يقول السائل : من شبهات منكري السنة أنهم يقولون كيف يكون نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تدوين حديثه ثم ياتي من يخالفه ويدون الأحاديث النبوية في كتب ؟ فما الرد عليهم ؟---الجواب:
الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد
فيمكن تلخيص الجواب عن هذا الإشكال في جملة مسائل:
المسألة الأولى: لم تكن الكتابة مشهورة عند العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد بعثته، فقد كان الذين يحسنون الكتابة قلة، وإنما كانوا مشهورين بصفاء الذهن، وسرعة الحفظ، وجودة الذاكرة.

المسألة الثانية: كان القرآن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم منجَّمًا حسب الوقائع والأحداث، تثبيتًا لفؤاده صلى الله عليه وسلم.
وكلما نزل منه شيء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابته، فيُكَتب فيما تيسر من الجلود والأحجار ونحوها.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا يوجِّه أصحابه ويرشدهم، ويأمرهم وينهاهم، فخشي في أول الأمر أن يلتبس المكتوبُ من القرآن بما يُكَتب من سنته عليه الصلاة والسلام، فنهى عن كتابة غير القرآن؛ فقال كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "لا تكتبوا عني غيرَ القرآن، ومَنْ كتب عني غير القرآن فليَمْحُه، وحدثوا عني ولا حرج".
فهذا النهي إنما ورد خشية التباس القرآن بغيره مما يتكلم به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فنهى عن ذلك، ثم أباح الكتابة، بل أمر بها؛ كما سيأتي بيانه.
ويحسن الإشارة إلى أن بعض المحدثين الكبار تكلم في حديث النهي عن الكتابة، وجزم بعدم ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكننا سنناقش المسألة على التسليم بصحة حديث النهي.

المسألة الثالثة: ثبتت الكتابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، بل ثبت أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالكتابة، واشتهرت صُحُفٌ لبعض الصحابة رضي الله عنهم.
وفيما يلي جملة من الأحاديث التي تدل على الأمر بالكتابة، أو عمل الصحابة بها:
1- ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله حبس عن مكة الفيل، وسَلَّطَ عليها رسولَه والمؤمنين، وإنها لم تحلَّ لأحدٍ كان قبلي، وإنها إنما أُحِلَّت لي ساعة من نهار...) الحديثَ، وهو حديث طويل، وفيه قصة.
وفي آخره أن رجلاً من أهل اليمن يقال له أبو شاهٍ؛ كان حاضرًا هذه الخطبة، فقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اكتبوا لأبي شاهٍ).
2- روى أبو داود وغيره؛ بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: كنتُ أكتبُ كلَّ شيءٍ سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنَهَتْنِي قريش، وقالوا: تكتبُ كلَّ شيء! ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم بشرٌ، يتكلم في الغضب والرضى!
قال: فأمسكتُ عن الكتاب، حتى ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ بإصبعه إلى فِيْه، وقال: (اكتبْ، فَوَالذي نفسي بيده، ما نُخرِج منه إلا حقًا).
3- روى البخاري في صحيحه أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحدٌ أكثرَ حديثًا عنه مني، إلا ما كان من عبدالله بن عمرو، فإنه كان يكتب، ولا أكتب.
4- وروى البخاري من حديث أبي جحيفة؛ وهب بن عبد الله السوائي قال: قلت لعليٍّ: هل عندكم شيءٌ من الوحي مما ليس في القرآن؟ قال: لا؛ والذي فَلَقَ الحبَّة، وبَرَأَ النَّسمة، إلا فهمٌ يُعطِيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة. قلتُ: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العَقْل، وفكاك الأسير، وأن لا يُقتل مسلم بكافر.
5- وروى أحمد في المسند من حديث نافع بن جبير، قال: خطبَ مروانُ الناس، فذكر مكةَ وحُرمتَها، فناداه رافع بن خديج، فقال: إن مكة إن تكن حَرَمًا؛ فإن المدينةَ حَرَم حرَّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مكتوبٌ عندنا في أَدِيْم خَوْلاني، إن شئتَ أن نُقْرِئكه فَعَلْنا!.
6- كذلك كتاب الصدقة الذي أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم بكتابته، وفيه فرائض الصدقة، وعمل به أبو بكر والصحابة من بعده رضي الله عنهم.
خرجه أبو داود وغيره، وأصله في البخاري.
7- وكذلك كتاباته عليه الصلاة والسلام إلى الملوك، ككتابه إلى هرقل، وكسرى، والنجاشي، والمنذر بن ساوى، والمقوقس عظيم القبط، والحارث بن أبي شَمِر الغَسَّاني، وغيرهم.
هذه وغيرها تدل على إثبات كتابة الحديث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتواترها تواترًا معنويًّا، يجزم بها كل مطلع على تلك الأحاديث.

المسألة الرابعة: بعض الملبِّسين على السنة النبوية، والمثيرين للشبهات؛ يستدلون بحديث النهي عن كتابة غير القرآن؛ على أن السنة لم تُكتَب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كتبت بعده بعشرات السنين، وبناء عليه قد يكون دخلها الخلل!
فيقال لهم: إن الخلل الذي تدَّعونه واردٌ على الحديث الذي تستدلون به! فكيف تستدلون به على حصول الخلل!
ثم إن ذلك العصر لم تكن فيه الكتابةُ وسيلةً لنقل العلم وحفظه، وإنما كانت المشافهة وسيلتهم الأولى في نقل العلم، والأخبار، لاشتهار أهله بصفاء الذهن، وقوة الحفظ، وأخبارهم في هذا مشهورة.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يحدث بعضهم بعضا، ويروي بعضهم لبعض ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو رآه من فعله، مع الحرص على التثبت.
واشتهرت مجالس العلم والتحديث بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في المدينة، ومكة، ثم في الكوفة والبصرة، ومصر، والشام، وبعث عمر رضي الله عنه الصحابة إلى الأمصار التي افتتحوها؛ ليقرؤوا الناس القرآن، ويعلموهم العلم، ويحدثوهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا كله مع وجود من يكتب في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده.

كتبه: عبد الله بن جابر الحمادي.