38
    تاريخ التسجيل
    Mar 2010
    المشاركات
    7,532

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    ما هي الشروح أو المراجع التي تعتمدون عليها في موضوعكم بارك الله فيكم ؟
    اللهم اغفر لأبي وارحمه وعافه واعف عنه اللهم اجعل ولدي عمر ذخرا لوالديه واجعله في كفالة إبراهيم عليه السلام

  19. #39

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم علي طويلبة علم مشاهدة المشاركة
    ما هي الشروح أو المراجع التي تعتمدون عليها في موضوعكم بارك الله فيكم ؟
    وفيكم بارك الرحمن.
    1_ فتح المجيد.
    2_التمهيد.
    3_القول المفيد.
    4_ إعانة المستفيد.
    5_كتب شخي الاسلام ابن تيمة وابن القيم.
    6_ تفسير ابن كثير والسعدي.
    7_ بعض شروح الحديث.
    واصل هذا الجمع دروس اعدها للاخوة الذين يتذاكرون معي. وهو يصلح شرح للمبتدئين أو كمرحلة اولى لدراسة الكتاب, فقد راعيت فيه التيسير والاختصار.

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  20. #40

    افتراضي رد: فتح الكريم الحميد بشرح كتاب التوحيد

    (13)
    باب

    من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره

    وقول الله تعالى:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107].
    وقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17]. وقول الله تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:6]. وقول الله تعالى:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ}[النمل:62].
    وروى الطبراني بإسناده: أنه كان في زمن النبي_ صلى الله عليه وسلم_ منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: فقوموا بنا نستغيث برسول الله_ صلى الله عليه وسلم_ من هذا المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله"
    ([1]).
    الشرح:
    قوله:( من الشرك ) من: للتبعيض، فيدل على أن الشرك ليس مختصاً بهذا الأمر والاستغاثة: طلب الغوث، وهو إزالة الشدة.
    وكلام المؤلف _رحمه الله_ ليس على إطلاقه، بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به، إما لكونه ميتاً، أو غائباً، أو يكون الشيء مما لا يقدر على إزالته إلا الله _تعالى_، فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر فهذا كله من الشرك ولو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزاً، قال الله _تعالى_:{فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه} [القصص:15]. وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه، فإنه يجب عليك تصحيحاً لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة، لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب، وهذا قادح في كمال التوحيد.

    قوله: ( أو يدعو غيره ) معطوف على قوله: ( أن يستغيث)، فيكون المعنى: من الشرك أن يدعو غير الله، وذلك لأن الدعاء من العبادة، قال الله تعالى:{ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين }[غافر:60],{ عبادتي} أي: دعائي، فسمى الله الدعاء عبادة, وقال_ صلى الله عليه وسلم_:" إن الدعاء هو العبادة "([2]).
    والدعاء ينقسم إلى قسمين:
    · ما يقع عبادة، وهذا صرفه لغير الله شرك، وهو المقرون بالرهبة والرغبة، والحب، والتضرع.
    · ما لا يقع عبادة، فهذا لا يجوز أن يوجه إلى المخلوق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم :"من دعاكم فأجيبوه"
    ([3]). وقال:" إذا دعاك فأجبه"([4]).

    وعلى هذا، فمراد المؤلف بقوله: ( أو يدعو غيره ). دعاء العبادة أو دعاء المسألة فيما لا يمكن للمسؤول إجابته.
    قال شيخ الإسلام_ رحمه الله_: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة كالاستنصار طلب النصر، والاستعانة طلب العون, وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره, فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة وينفرد الدعاء عنها في مادة; فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة
    ([5]).

    فالاستغاثة: طلب الغوث؛ وطلب الغوث لا يصلح إلا من الله فيما لا يقدر عليه إلا الله_ جل جلاله_ ؛ لأن الاستغاثة يمكن أن تُطلب من المخلوق فيما يقدر عليه, لكن متى تكون الاستغاثة بغير الله شركا أكبر ؟ ضبطه بعض أهل العلم بقولهم: تكون شركا أكبر ، إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه ذلك المخلوق.
    وقال آخرون: تكون شركا أكبر إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله, وهاتان العبارتان مختلفتان, والأصح منهما الأخيرة؛ لأن المرء إذا استغاث بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله؛ وهو يعلم أن هذا لا يقدر عليه إلا الله: فهذا شرك أكبر بالله_ جل وعلا_ لأن حقيقة الأمر: أنه لا يقدر عليه إلا الله.

    قوله: (أو يدعو غيره), الدعاء_ كما ذكرت لك_ هو العبادة، والدعاء نوعان: 1_ دعاء مسألة, 2_ ودعاء عبادة، ونعني بدعاء المسألة: ما كان فيه طلب وسؤال ؛ كأن يرفع يديه لله_ جل وعلا_ ويدعوه ، فهذا يسمى دعاء مسألة. وهو الذي يغلب عند عامة المسلمين في تسمية الدعاء ، فإذا قيل: دعا فلان ؛ يعني سأل ربه_ جل وعلا_.
    والنوع الثاني: دعاء العبادة كما قال جل وعلا:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا }[ الجن:18 ]. يعني: لا تعبدوا مع الله أحدا أو لا تسألوا مع الله أحدا ، وكما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_:" الدعاء هو العبادة "
    ([6]).

    ودعاء المسألة، غير دعاء العبادة فدعاء العبادة يتناول كل صنف من أصناف العبادة ؛ فمن صلى أو زكى أو صام ، ونحو ذلك فيقال: إنه دعا، لكن دعاء عبادة, قال العلماء: دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة ، ودعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة يعني: أن من سأل الله - جل وعلا - شيئا: فهو داع دعاء مسألة ، وهذا متضمن لعبادة الله لأن الدعاء أعني: دعاء المسألة: أحد أنواع العبادة فدعاء المسألة متضمن للعبادة لأن الله_ جل وعلا _ يحب من عباده أن يسألوه .
    وقولنا: إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة يعني: أن من صلى، فيلزم من إنشائه الصلاة أن يسأل الله القبول ويسأل الله الثواب فيكون دعاء المسألة متضمنا لدعاء العبادة ودعاء العبادة مستلزما لدعاء المسألة.


    إذا تقرر ذلك: فاعلم أن هذا التفصيل أو هذا التقسيم: مهم جدا في فهم حجج القرآن وفي فهم الحجج التي يوردها أهل العلم ؛ لأنه قد حصل من الخرافيين والداعين إلى الشرك: أنهم يؤولون الآية التي فيها دعاء العبادة ، بدعاء المسألة، أو الآية التي في دعاء المسألة بدعاء العبادة وإذا تبين ذلك عُلم أنه لا انفكاك في الحقيقة بين دعاء المسألة ، ودعاء العبادة فهذا هو ذاك: إما بالتضمن أو باللزوم. ومعلوم أن دلالات التضمن واللزوم دلالات لغوية واضحة جاءت في القرآن وجاءت في السنة.
    ثم ساق الشيخ_ رحمه الله_ بعض الأدلة على أن الدعاء والاستغاثة إنما يتوجه بهما إلى الله وحده فيما لا يقدر عليه إلا الله([7]).
    وقوله:{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } قال في أول الآية:{ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ } فقوله:{ وَلَا تَدْعُ } هذا نهي ، والنهي هنا قد توجه إلى الفعل ( تدع ) وإذا كان كذلك: فإنه يعم أنواع الدعاء ، وسبق القول بأن الدعاء منه: دعاء مسألة ، ومنه دعاء عبادة ؛ والقاعدة: أن النكرة إذا جاءت في سياق النهي ، أو في سياق النفي ، أو في سياق الشرط: فإنها تعم ؛ و( تدع ) نكرة ؛ لأنه فعل مشتمل على مصدر ؛ والمصدر حَدَثٌ نكرة ؛ فهو يعم نوعي الدعاء. وهذا مراد الشيخ_ أو أحد مراداته _ من الاستدلال بهذه الآية ، فقد نهى الله_ جل وعلا_ أن يُتوجه لغير الله بدعاء المسألة ، أو بدعاء العبادة ، أو بأي نوع من أنواع العبادات فلا يصلح طلب ما يقدر عليه إلا الله: إلا منه جل وعلا ويدخل في ذلك الاستعاذة, والاستغاثة التي هي: طلب الغوث، وكذلك دعاء العبادة بأنواعه: كالصلاة والزكاة والتسبيح ،والتهليل، والسجود، وتلاوة القرآن ، والذبح والنذر وكذلك: أعمال القلوب كالتوكل ، والمحبة التي هي عبادة والرجاء الذي هو عبادة وخوف السر, فهذه العبادات كلها لا تصلح إلا لله, وهي من أنواع دعاء العبادة.

    فهذه الآية دلت على النهي عن أن يتوجه أحد إلى غير الله_ جل وعلا_ بدعاء مسألة أو بدعاء عبادة وقد نُهي النبي _صلى الله عليه وسلم_ عن ذلك أعظم النهي ووجه إليه الخطاب بذلك مع أنه إمام المتقين وإمام الموحدين .
    وقوله:{ مِنْ دُونِ اللَّهِ } يعني: مع الله أو: من دون الله استقلالا.
    وقوله:{مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ} يعني: الذي لا ينفعك ولا يضرك و(ما) تشمل العقلاء فالعقلاء: كالملائكة والأنبياء، والرسل ، والصالحين . وغير العقلاء: كالأصنام والأحجار والأشجار، هذا من جهة الدلالة اللغوية لـ (ما).

    وقوله تعالى لنبيه:{فَإِنْ فَعَلْتَ} يعني: إن دعوت من دون الله أحدا ؛ وذلك الأحد موصوف بأنه: لا ينفعك ، ولا يضرك{ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } وهذا إذا كان في حق النبي عليه الصلاة والسلام الذي كمل الله له التوحيد أنه إذا حصل منه الشرك: فإنه يصبح ظالما ويصبح مشركا وحاشاه عليه الصلاة والسلام من ذلك: فهو تخويف عظيم لمن هو دونه ممن لم يُعصم ولم يُعط العصمة من ذلك ، من باب أولى.
    فقوله:{فَإِنْ فَعَلْتَ} يعني: إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك:{ فَإِنَّكَ إِذًا} يعني: بسبب الدعوة {مِنَ الظَّالِمِينَ}. والظالمون جمع تصحيح للظالم ، والظالم: اسم فاعل الظلم، والظلم: المراد به هنا: الشرك كما قال جل وعلا:{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.

    ثم قال:{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ } اعلم أن غرض من يلجأ إلى غير الله أو يستغيث، أو يستعيذ بغيره: إنما هو طلب كشف الضر, وقد أبطل الله تعالى هذا التعلق الشرعي بقاعدة عامة تقطع عروق الشرك من القلب؛ حيث قال:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} يعني: إذا مسك الله بضر فمن يكشف الضر؟
    الجواب: يكشفه من قدره ومن قضاه عليك، وهكذا كل أنواع التوجه لغير الله_ جل وعلا_ أيا كانت, ولكن ما دام أنه أذن بالتوجه إلى المخلوق فيما يقدر عليه كالتوجه إليه بطلب الغوث ، أو نحو ذلك: فإنه يكون مما رخص فيه ، والحمد لله.

    وقوله في هذه الآية:{بِضُرٍّ}ن رة جاءت في سياق الشرط فتعم جميع أنواع الضر: سواء أكان ضرا في الدين ،أم كان ضرا في الدنيا، يعني: كان ضرا في الدنيا من جهة الأبدان، أو من جهة الأموال أو من جهة الأولاد أو من جهة الأعراض، ونحو ذلك إذًا: فمعنى قوله:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ } أي بأي نوع من أنواع الضر:{فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} أي: الذي يكشف الضر في الحقيقة: هو الله_ جل وعلا_ لا يكشف البلوى إلا هو سبحانه وتعالى، وإذا كان المخلوق يقدر على ذلك الكشف: فإنما هو من جهة أنه سبب فالله هو الذي جعله سببا يقدر على أن يكشف بإذن الله_ جل وعلا_ وإلا فالكاشف حقيقة هو الله_ جل وعلا_ والمخلوق ولو كان يقدر فإنما قدر بإقدار الله له إذ هو سبب من الأسباب.
    فالحاصل: أن الكاشف على الحقيقة هو الله وحده، وإذا تبين ذلك: ظهر لك وجه استدلال المصنف بهذه الآية ومناسبة الآية للترجمة، من عدة جهات كما ذكرنا.

    ثم أورد الشيخ _ رحمه الله_ قوله تعالى:{ فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ } [ العنكبوت:17]. ليبين أن الاستغاثة والدعاء هما من أعظم أسباب الحياة ؛ فمن لم يكن عنده رزق فإنه يوشك على الهلاك؛ ولهذا ذكر الإمام هذه الآية التي فيها النص على توحيد جهة طلب الرزق ؛ لأن معظم حال المستغيثين إنما هي لطلب الرزق.
    ثم قال وقوله:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف:5]. دلالة الآية ظاهرة في أنها واردة في سياق الدعاء لأن الله تعالى قال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ} فهي ظاهرة في أن ثَمَّ داعيا وثم مدعوا ، وذاك المدعو : غير الله_ جل وعلا_.

    ووجه الدلالة من الآية: أن الله تعالى وصف كل من يدعو من دون الله بأنه في غاية الضلال ومنتهى الغواية، وأنه لا أحد أضل منه، والدليل على أنه أراد الأموات ولم يرد الأصنام والأحجار والأشجار أنه قال:{مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فجعل غاية المنع من الإجابة إلى يوم القيامة, وهذه في الأموات؛ لأن الميت إذا كان يوم القيامة: نشر وصار يسمع وربما أجاب طلب من طلبه لأنه يكون في ذلك المقام حيا وربما كان قادرا([8]).

    وقوله:{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ}.أي : هل يجيب المضطرب الذي أقلقته الكروب وتعسر عليه المطلوب واضطر للخلاص مما هو فيه إلا الله وحده؟ ومن يكشف السوء أي: البلاء والشر والنقمة إلا الله وحده؟ ومن يجعلكم خلفاء الأرض يمكنكم منها ويمد لكم بالرزق ويوصل إليكم نعمه وتكونون خلفاء من قبلكم كما أنه سيميتكم ويأتي بقوم بعدكم أإله مع الله يفعل هذه الأفعال؟ لا أحد يفعل مع الله شيئا من ذلك حتى بإقراركم أيها المشركون، ولهذا كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله مخلصين له الدين لعلمهم أنه وحده المقتدر على دفعه وإزالته:{قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} أي: قليل تذكركم وتدبركم للأمور التي إذا تذكرتموها ادَّكرتم ورجعتم إلى الهدى، ولكن الغفلة والإعراض شامل لكم فلذلك ما ارعويتم ولا اهتديتم([9]).

    قوله: ( أنه كان في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم: فقوموا بنا نستغيث برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من هذا المنافق فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: إنه لا يستغاث بي، إنما يستغاث بالله ).

    (كان رجل) لم يذكر اسمه هنا، وورد أنه عبد الله بن أبي، رأس المنافقين, منافق النفاق هو: إظهار الخير وإبطان الشر، وهو نوعان: نفاق اعتقادي، ونفاق عملي, والنفاق الاعتقادي كفر أكبر، وصاحبه في الدرك الأسفل من النار، ومعناه: أن يُظهر الإيمان ويُبطن الكفر. وسبب النفاق: أنه لما اعتزّ الإسلام بعد هجرة الرسول_ صلى الله عليه وسلم_ صار هناك أُناس يريدون العيش مع المسلمين، ولكنهم لن يستطيعوا أن يعيشوا بين المسلمين إلاَّ إذا أظهروا الإسلام، وهم لا يريدون الإسلام ولا يحبُّون الإسلام، فلجأوا إلى حيلة النفاق، وهي: أن يُظهروا الإسلام من أجل أن يعيشوا مع المسلمين، ويبقوا في قرارة نفوسهم على الكفر. فسموا بالمنافقين، هذا هو النفاق الاعتقادي.


    وأما النفاق العملي فمعناه: أن بعض المسلمين الذين عقيدتهم سليمة ومؤمنون بالله، لكنهم يتصفون ببعض صفات المنافقين، مثل: الكذب في الحديث، والغدر في العهد، وإخلاف الوعد، قال _صلى الله عليه وسلم_:" آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان". هذا نفاق عملي، صاحبه مؤمن، ولكن فيه خَصْلَة من خصال المنافقين، وهي خطيرة جدًّا، ربما أنها تؤول إلى النفاق الأكبر إذا لم يتب منها.

    (يؤذي المؤمنين) بمعنى: أنه يضايق المسلمين بكلامه وبتصرّفاته، يسخر من المسلمين، يتلّمس معايب المسلمين، ينال من الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وينال من المؤمنين، ويتتبّع العثرات. فدلّ على أن إيذاء المسلمين من النفاق.
    قوله:( فقال بعضهم) لم يسمّ القائل، وقد ورد في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

    قوله:( قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: نستجير به، ونحتمي به ( من هذا المنافق). ليردعه عنا ويكفّه عنا. والنبي _صلى الله عليه وسلم_ استنكر هذه اللفظة، فقال:" إنه لا يستغاث بي، وإنما يُستغاث بالله عزّ وجلّ". مع أن الرسول_ صلى الله عليه وسلم_ قادراً على أن يَرْدَع هذا المنافق؟، وأن يُغيث المسلمين من شرّه؟ بلى، هذا من الاستغاثة الجائزة، لأنه استغاثة بالرسول_ صلى الله عليه وسلم_ فيما يقدر عليه، لكن الرسول تأدُّباً مع الله _سبحانه وتعالى_، وتعليماً للمسلمين أن يتركوا الألفاظ التي فيها سوء أدب مع الله عزّ وجلّ، وإن كانت جائزة في الأصل، فقال:" إنه لا يُستغاث بي".
    وهذا من باب التعليم وسدّ الذرائع لئلا يُتَطَرَّق من الاستغاثة الجائزة إلى الاستغاثة الممنوعة، فالرسول _صلى الله عليه وسلم_ منع من شيء جائز خوفاً أن يُفضي إلى شيء غير جائز، مثل ما منع من الصلاة عند القبور، والدعاء عند القبور، وإن كان المصلي والداعي لا يدعو إلاَّ الله، ولا يصلِّي إلاَّ لله، لكن هذا وسيلة من وسائل الشرك، كذلك هنا؛ فالرسول أنكر هذه اللفظة سدًّا للذرائع، وتعليماُ للمسلمين، أن يتجنّبوا الألفاظ غير اللائقة.
    فإذا كان الرسول أنكر الاستغاثة به فيما يقدر عليه، فكيف بالاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلاَّ الله سبحانه وتعالى؟، وكيف بالاستغاثة بالأموات؟ هذا أشد إنكاراً.

    وإذا كان الرسول _صلى الله عليه وسلم_ منع من الاستغاثة الجائزة به في حياته تأدُّباً مع الله، فكيف بالاستغاثة به بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؟، وكيف بالاستغاثة بمن هو دونه من الناس؟ هذا أمر ممنوع ومحرّم. وهذا وجه استشهاد المصنف رحمه الله بالحديث للترجمة. إذاً فقول البوصيري:
    يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم
    إن لم تكن في معادي آخذاً ... بيدي فضلاً وإلاّ قل يا زلّة القدم
    فإن من جودك الدنيا وضرّتها ... ومن علومك علم اللّوح والقلم
    أليس هذا من أكبر الشرك؟
    يقول: ما ينقذ يوم القيامة إلاَّ الرسول_ صلى الله عليه وسلم_ ولا يخرج من النار إلاَّ الرسول، أين الله سبحانه وتعالى؟! ثم قال: إن الدنيا والآخرة كلها من جود الرسول _صلى الله عليه وسلم_ وعلم اللّوح المحفوظ والقلم الذي كتب في اللوح المحفوظ بأمر الله هو بعض علم الرسول، إذ الرسول يعلم الغيب.

    الحاصل: أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ إذا كان أنكر على خواص أصحابه هذه الكلمة، وقال:" إنه لا يستغاث بي". وهذا في الدنيا، مع أنه قادر على أن يغيثهم من المنافق، فكيف يُستغاث به بعد وفاته _صلى الله عليه وسلم_، كيف يُستغاث بمن هو دونه من الأولياء والصالحين ؟، هذا أمر باطل، والاستغاثة لا تجوز إلاَّ بالله، فيكون في هذا شاهد للترجمة: (بابٌ من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعوَ غيره ). والمناسبة ظاهرة ولله الحمد والمنة، وكل هذا من أجل حماية التّوحيد، وصفاء العقيدة، والمنع من كل ما يُفضي إلى الشرك ولو على المدى البعيد.

    الشرك لا يُتساهل فيه أبداً، والطُّرُق التي توصِّل إلى الشرك لا يُتساهل فيها أبداً، وأنتم تعلمون ماذا حصل في قوم نوح، وأن الشرك حصل فيهم بسبب تعليق الصور، والغلو في الصالحين، وكانوا في وقتهم لم يشركوا، ولكن صار هذا وسيلة إلى الشرك فيما بعد؛ لما مات أولئك، ونُسي العلم أو نُسخ العلم عُبدت هذه الصور، فالوسائل إذا تُسوهل فيها أدّت إلى الشرك.
    فالواجب: علينا منع الشرك، ومنع وسائله، وأسبابه، وأن لا نسمح بالألفاظ الشركية، ولا بأي شيء يُفضي إلى الشرك، وعلينا أن نحذر من ذلك صيانةً للعقيدة، وحماية للتّوحيد، وإشفاقاً على المسلمين من الضلال والكفر والإلحاد، فإنه ما حصل هذا الشرك في الأمة، وما حصل هذا الضلال في الأمة إلاَّ لما تساهل الناس في أمر العقيدة، وسكت العلماء عن بيان خطر الشرك، والتحذير من أسباب الشرك، ورأوا الناس على الشرك وعبادة القبور ولم ينهوهم, هذا إذا أحسنّا بهم الظن، وقلنا: إنهم ينكرون هذا بأنفسهم، ولكن ما قاموا بواجب الأنكار، إما إذا كانوا يرون هذا جائزاً، فهذا شرك وكفر لأن من رضي به صار مثل من يفعله.
    نسأل الله عزّ وجلّ أن يحفظ لنا ديننا وعقيدتنا، وأن يجعلنا من الدعاة إليه بالحكمة، والدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن([10]).
    مسألة:
    أسباب استجابة الدعاء عند القبور:
    وأما إجابة الدعاء، فقد يكون سببه اضطرار الداعي وصدقه وقد يكون سببه مجرد رحمة الله له، وقد يكون أمرا قضاه الله لا لأجل دعائه، وقد يكون له أسباب أخرى، وإن كانت فتنة في حق الداعي، فإنا نعلم أن الكفار قد يستجاب لهم فيسقون، وينصرون ويعانون، ويرزقون مع دعائهم عند أوثانهم وتوسلهم بها, وقد قال الله تعالى:{كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء:20]. وقال تعالى:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]. وأسباب المقدورات فيها أمور يطول تعدادها، ليس هذا موضع تفصيلها، وإنما على الخلق اتباع ما بعث الله به المرسلين، والعلم بأن فيه خير الدنيا والآخرة. ولعلي إن شاء الله أبين بعض أسباب هذه التأثيرات في موضع آخر([11]).

    فيه مسائل:
    الأولى:أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص.
    الثانية: تفسير قوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ}
    الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
    الرابعة: أن أصلح الناس لو يفعله إرضاءً لغيره صار من الظالمين.
    الخامسة: تفسير الآية التي بعدها.
    السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً.
    السابعة: تفسير الآية الثالثة.
    الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تُطلب إلا منه.
    التاسعة: تفسير الآية الرابعة.
    العاشرة: أنه لا أضل ممن دعا غير الله.
    الحادية عشرة: أنه غافل عن دعاء الداعي، لا يدري عنه.
    الثانية عشرة: أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له.
    الثالثة عشرة: تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو.
    الرابعة عشرة: كفر المدْعُوِّ بتلك العبادة.
    الخامسة عشرة: هي سبب كونه أضل الناس.
    السادسة عشرة: تفسير الآية الخامسة.
    السابعة عشرة: الأمر العجيب، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين.
    الثامنة عشرة: حماية المصطفى -صلى الله عليه وسلم- حمى التوحيد، والتأدب مع الله.





    ([1]) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/159) , ورجاله رجال الصحيح، غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث , وأخرجه أحمد (5/317 رقم22706) ولفظه:" لا يقام لي إنما يقام لله ". وقال شيخ الإسلام : في الاستغاثة (152) " وهو صالح للاعتضاد ودل على معناه الكتاب والسنة". والحديث ضعفه الشيخ ربيع في تحقيقه لكتاب التوسل والوسيلة (ص254).
    ([2]) مسند الإمام أحمد (4/267)، والترمذي: الدعوات/ باب الدعاء مخ العبادة، وقال: "حديث حسن صحيح" ـ، والحاكم (1/490) - وصححه ووافقه الذهبي-.
    ([3]) أخرجه: أحمد (2/68) , وأبو داود (3/17/1672) , والنسائي (5/28) , والحاكم (1/412) , والبيهقي (4/99) وصححه الحاكم والحافظ في "تخريج الأذكار"; كما في "الفتوحات الربانية" (5/250) .
    ([4]) أخرجه: مسلم في السلام, باب من حق المسلم للمسلم,( 4/1705) ; عن أبي هريرة رضي الله عنه.
    ([5]) انظر فتح المجيد :(ص193), والقول المفيد:(ج1_ص260).
    ([6]) رواه أحمد برقم: (18352) وابو داود: (1479),والترمذي: (2969) ,والنسائي: (11464) , وابن ماجه: (3828) والحاكم: (1/667) , وابن حبان: (3/172/ 890) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه والحديث صححه الألباني.
    ([7]) ينظر التمهيد:(ص175_ص177).
    ([8]) انظر التمهيد :( ص178_ص182).
    ([9]) تفسير العلامة السعدي (608).
    ([10]) إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد: (ج1_ص200_203) .
    ([11]) اقتضاء الصراط المستقيم: (ص431_432).

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •