د/تامر بكر.
إنه مما دار عليه الزمان أنَّ بعض الذين حقيقة أفكارهم هي محاولة خلط الإسلام بالليبرالية والعلمانية، أخذوا يُروَّجون لرؤية -يرونها جديدة- للسنة النبوية!، بهدف خلخلة المصدر الثاني للتشريع.
إن الليبراليين الإسلاميين يرون بدرجات مختلفة أنَّ السُّـنَّة تراث أكثر من أن تكون وحياً(1)، وهو افتراض يجعل السُّـنَّة مجرد نص يمكن إخضاعه للنقد وبالتالي يمكن قبوله أو رفضه! والسنة بالجملة عندهم ليست قطعية الثبوت؛ اللهم إلا الأحاديث المتواترة(2)؛ لأنهم توهموا أن مجرد الاختلاف حول تصحيح أو تضعيف الأحاديث بين المُحدّثين، هو دليل في حد ذاته على عدم ثبوت الحديث!، وهم بذلك يشترطون مطلقا للعمل بالحديث أن يكون متواترا،ثم إن بعضهم يرى أن شروط التصحيح هي شروط تخص السند دونما مضمون الحديث(المتن)، وأن تلك الشروط في حد ذاتها هي الشروط التي وضعها جامع الحديث لنفسه، "(3) مما يعني أنه لا أحدٌ من دون واضعي الشروط ملزم بالنتائج المترتبة عليها، ثم إنهم يرتبون على ذلك كله أن السنة بالجملة ليست حجة في التشريع!(4)، وإنما وظيفتها تبيين ما في القرآن، وليس الإتيان بتشريع جديد أو إضافي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عندهم كان مجرد مبلغ فقط، وليس مُشرِّعا، ويستدلون على ذلك بقول الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (النحل 44)، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(الم ائدة67)(5)، وبناء على ذلك يرى الليبراليون الإسلاميون أنه لابد من قبول أحاديث العبادات؛ لأن ذلك ضرورة تفرض نفسها، ثم بعد ذلك فلابد من عرض الحديث على القرآن؛ فإن شهد له القرآن قبلوه، وإن لم يشهد له –حسب فهمهم- توقفوا في قبوله أو نفيه.(6)
فيتشابهون نتيجة ذلك مع من يُسمون زورا بالقرآنيين في عدم اعتبار السنة حُجّة في التشريع!(7)، ويختلفون عنهم في ذات الوقت في أن الليبراليين الإسلاميين يعتبرون السنة تطبيقا عمليا وتوظيفا للقرآن وفقط! والتطبيق –أي تطبيق– إنما هو في الأساس نسبي، ويخضع لظروف الزمان والمكان والبيئة!
ولذلك فلا عجب أن نجد كل من: أحمد صبحي منصور(القرآني المعروف)(8) ومحمد عابد الجابري، قد توصلا لرأي واحد في إسقاط(حد الردة) في الدنيا، وعلى الرغم أنهما توصلا لنتيجة واحدة؛ إلا أن هناك فرقا بينهما في تناول تلك المسألة، وهو أن الأخير طبّق موقفه من الحديث عموما وهو قبول أحاديث العبادات، والتوقف في الأحاديث التي لا يشهد لها القرآن، ومنها -عنده– حديث المرتد، فقد توقف عن إثباته أو نفيه؛ ولعله رأى فيه شبهة سياسية! بينما تجرأ منصور على الطعن في صحة الأحاديث وفي رواتها، فطعن في الإمام مسلم !
إننا نقول لأي قائل بأن القطع بالثبوت من لوازم الحُجيّة، " نقول له: لا نسلم لك ما بنيت عليه هذا الفهم...على عمومه؛ بل في العقائد وأصول الدين، دون الأحكام الفرعية والمسائل الفقهية، وهذا أمر تقرر في علم الأصول في مسألة التعبد بالخبر الواحد"(9)، وهو أيضا رأي وإن قال به علماء فضلاء من أعلام الأمة قديما وحديثا؛ فإنه لا يسلم من الاعتراض عليه؛ واعتباره مرجوحا؛ لأن أهل السنة والمُحدّثين متى صح الحديث عندهم في العقائد أو في الأحكام الفرعية والمسائل الفقهية، تلقوه بالقبول والتسليم، ومن ثَمَّ عملوا به، وخبر الثقة عندهم يفيد العلم اليقيني، دون أن يفرقوا بين الأصول والفروع.(10)
والحقيقة: إن علماء الحديث دارت مباحثهم حول الإسناد والمتن معا من حيث القبول والرد، والإسناد مجموعة من رواة الحديث يبحث في أحوالهم تحملا وأداء ،وجرحا وتعديلا، ومعرفة موطنه وأسرته، ومولده ووفاته، وأما أحوال المتن أو المروي فهي ما يتعلق بشروط الرواية عند التحمل والأداء، وبالأسانيد من اتصال وانقطاع أو إعضال أو ما شابه ذلك، وهي أمور امتلأت بها كتب مصطلح الحديث.
كما أن علماء الحديث قد اختلفوا قديما وحديثا في حكمهم على الأحاديث بالتصحيح أو التضعيف، وذلك تبعا لمعرفة كل منهم بحال الرواة، أو نظرا لأن بعضهم كان يحكم على الراوية الموجودة أمامه فقط، والحديث قد يكون له روايتان إحداهما رواتها فيهم ضعف، و الأخرى رواتها من الثقات، وعلى ذلك فلا غرابة في تعدد النقد للحديث الواحد، بل لا غرابة في تراجع أحد علماء الحديث عن بعض أحكامه على الأحاديث إذا ظهرت له حول الحديث معلومات لم يكن يعرفها.
فإذا قيل: ماذا يفعل المسلم تجاه هذا الاختلاف؟
والجواب: الناسُ أصنافٌ ثلاثةٌ في هذه المسألة:
إما عالم حديث مجتهد، وهذا لا إشكال لديه، لأنه بعلمه سيحكم بنفسه على الحديث.
وإما طالب لعلم الحديث، وهذا سيتعرف على أسباب الأحكام المختلفة بتصحيح أو تضعيف الحديث عند العلماء المختلفين في أحكامهم، وسيستطيع المقارنة بينها، ويتفهم ما فيها، وعندئذ يمكنه أن يختار عالما يتبعه في اجتهاده بعلم وبصيرة .
وأما الصنف الثالث، فإنهم المقلدون، وهم عامة الناس، وهؤلاء عليهم أن يختاروا عالم حديث أو علماء يثقون في علمهم ، فيتبعون أحكامهم.
وتلك الأصناف الثلاثة لا يسعهم إلا العمل بما يصح لدى كل منهم من الأحاديث –اجتهادا أو تقليدا– من دون الالتفات لوجود اختلاف حول تصحيحها أو تضعيفها؛ لأن مثل ذلك النوع من الاختلاف يعده العلماء اختلافا سائغا مقبولا .
وأما مسألة كون السنة تطبيقا عمليا للقرآن؛ فإن ذلك في الحقيقة لا ينافي حجيتها في التشريع، وقد بين ذلك الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري الأسبق، الذي قال في مقال له: "إن السنة النبوية هي البيان النبوي للبلاغ القرآني، وهى التطبيق العملي للآيات القرآنية، التي أشارت إلى فرائض وعبادات وتكاليف وشعائر ومناسك ومعاملات الإسلام.
فالتطبيقات النبوية للقرآن -التي هي السنة العملية والبيان القولي الشارح والمفسر والمفصّل- هي ضرورة قرآنية، وليست تزيّدًا على القرآن الكريم.
وهي تأسيًا بالرسول، وقيامًا بفريضة طاعته -التي نص عليها القرآن الكريم. والعلاقة الطبيعية بين البلاغ الإلهي -القرآن- وبين التطبيق النبوي لهذا البلاغ الإلهي -السنة النبوية- فهى أشبه ما تكون بالعلاقة بين الدستور وبين القانون. فالدستور هو مصدر ومرجع القانون. والقانون هو تفصيل وتطبيق الدستور، ولا حجة ولا دستورية لقانون يخالف أو يناقض الدستور. ولا غناء ولا اكتفاء بالدستور عن القانون"(11)
ولإن اتفقنا مع القائلين بأن الحديث مبين ومفصل لما في القرآن إلا أننا لا نسلم لهم بأن السنة منحصرة مطلقا في هذا التبيان والتفصيل والتطبيق، فالمسألة ليست أبدا بهذه البساطة بل يقتضي الأمر سرد النصوص القرآنية الدالة على وجوب العمل بالسنة النبوية، مشفوعة بتطبيقها العملي في واقع السيرة النبوية ومقرونة بفهم الرعيل الأول من الصحابة لمدلولها المتبادر من غير تكلف ولا اعتساف لأنهم أقرب لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ولسنته ولأنهم يتكلمون اللغة العربية الضرورية لفهم الخطاب القرآني والنبوي بالسليقة.
إن السنة النبوية تنفرد بالتشريع حين يسكت القرآن عن التصريح، يقول الشاطبي: "كل أدلة القرآن تدل على أن ما جاء به الرسول ،وكل ما أمر به ونهى عنه ،فهو لا حق في الحكم بما جاء في القرآن، فلابد أن يكون زائدا عليه"(12)، فالمعنى إذن أن السنة النبوية بين أمرين: فهي إما مستقلة في التشريع بما ليس في القرآن، وإما مفسرة لمجملات القرآن، لا مناص من هذا.
إن" منزلة السنة من القرآن أنها مبينة له وشارحة: تفصل مجمله، وتوضح مشكله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، وتبسط ما فيه من إيجاز، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ولعلهم يتفكرون} (النحل الآية 44)...، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبين تارة بالقول وتارة بالفعل وتارة بهما معاً، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه فسر الظلم في قوله سبحانه: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) بالشرك(13)، وفسر الحساب اليسير بالعرض في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}(14) ".(15)
"وقد تستقل السنة بالتشريع أحيانا وذلك كتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها, وتحريم سائر القرابات من الرضاعة –عدا ما نص عليه في القرآن– إلحاقا لهن بالمحرمات من النسب, وتحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير, وتحليل الميتة البحر, والقضاء باليمين مع الشاهد إلى غير ذلك من الأحكام التي زادتها السنة عن الكتاب.
وقد اتفق العلماء الذين يعتد بهم على حجية السنة, سواء منها ما كان على سبيل البيان أو على سبيل الاستقلال"(16)
"ذلكم أن المقرر لدى الأمة المسلمة أن الوحي المنزل على الرسول -صلى الله عليه وسلم- من قبل الله - سبحانه - نوعان:
الأول: هو القرآن العظيم...، أما النوع الثاني من الوحي: فهو السنة النبوية المطهرة بأقسامها القولية والفعلية والتقريرية، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هي من وحي الله -عز وجل- إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- باتفاق الأمة المسلمة، وذلك لما قام الدليل من كتاب الله تعالى على ذلك في آيات كثيرة، ثم لما صَرَّحت به السنة النبوية، ثم لما أجمع عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم إلى يوم الدين -بحول الله تعالى.
وإذا كان الشاغبون على سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يزعمون أنهم يستمسكون بالقرآن المجيد مكتفين به عن السنة؛ فلنذكر بعض ما جاء به القرآن الكريم من الآيات البينات التي تشهد وتصرح بأن السنة وحي من عند الله -سبحانه- إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- ...، فمن الآيات القرآنية التي تدل على أن السنة وحي قول الله -عز وجل-: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى}(النجم 3 - 4) وهذه الآية نص قاطع في أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يأتي بشيء من عنده، وأن كل ما ينطق به في مجال التشريع إنما هو وحيٌ من عند الله تعالى، سواء كان وحياً من النوع الأول وهو القرآن، أو من النوع الثاني وهو السنة النبوية.
ومن ذلك -أيضاً- قوله -تبارك وتعالى– {لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة* وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} (آل عمران 164)...
وقد ذهب أهل العلم والتحقيق إلى أن المراد بالحكمة إنما هو: السنّة النبوية، فإن الله تعالى قد مَنَّ على المؤمنين بإرسال الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي جعل رأس رسالته أن يعلم أمته المؤمنة شيئين: الكتاب والحكمة.
ولا يجوز أن تكون الحكمة هي الكتاب، فإنها معطوفة عليه، والعطف يقتضي المغايرة، ولا يجوز أن تكون شيئاً آخر غير السنة، فإنها عطفت على الكتاب، فهي من جنسه في المصدر والغاية...
يقول الشافعي(17) -رحمه الله تعالى-: (فذكر الله الكتاب وهو القرآن، وذكر الحكمة، فسمعت مَن أرضى مِن أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا يشبه ما قال -والله أعلم- لأن القرآن ذُكر، وأُتْبِعَتْه الحكمة، وذكر الله منَّه على الخلق بتعليمهم الكتاب والحكمة، فلم يجز -والله أعلم- أن يقال الحكمة هنا إلا سنّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذلك أنها مقرونة بالكتاب، وأن الله افترض طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وحتم على الناس اتباع أمره، فلا يجوز أن يقال لقول فرض إلا لكتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-)"(18)

وكتبه: د. تامر بكر


===================
)1) محمَّد أركون )الفكر الإسلامي نقد واجتهاد)، دار الساقي ببيروت، ط5/ 2009م (ص 102.(
(2)هو الحديث المنقول عن عدد من الرواة يحصل العلم بصدقهم، ضرورة بأن يكونوا جمعا لا يمكن تواطؤهم على الكذب، يروونه عن مثلهم عن مثلهم إلى الرسول.
(3) عابد الجابري (بنية العقل العربي) مركز دراسات الوحدة العربية، ط9/ 2009م، (ص : 118)
(4)أي أن السنة دليل على حكم الله: يفيدنا العلم أو الظن به، ويظهره ويكشفه لنا. فإذا علمنا أو ظننا الحكم بواسطته: وجب علينا امتثاله والعمل به" [عبد الغني عبد الخالق(حجية السنة) دار الوفاء بالمنصورة، ط2/ 1413هـ، 1993م(ص243)]
(5) محمد عابد الجابري(موقعه الألكتروني)، على الرابط التالي:www.aljabriabed.net/hadth1.htm
(6) الجابري، المرجع السابق.
(7) اقتصر غلاة الخوارج على الاحتجاج بالقرآن الكريم، وأنكروا الاحتجاج بالسنة النبوية المطهرة، كما رفضوا الاحتجاج بالإجماع والقياس. [د/ على غازي تفاحة(تاريخ التشريع الإسلامي) منارات للإنتاج الفني والدراسات(ص188)]
(8)أحمد صبحي منصور (حد الردة دراسة أصولية تاريخية)، مؤسسة الانتشار العربي، ط1/ 2008م
(9) حجية السنة، مرجع سابق(ص410)
(10) انظر: الملا علي القاري (شرح نخبة الفكر) دار الأرقم بيروت، ط1/ 1999م، خبر الآحاد(ص119)
(11) د. محمود حمدي زقزوق) حول الاستغناء بالقرآن عن السنة( الموقع الرسمي لوزارة الأوقاف المصرية، بتاريخ 20 شوال 1424، على الرابط التالي:
www.eld3wah.net/html/truth-islam/64.htm
(12) الموافقات(4/ 14)
(13) أخرجه البخاري في الصحيح(3360)، ومسلم( 124 ) من حديث عبد الله بن مسعود.
(14) أخرجه البخاري في الصحيح(4939)، ومسلم (2876) من حديث عائشة.
(15) د. محمد أبو شهبة (دفاع عن السنة) مكتبة السنة، ط1/ 1409هـ، 1989م(ص11)
(16) المرجع السابق(ص13)
(17) الرسالة(ص 78)، وراجع(السنة ومكانتها من التشريع) د.مصطفى السباعي(ص 50)
(18) د. محمود بن محمد مزروعة) شبهات القرآنيين حول السنة النبوية) مجمع الملك فهد، 1421هـ، (ص411: 424)، بتصرف.