يقول السائل :ما حقيقة الخلاف بين ابن تيمية ، والسبكي ..هل هو في قضايا فقهية يسوغ فيها الخلاف أم قضايا العقيدة ؟---الجواب :وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإن الخلاف بين شيخ الإسلام ابن تيمية والعالم الأصولي أبي الحسن السبكي - رحمهما الله- ينقسم إلى قسمين:

الأول: خلاف في الأصول العقدية وهو في الحقيقة يرجع إلى تمشعر السبكي وخروجه عن جادة أهل السنة والجماعة: التي تبنى ابن تيمية نصرتها والدعوة إليها.

الثاني: في الفروع الفقهية والتي يسوغ فيها الخلاف ولا يُثرّب على المخالف.

إلا أنّ التعصبُ المذهبي قد حمل أبا الحسنِ الـسُّـبْكي- عفا الله عنه- وتابعه في ذلك ابنه عبدالوهاب -صاحب طبقات الشافعية الكبرى- على القدح والنيل من شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله- وأفرد تقي الدين السبكي بعض مؤلفاته في الرّد عليهما، ووصمهم بالحشوية، والمبتدعة([1]) ، وغير ذلك من الألفاظ الشنيعة، حتى اشتهر بعدائه الشديد لهما، وتحذيره منهما، بلا بيّنة ولا برهان، وتلّقف عنه كثيرٌ من أرباب البدع بعده، ما صدرَ عنه من دعاوى في حقهما، وشنع بها عليهما.

ولا شك أنّ «علامة أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر وعلامة الزنادقة تسميتهم أهل السنة حشوية»([2]).

ويمكن تقسيم المسائل التي كان ينقم بها الـسُّـبْكي-غفر الله لـه- على شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله– إلى ضربين:

أولاً: مسائل أصول الدين (الاعتقاد)، وهي بحسب زعمه:

[1] القول بالجسمية والتركيب في ذات الله تعالى.

[2] حلول الحوادث بذاته تعالى.

[3] تسلسل الحوادث والقول بحوادث لا أول لها.

[4] القول بتحريم شد الرحل لمجرد زيارة قبر النبي  .

[5] القول بفناء النّار([3]).

ثانياً: مسائل الفروع (الفقه)، ومن أهمها: القول بأنّ الطلاق الثلاث يقع طلقةً واحدة، وتعليق الطلاق على وجه اليمين بالكفّارة([4]).

وهذه المسائل التي شنّع بها الـسُّـبْكي وغيره من المناوئين على الإمام على أقسام:

* منها ما هو كذب وزور وبهتان منه عليه، كنسبة القول بالجسمية والتركيب في ذات الله، وحلول الحوادث بذاته تعالى، وتسلسل الحوادث والقول بحوادث لا أول لها.

* ومنها ما قام الدليل الصحيح عليه كالقول بتحريم شد الرحال لمجرد زيارة قبر النبي  .

* ومنها ما اختلف أهل العلم في تحديد رأي الإمام فيه، كالقول بفناء النار، مع اتفاقهم على أنه لم يخرج في جميع ما نُسب إليه عن المأثور من أقوال السلف([5]).

والمتتبع لأقوال الـسُّـبْكي وتكلّفه في الرد على ابن تيمية! يرى تهافت مذهبه، وضعف حجته، وعدم مقدرته على مقاومة الأدلة من نصوص الوحيين، والحجج التي استدّل بها شيخ الإسلام على مذهبه، قال ابن الوردي([6]) في تاريخه عن شيخ الإسلام: «هو أكبر من أن ينبه مثلي على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام، لحلفت: أنّي ما رأيت بعيني مثله، ولا رأى هو مثل نفسه في العلم، وكان فيه قلّة مداراة، وعدم تؤدة غالباً، ولم يكن من رجال الدول، ولا يسلك معهم تلك النواميس، وأعان أعداءه على نفسه بدخوله في مسائل كبار لا يحتملها عقول أبناء زماننا، ولا علومهم، كمسألة: التكفير في الحلف بالطلاق، ومسألة أنّ الطلاق بالثلاث لا يقع إلا بواحدة وأنّ الطلاق في الحيض لا يقع([7]).

وقد انتصر كثير من أهل العلم لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومنهم أبو المظفر السرمري([8]) في قصيدته التي وســمها: بالحمية الإســـلامية في الانتصـــار لمذهب ابن تيمية؛ رداً على دعاوى الـسُّـبْكي التي لا تستند إلى دليل أو برهان.

ومما ورد من كلام الـسُّـبْكي عن الإمام ابن القيم: «الإنسان يضطر إلى الكلام مع الجهال والمبتدعين؛ صيانةً لعقائد المسلمين وليت كلامي كان مع عالم أو مع زاهد أو متحفظ في دينه صيِّن في عرضه قاصد للحق, ولكنها بلوى, نسأل الله حسن عاقبتها»([9])، ويَصمه بالإلحاد والعياذ بالله فيقول:«فهو الملحد عليه لعنة الله, ما أوقحه، وما أكثر تجرأه؟!، أخزاه الله!!!»([10])، وغير ذلك من العبارات التي في نقلها تضييع للمداد والقِرطاس.

قال العلامة الألوسي: «والمقصود أنّ قدح مثل الـسُّـبْكي بمثل الشيخ ابن تيمية كصرير باب، وطنين ذباب، ولولا التُقى لقلنا: لا يضر السحاب نبح الكلاب»([11]).

ومع أنّ الـسُّـبْكي قد تنّقص من شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -كما تقدّم- إلا أنّه لم يجد بُداً من الاعتراف بالفضل والعلم لابن تيمية؛ حين كتب الإمام الذهبي إلى الـسُّـبْكي معاتباً له بسبب ما وقع منه في حق شيخ الإسلام ابن تيمية.

فأجاب الـسُّـبْكي الذهبيَّ ومن جُملة جوابه، قال: «وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين فالمملوك يتحققُ كبيرَ قدرهِ، وزخارةَ بحره، وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده، وبُلوغه في كلٍّ من ذلك المبلغَ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً وقدره في نفسي أكبر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة، والورع، والديانة، ونصرة الحق، والقيام فيه لا لغرض سواه، وجريه على سَنَن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان بل فيما مضى من أزمان»([12]).

ولعلَّ أبا الحسن الـسُّـبْكي قد ندم على ما بدر منه تجاه شيخ الإسلام ابن تيمية فقال ما قال في جوابه للذهبي، وأيضاً قد ذكر الإمام ابن كثير أنّ وقع مصالحة بين ابن القيم والـسُّـبْكي -رحمهما الله- سنة 750 هـ([13]).

وأختم هذا الجواب ببعض النقول من خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم مما يبيّن فضلهما وعلمهما، وأنّ مقارنتهما بأبي الحسن الـسُّـبْكي حطٌ لمكانتهما؛ فمع فضل أبي الحسن الـسُّـبْكي ومكانته الفقهية عند الشافعية، إلا أنّ البون بينه وبين شيخ الإسلام كبير.

يقول أحمد بن الصديق الغُماري:«وما ردّ به التقي الـسُّـبْكي على ابن تيمية في هذه المسألة، لم أستفد منه شيئاً ما، لماّ قرأته منذ عشرين سنة إلاّ معرفةَ أنّ التقي الـسُّـبْكي فضلاً عن ابنه التاج خلاف ما كنّا نَظنُ به وخلاف ما يهوّل به ابنه عنه، فإنّي كتبت في تلك الساعة بآخر الرد كتابة. مَضْمنُها: إن بين الـسُّـبْكي وابن تيمية بوناً كبيراً في العلم وقوة الاستدلال وأن الثاني أعلم بمراحل»([14]).

ولقد أنصف بهاء الدين أبو البقاء محمد بن عبد البر الـسُّـبْكي([15])، حيث قال لبعض من ذَكَر له الكلام في ابن تيمية فقال: «والله يا فلان ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل، أو صاحب هوى؛ فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصدّه هواه عن الحق بعد معرفته به»([16]).

ومما يدّل على مكانة شيخ الإسلام أنّ عبد الوهاب الـسُّـبْكي -وهو ممن تابع والده في العداوة لشيخ الإسلام ابن تيمية - كتب في ترجمة أبيه تقي الدين الـسُّـبْكي وثناء الأئمة عليه، بأن الحافظ المزّي لم يكتب بخطه لفظة شيخ الإسلام إلا لأبيه وللشيخ تقي الدين ابن تيمية وللشيخ شمس الدين ابن أبي عمر([17])، فلولا أن ابن تيمية في غاية العلو في العلم والعمل ما قرن ابن الـسُّـبْكي أباه معه في هذه المنقبة التي نقلها، ولو كان ابن تيمية مبتدعاً أو زنديقاً ما رضي أن يكون أبوه قريناً له([18]).

______________________________ __________
([1]) انظر: السيف الصقيل (ص16-17)، الدرة المضية في الرد على ابن تيمية (ص 151، 152، 158، 160).
([2]) اعتقاد أهل السنة (1/179)، وانظر: الحجة في بيان المحجة (1/220)، أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات والمحكمات والمتشابهات لمرعي الحنبلي (ص115).
([3]) انظر: السيف الصقيل(ص17-18)، الدرة المضية في الرد على ابن تيمية (ص 151-152)، الاعتبار ببقاء الجنّة والنّار.
([4]) انظر: الدرّة المضية للسبكي (ص152).
([5]) انظر: ذيل تاريخ الإسلام للذهبي ضمن الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية (ص269)، غاية الأماني في الرد على النبهاني (1/559)، جلاء العينين في محاكمة الأحمدين لنعمان الألوسي (ص 427). وللاستزادة راجع: دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ابن تيمية للدكتور/عبد الله الغصن.
([6]) هو عمر بن مظفر بن عمر ابن أبي الفوارس، أبو حفص، زين الدين ابن الوردي، شاعر أديب ومؤرخ، من كتبه: ديوان شعر -فيه بعض نظمه ونثره-، وتتمة المختصر يعرف بتاريخ ابن الوردي، وشرح ألفية ابن مالك، توفي بحلب سنة 749هـ.
انظر: شذرات الذهب (6/161)، الأعلام (5/67).
([7]) تاريخ ابن الوردي (2/278-279).
([8]) هو يوسف بن محمد العبادي السرمري, أبو المظفر جمال الدين السرمري, نزيل دمشق, حافظ للحديث، من علماء الحنابلة، ولد بسامراء, وتفقه ببغداد، ورحل إلى دمشق فتوفي بها سنة 776هـ.
له نحو مئة مصنف، منها: إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، وكتاب الأربعين الصحيحة، غيث السحابة في فضل الصحابة.
انظر ترجمته في: شذرات الذهب (6/249)، الأعلام (8/250).
([9]) السيف الصقيل(ص22).
([10]) المصدر السابق (ص41).
([11]) غاية الأماني في الرد على النبهاني(1/452).
([12]) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة (1/186)، وانظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/392)، الردُّ الوافر على من زعم بأنّ ابن تيمية شيخ الإسلام كافر لابن ناصر الدين الدمشقي (ص52)، شذرات الذهب (6 /83)
([13]) انظر: البداية والنهاية ( 18/117).
([14]) درُّ الغَمام الرقيق (ص227).
وقد جمع الدكتور/ صادق سليم كلام الشيخ أحمد بن الصديق في ذم الأشاعرة والمتكلمين والفلاسفة، وضمنّها مقدمة في الرد على بعض محبيه ومُعظميه، وهي رسالةٌ لطيفةٌ في إلجام متمشعرة هذا العصر.
([15]) هو محمد بن عبد البر بن يحيى، بهاء الدين، أبو البقاء السبكي، فقيه شافعي، من العلماء بالعربية والتفسير. والأدب، ولي قضاء دمشق ثم قضاء طرابلس، وعاد إلى القاهرة، فولي قضاء العسكر ووكالة بيت المال والقضاء الكبير.ثم ولي قضاء دمشق.
من كتبه: مختصر المطلب في شرح الوسيط، وشرح الحاوي الصغير للقزويني، وقطعة من شرح مختصر ابن الحاجب، توفي سنة 785هـ
انظر: شذرات الذهب (6/288)، الأعلام (6/184).
([16]) نقله ابن ناصر الدين الدمشقي في الرد الوافر (ص24).
([17]) انظر: طبقات الشافعية الكبرى (10/195).
([18]) الشهادة الزكية لمرعي الكرمي (ص85).

عجلان بن محمد العجلان.