حكم إهداء ثواب الحسنات للأموات *
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وآله وصحبه، أما بعد:
فإن مسألة إهداء ثواب الحسنات من الأحياء إلى الأموات مسألة طويلة الذيول متشعبة الفروع، في بعضها اتفاق وفي البعض الآخر اختلاف، وعليه فلا بد من تحرير محل النزاع أولاً.
وقبل ذلك أشير إلى بعض التنبيهات المتعلقة بالموضوع:
1ـ رأى بعض المتأخرين صحة الإهداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم (1)، والصحيح المقطوع به أن ذلك بدعة لا تجوز؛ لعدم قيام الصحابة بذلك؛ ولأنه مثاب -عليه الصلاة والسلام- على جميع أعمال المؤمنين بدون إهداء، فلا حاجة له(2).
2ـ لا فرق في مسألة الإهداء هذه بين الإهداء للكبار والإهداء للصغار، فما جاز هنا جاز هنا، وما مُنع منه هنا مُنع منه هنا(3).
3ـ قرر شيخ الإسلام ابن تيمية -وهو من المتوسعين في إهداء الحسنات للأموات- أنه لم يكن من عمل السلف إهداء الحسنات لجميع المسلمين(4).
4ـ سيأتي البحث قريباً –إن شاء الله- في مسألة إهداء ثواب القراءة وغيرها من أعمال البدن غير أنه لا بد من التفريق بين القراءة الاحتسابية -وهي التي فيها الخلاف- وبين استئجار القرَّاء لقراءة القرآن للميت؛ فهذا لا ثواب للميت فيها قطعاً؛ لفقد هذه القراءة شرط الإخلاص، وهكذا الشأن في سائر العبادات(5).
وبعد هذه المقدمات ينتقل الحديث إلى تحرير محل النزاع.
فيقال: إن العلماء اتفقوا -في هذا الموضوع- في جانب واختلفوا في جانب آخر، أما الجانب المتفق عليه فما يأتي:
1ـ اتفق العلماء على انتفاع الميت المسلم بدعاء إخوانه المسلمين(6)، والأدلة على هذا كثيرة معلومة؛ فلا أطيل بذكرها.
2ـ اتفق العلماء على وصول ثواب الصدقة عن الميت، وبعضهم عبَّر بالعبادات المالية، فيدخل في ذلك العتق أيضاً، وظاهر نقل العلماء أنه لا فرق بين الابن وغيره في ذلك(7).
وقد خالف بعض أهل البدع –وهم المعتزلة- في هذه المسألة؛ فرأوا أن الميت لا ينتفع بعد موته بشيء البتة، لا بدعاء ولا صدقة ولا غير ذلك(8)، وهو قول ساقط مردود بالنصوص الصحيحة الصريحة.
3ـ اتفق العلماء على انتفاع الميت بقضاء الدين عنه، وبعضهم عبَّر بقضاء الواجبات التي تقبل النيابة(9)، ويدخل في ذلك الكفارات والنذور.
4ـ نقل الاتفاق على صحة الحج عن الميت وانتفاعه به(10)، لكن عند المالكية(11)، وفي الأصح عند الشافعية يُقيد الجواز بما إذا أوصى الميت بذلك(12).
5ـ اتفق العلماء على عدم جواز إهداء الإيمان لمن لم يكن مؤمناً(13).
6ـ اتفق العلماء على عدم جواز إهداء أعمال القلوب(14).
أما الجانب المختلف فيه: فهو المسألة الخلافية الشهيرة بين العلماء؛ وهي حكم إهداء العبادات البدنية-من صلاة وذكر وقراءة قرآن- للأموات.
والخلاف في هذه المسألة في جملته(15) يرجع إلى قولين:
القول الأول: لا يجوز إهداء العبادات البدنية للأموات، ورأى أصحاب هذا القول أن الإهداء يُشرع ((في العبادات المالية كالصدقة والعتق ونحو ذلك دون العبادات البدنية؛ بناء على أن هذه تقبل النيابة ويجوز التوكيل فيها بخلاف تلك (16))).
وهذا مذهب المالكية(17)، والشافعية(18).
القول الثاني: يجوز إهداء العبادات البدنية للأموات، ورأى أصحاب هذا القول أن إهداء الثواب أوسع من النيابة، ((كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه، وله أن يعطي أجرته لمن شاء))(19).
وهذا مذهب الحنفية(20)، والحنابلة(21)، وقال به بعض المالكية(22) والشافعية(23)، ونصره ابن القيم(24).
والذي يظهر من مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يرى الجواز مع الكراهة(25).
الأدلة:
أدلة القول الأول:
استدل أصحاب هذا القول بجملة من الأدلة، وسأورد –بعون الله- أهمها فيما يأتي:
1ـ قوله تعالى: ]وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى[[النجم:39].
ومعنى الآية أنه (( ليس له إلا أجر سعيه وجزاء عمله، ولا ينفع أحداً عمل أحد ))(26).
قال ابن كثير: ((ومن [هذه](27) الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ومن اتبعه أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم))(28).
وأما قبول الصدقة والحج ونحوهما فهو مخصوص عندهم من عموم هذه الآية بمقتضى الأدلة الدالة على ذلك(29).
قال الشوكاني: ((فكل ما قام الدليل على أن الإنسان ينتفع به وهو من غير سعيه كان مخصِّصاً لما في هذه الآية من العموم))(30).
وقد نوقش الاستدلال بالآية من قبل أصحاب القول الثاني من عدة أوجه، أهمها ما يأتي:
1- أن المراد بالإنسان في الآية: الكافر لا المسلم(31).
وأجيب عن ذلك بأنه قول ضعيف؛ إذ لا دليل عليه، وسياق الآيات يأباه(32).
2- أن الآية إخبارٌ عن شرع من قبلنا، وهم قوم إبراهيم وموسى، وقد دل شرعنا على أن للإنسان ما سعى وما سُعي له(33).
وأجيب عن هذه المناقشة بأن سياق الآيات يدل على أن هذا إخبار تقرير واحتجاج لا إبطال، ولو كان الحكم باطلاً في هذه الشريعة لم يخبر به كذلك(34).
3- أن اللام في الآية بمعنى (على)، فيكون معنى الآية: وليس على الإنسان إلا ما سعى(35).
وأجيب بأنه خلاف المفهوم من الآية، ولا يناسبه السياق، ولا تحتمله اللغة(36).
4- أن الآية منسوخة بقوله تعالى: ]وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُم ْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ[[الطور: من الآية21](37).
وأجيب عن هذا بجوابين:
أ- أن ما في الآية خبر، ولا نسخ في الأخبار(38).
ب- أن النسخ لا يصار إليه إلا حال التعذر، والجمع ههنا ممكن؛ وذلك أن رفع الأبناء إلى درجة الآباء إكرامٌ للآباء على سعيهم، وانتفاع الأبناء بذلك تبع(39).
5- أن ما ناله الإنسان من ثواب ما يُهدى إليه هو بسبب إيمانه وطاعته؛ فكان هو الساعي بانتفاعه بعمل إخوانه(40)، بمعنى أن ((سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه من الإيمان فكأنه سعيه))(41).
وعليه فالآية دلت على أنه ليس له إلا ما سعى مباشرةً وسبباً، وهو بإيمانه قد تسبب في إهداء الغير له؛ فكان من سعيه(42).
6- أن الآية لم تنف انتفاع الإنسان بسعي غيره، وإنما نفت ملكه لغير سعيه، وفرق بين الأمرين، فالمرء لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك له، إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير، وإن شاء أبقاه لنفسه(43).
7- أن الآية مخصوصة بما سلمه أصحاب هذا القول من انتفاع الميت بغير سعيه من الدعاء والصدقة ونحوهما، وما وقع فيه الخلاف من الأعمال في معنى ما سلموه؛ فيُقاس عليه(44).
8- أن الآية دلت على أنه ليس له من طريق العدل إلا ما سعى، وله بالفضل ما شاء الله(45).
2- قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة) الحديث(46).
ووجه الدلالة منه: أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بانتفاع الميت بما تسبب فيه في حياته، وأما غيره فهو منقطع عنه؛ وعليه فلا يصح أن يُهدى إليه شيء سوى ما ورد الإذن به(47).
وقد نوقش الاستدلال بالحديث بأنه أخبر عن انقطاع عمل الميت، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو؛ فالمنقطع شيء والواصل شيء آخر(48).
3- أنه لا يصح إهداء الإيمان ولا النيابة فيه إجماعًا، فلا يصح إهداء ثواب فعل الحسنات التي هي فرع الإيمان(49).
وقد نوقش هذا التعليل من وجهين:
أ- أنه قياس منقوض بما أجمع عليه من وصول الصدقات للأموات.
ب- أن الإسلام سبب انتفاع العبد بما عُمل له؛ فإذا لم يأت به لم يحصل هذا النفع(50).
4- أن نفع هذه الحسنات لا يتعدى فاعلها؛ فلا يتعداه ثوابها(51).
وقد نوقش هذا التعليل بأن ((تعدي الثواب ليس بفرع لتعدي النفع، ثم هو باطل بالصوم والدعاء والحج))(52).
5- أن هذا الإهداء أمرٌ محدث؛ فإنه ((لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه ولا أرشدهم إليه بنصٍ ولا إيماء))(53)، وإنما أرشدهم إلى الصدقة ونحوها دون القراءة والذكر والصلاة، ولو كان ذلك مشروعًا لفعل(54).
وقد نوقش هذا الدليل بما يأتي:
أ- عدم التسليم بأنه لم يرشد إليه -عليه الصلاة والسلام-، بل ((قد نبه الشارع -صلى الله عليه وسلم- بوصول ثواب الصدقة على وصول سائر العبادات المالية، ونبه بوصول الصوم [على](55) وصول ثواب سائر العبادات البدنية، وأخبر بوصول ثواب الحج المركب من المالية والبدنية، فالأنواع الثلاثة ثابتة بالنص والاعتبار))(56).
ب- أنه لا فرق بين وصول ثواب القراءة ونحوها والصدقة ونحوها، والتفريق بينها تفريقٌ بين متماثلات(57).
جـ- أنه -عليه الصلاة والسلام- لم يبتدئهم بالإرشاد إلى الصدقة والحج وغيرها، بل خرج((ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصيام عنه فأذن له، وهذا سأله عن الصدقة فأذن له، ولم يمنعهم مما سوى ذلك))(58).
6- أن هذا الإهداء لم يفعله الصحابة رضي الله عنهم، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه ولم يهملوه، ولو فعلوه لنُقل إلينا؛ فإن مثل هذا الأمر تتوافر الدواعي على نقله(59)؛ ((فإن من دأب البشر وطباعهم الراسخة الاهتمام بكل ما يتعلق بأمر موتاهم))(60).
وقد نوقش هذا الدليل بأن عدم العلم بفعل الصحابة راجع إلى كونهم أحرص الناس على كتمان أعمالهم(61).
قال ابن القيم: ((والقائل: إن أحدًا من السلف لم يفعل ذلك قائلٌ ما لا علم له به؛ فإن هذه شهادة على نفي ما لم يعلمه؛ فما يدريه أن السلف كانوا يفعلون ذلك ولا يُشهدون من حضرهم عليه؟ بل يكفي اطلاع علام الغيوب على نياتهم ومقاصدهم، لاسيما والتلفظ بنية الإهداء لا يشترط كما تقدم))(62).
وقد أجيب عن هذه المناقشة من أوجه:
أ- أن نفي فعلهم هو الأصل؛ فإن الأصل أنهم لم يفعلوا؛ فينبغي استصحاب ذلك حتى يثبت خلافه(63).
ب- أن العقل والعادة تقتضي أنه لو كان إهداء العبادات البدنية من قراءة وذكر وصلاة من عادتهم لتواتر عنهم واستفاض، لاسيما وأنه قد نُقل إلينا عنهم فعلهم أنواع البر، حتى الصدقات التي يُندب إخفاؤها(64.
جـ- لو سُلم أنهم كانوا يكتمون العمل بذلك فأين حثهم عليه وترغيبهم فيه؛ لِمَ لم ينقل إلينا(65)؟
د- لما انتقد ابن القيم -عليه رحمة الله- هذا الدليل فيما نقلته آنفًا عاد بعده بأسطر ونقل الاستدلال بالدليل نفسه في الرد على من قال باستحباب الإهداء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال: ((فإن الصحابة لم يكونوا يفعلونه))(66)؛ فيلزم على هذه الحجة نظير ما ذكره سابقًا.
والحق أن الجواب الذي ذكره ابن القيم -رحمه الله- مشكلٌ جدًا؛ فإنه لم يزل أهل السنة والجماعة -قديمًا وحديثًا- يعتمدون في نفي كثير من المحدثات على عدم النقل عن السلف فيها.
7- القياس على الصلاة ونحوها مما هو فعل بدني، والأصل في الأفعال البدنية أن لا ينوب أحد فيها عن الآخر(67).
ويمكن أن يناقش ما جاء في هذا القياس بأن الصلاة عند أصحاب القول الثاني يجوز إهداؤها للأموات؛ فلا يُسلم هذا القياس.
ثم إن تقرير أن الأصل في الأفعال البدنية أن لا ينوب أحد فيها عن الآخر مصادرة على المطلوب؛ لأن النزاع في ذلك.
أدلة القول الثاني:
1- استدلوا بالأدلة التي فيها إثبات انتفاع الميت بدعاء المؤمنين، وهي معلومة مشهورة، ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفِّعوا فيه)(68)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفَّعهم الله فيه)(69).
ووجه الاستدلال بها أنه إذا قُطع بوصول الدعاء للميت فكذلك القراءة وغيرها؛ لأن الكل عملٌ بدني(70).
وقد نوقش هذا القياس بأن الدعاء لا يصل ثوابه للميت، وإنما هو شفاعة وطلب، وأما الثواب فباقٍ للداعي، وهذا كما لو شفع إنسان لفقير في كسوة أو طعام مثلاً كان للشافع أجر الشفاعة، وكان للفقير مصلحة الشفاعة من الكسوة والطعام(71).
قال القرافي: ((القياس على الدعاء لا يستقيم؛ فإن الدعاء فيه أمران: أحدهما: متعلقه الذي هو مدلوله، نحو المغفرة في قولهم: اللهم اغفر له، والآخر: ثوابه.
فالأول هو الذي يُرجى حصوله للميت ولا يحصل إلا له؛ فإنه لم يدع لنفسه؛ وإنما دعا للميت بالمغفرة، والثاني وهو الثواب على الدعاء فهو للداعي فقط، وليس للميت من الثواب على الدعاء شيء؛ فالقياس على الدعاء غلط وخروج من باب إلى باب))(72).
2- استدلوا بأدلة من السنة تدل على صحة نيابة الحي عن الميت في بعض العبادات وانتفاعه بسعيه، وسأسوق –بعون الله- ما وقفت عليه منها(73):
1- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر رمضان أفأقضيه عنها؟ قال: نعم، فدين الله أحق أن يُقضى)(74).
2- وعنه رضي الله عنهما قال: (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟، قال: أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته، أكان يؤدي ذلك عنها؟، قالت: نعم، قال: فصومي عن أمك)(75).
3- وعنه رضي الله عنهما قال: (ركبت امرأة البحر فنذرت أن تصوم شهراً فماتت قبل أن تصوم، فأتت أختها النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت ذلك له فأمرها أن تصوم عنها)(76).
4- وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)(77).
فأفادت هذه الأحاديث مشروعية قضاء الصوم الواجب عن الميت من الابن أو من غيره.
5- أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، قال: وجب أجرك وردها عليك الميراث، قالت: يا رسول الله إنه كان عليها صوم شهر أفأصوم عنها ؟ قال: صومي عنها، قالت: إنها لم تحج قط أفأحج عنها ؟ قال: حجي عنها)(78).
6- عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضية ؟ اقضوا الله؛ فالله أحق بالوفاء)(79).
7- وعنه رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة، قال: من شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك ؟ قال: لا، قال: حج على نفسك ثم حج عن شبرمة)(80).
فأفادت هذه الأحاديث مشروعية الحج عن الميت سواء أكان حج فرض أو نذر أو نفل –كما يدل عليه إطلاق الحديث الأخير وعدم استفصاله عليه الصلاة والسلام- وسواء أكان من الابن أو من غيره.
8- عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنَّ أمي افتُلتت(81) نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم)(82).
9- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص؛ فهل يُكفَّر عنه أن أتصدق عنه ؟ قال: نعم)(83).
10- وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أن سعد بن عبادة(84) رضي الله عنهتوفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إن تصدقت به عنها؟، قال: نعم، فقال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف(85)صدقة عليها)(86).
وفي رواية: (أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر، قال: اقضه عنها)(87)(88).
11- قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك)(89).
وفي رواية: (إنه لو كان مسلماً فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك)(90).
وقد أفادت هذه الأحاديث مشروعية الصدقة وقضاء النذور عن الميت.
وعن وجه الاستدلال بهذه الأحاديث على مشروعية سائر العبادات البدنية يقول ابن قدامة: ((وهذه الأحاديث صحاح، وفيها دلالة على انتفاع الميت بسائر القُرب؛ لأن الصوم والحج والدعاء والاستغفار عبادات بدنية، وقد أوصل الله نفعها للميت؛ فكذلك ما سواها))(91).
وقد نوقش الاستدلال بهذا القياس بأن ما ورد في السنة وارد في أعمال مخصوصة فلا يقاس عليها؛ لأنها مستثناة من القاعدة الشرعية أنه لا يجزى الإنسان إلا بعمله(92).
وأجيب أيضاً بأنه ما ورد الإذن فيه خاصٌ بما يقوم به الأولاد لوالديهم من صدقة أو قضاء حج أو صيام أو صدقة، وقياس غيرهم عليهم لا يصح؛ لأن الشارع ألحقهم بهما –أي بالوالدين- ولأجل هذا حصل الانتفاع بفعلهم(93).
والذي يبدو أن هذا الجواب الأخير فيه نظر؛ فإن النصوص التي تقدمت قد تضمنت فعل غير الأولاد عن غير الوالدين.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قد شبَّه قضاء تلك العبادات بالدَّين الذي يُقضى، وبالإجماع أن قضاء الدين يُسقطه من ذمة الميت ولو كان من أجنبي(94).
3- وعللوا قولهم بتعليل صاغه ابن القيم رحمه الله بقوله: ((فإن الثواب حقٌ للعامل؛ فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يُمنع من ذلك كما لم يُمنع من هبة ماله له في حياته وإبرائه له من بعد موته))(95).
وقال أيضاً: ((وسر المسألة: أن الثواب ملك للعامل؛ فإذا تبرع به وأهداه إلى أخيه المسلم أوصله الله تعالى إليه))(96).
والمستفاد من هذا الكلام: ((الاستدلال بهبة الأموال على هبة الثواب؛ إما لدخولها تحت عموم أدلة الهبة، أو بالقياس عليها؛ لأن كل واحد من المال والثواب عوض مُقدَّر؛ فكما جاز في أحدهما جاز في الآخر))(97).
والخلاصة: أن الثواب في نظر المجيزين ملكٌ للعامل، ((وإذا ثبت الملك صح التصرف بالهبة))(98).
و قد نوقش هذا الاستدلال من أوجه:
1- أن الهبة إنما شُرعت في شرعنا في شيء مخصوص وهو الأموال، وأما الأعمال الصالحة فليس في النصوص ما يدل على أن الثواب يُملك كما يملك الذهب والفضة ويُتصرف فيه بأنواع التصرفات(99).
2- أن القياس المذكور قياسٌ مع الفارق؛ وذلك أنه قياس الغائب على الشاهد ولا يصح؛((فإن الثواب أمرٌ مجهول بيد الله تعالى وحده كأمور الآخرة كلها؛ فإنها من عالم الغيب التي لا مجال للعقل فيها، وما وعد الله تعالى به المؤمنين الصالحين المخلصين له الدين من الثواب على الإيمان والأعمال بشروطها لا يعرفون كنه ولا مستحقه على سبيل القطع، ولذلك أمروا أن يكونوا بين الخوف والرجاء))(100).
والخلاصة: أن الثواب قضية غيبية؛ فإنه مجهول القدر ، مجهول التحقق؛ فلا يصح قياسه على المال.
وقد أجيب عن هذا الإيراد: بأن العامل ((وإن لم يملك نفس الجزاء فقد كتب له في غالب الظن عند الله تعالى، واستقر له ملكاً بالتمليك وإن لم يحُزه الآن، ولا يلزم من الملك الحوز، وإذا صح مثل هذا [في](101) المال وصح التصرف فيه بالهبة؛ صح فيما نحن فيه))(102).
وأرى أن الإشكال لا يزال قائماً؛ فإنه إذا تجاوز الناظر في الجواب مسألة غلبة الظن بثبوت الأجر -مع أن المؤمن فيه بين الخوف والرجاء- فإنه -أعني الجواب- مبني على إثبات تمليك الأجر، وهذه قضية مفتقرة إلى دليل يثبتها.
ثم لو سُلِّم التمليك فلا بد من إثبات حرية التصرف، وهذا يفتقر إلى دليل آخر؛ فإنه قد ثبت في الشاهد إباحة المنافع مع عدم حرية التصرف في الأصل؛ كإباحة الاستمتاع بالزوجة مع عدم حرية التصرف بها بهبة أو بيع.
3- أنه يلزم على قول بقياس الثواب على المال في صحة الهبة لوازم لا يستقيم القول بها عند المجيزين أو أكثرهم، ومنها:
أ- صحة إهداء الثواب للأحياء أيضاً.
وهذا وإن كان قد قال به بعض علماء الحنابلة(103)؛ فإن أكثر المجيزين على خلاف ذلك؛ وهذا الأقرب، بل قد وصف ابن عقيل الإهداء للأحياء بأنه: ((تلاعب بالشرع وتصرف في أمانه الله))(104).
والتأمل الصحيح يقضي بأن الإهداء للأحياء لازمٌ للقياس المذكور(105)، وهذا مما يُضعفه.
ب- أنه لو صح التصرف في الثواب بالهبة بناء على صحة التمليك وإباحة التصرف لصحت سائر التصرفات المبينة على ذلك من بيع للثواب ونحوه(106)، وهذا لا قائل به قطعاً.
جـ- أنه يلزم على القول بصحة الهبة –بناء على القياس المذكور- أن لا يكتب للواهب من ثواب عمله بعد هبته شيء؛ لأن الهبة في الشرع تقتضي إسقاط الحق بالكلية، مع أن من المجيزين من صرح بأنه كما ينتفع الميت بالصدقة عنه ينتفع المتصدق أيضاً ولا ينقص من أجره شيء(107)، وهذا يناقض القياس المذكور.
4- استدلوا أيضاً بالإجماع. قال ابن قدامة: ((وأنه إجماع المسلمين؛ فإنهم في كل عصر ومصر يجتمعون ويقرأون القرآن ويهدون ثوابه إلى موتاهم من غير نكير))(108).
وإذا لوحظ أن كلامه رحمه الله إنما يتعلق بالقراءة فقط دون سائر أنواع العبادات البدنية؛ فإنه يمكن أن يناقش هذا الاستدلال من عدة أوجه:
أ- دعوى الإجماع هذه معارضة بما يقابلها؛ فإن المانعين يستدلون بالحجة نفسها على المنع كما سبق بيانه.
ب- أنَّ دعوى الإجماع على الجواز وعدم وجود المنكِر غير مسلَّمة؛ فإن الخلاف واقع في المسألة كما عُلم من نقل الأقوال، ولا يخفي أن من المانعين أئمة أجلاء لا إجماع بدونهم.
جـ- أن الاعتماد في إثبات الإجماع على انتشار العمل في الأعصار والأمصار بين العامة والدهماء غير متجه، فكم في المنكرات قد عمَّت وطمَّت؛ فهل هذا دليل مشروعيتها؟
وهل السكوت عن إنكارها باليد واللسان حجة في تسويغها(109)؟ هذا على فرض التسليم بعدم المنكِر، وهي مسألة تحتاج إلى إثبات.
5- استدلوا أيضاً بتواطؤ رؤى المؤمنين على إخبار الأموات بوصول ما يُهدى إليهم من قراءة وصلاة وصدقة وحج وغير ذلك، وقرروا أن رؤيا المؤمنين إذا تواطأت لا تكذب.
قال ابن القيم: ((ولو ذكرنا ما حُكي لنا من أهل عصرنا وما بلغنا عمن قبلنا من ذلك لطال جداً))(110).
وقد نوقش هذا الاستدلال بأن الرؤى والمنامات ليست وسيلة في إثبات الأحكام.
قال العز بن عبد السلام: ((والعجب أن من الناس من يثبت ذلك بالمنامات، وليست المنامات من الحجج الشرعية التي تثبت بها الأحكام))(111).
الترجيح:
ينبغي أن يُلاحظ عند النظر في الترجيح أن ههنا قضيتين:
الأولى: انتفاع الميت بسعي غيره.
الثانية: انتفاعه بما يُهدى إليه من حسنات.
والقضية الأولى أعم من الثانية، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص كما هو معلوم.
وكون الميت قد ينتفع بسعي غيره قضيةٌ مسلَّمة، ولها أمثلة كثيرة(112)، ومنها:
أ- انتفاعه بدعاء المؤمنين وصلاتهم عليه –وهذا ليس من إهداء الحسنات كما مضى التنبيه وعليه فالاستدلال به على الإهداء غير متجه.
ب- انتفاعه بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة أو الملائكة أو الصالحين.
جـ- دخول أطفال المؤمنين الجنة، أو رفعة درجات الأولاد إكراماً لوالديهم.
فهذه الأمثلة وغيرها تدل على انتفاع الميت بسعي غيره.
وأما الإهداء فهو من جملة ما ينتفع به –إن صح- لكن لا يلزم من ثبوت الانتفاع ثبوت الإهداء.
وقد عُلم أن مسألة الإهداء لها طرفان ووسط؛ فطرفٌ حصل الاتفاق على جوازه وعلى انتفاع الميت به، وطرفٌ حصل الاتفاق على منعه، وعليه فلا انتفاع له به، والوسط هو موضع النزاع، وهو العبادات البدنية من قراءة للقرآن وذكر وصلاة(113) ونحو ذلك.
وبعد إنعام النظر في أدلة القولين وما ورد عليها من مناقشات ظهر لي أن القول المرجح قول المانعين، فإن أدلتهم أقعد، والأخذ بها أحوط، لاسيما استدلالهم بعدم الإرشاد أو الفعل النبوي، وكذا عدم فعل الصحابة مع قيام المقتضي وزوال المانع.
هذا عدا أن الإيرادات التي وردت على أدلة المجيزين قد أضعفت جانبها.
وقد عضد هذا الترجيح عندي أمور:
أ- أن القاعدة الشرعية المطردة أن باب الطاعات بابٌ توقيفي يُقتصر فيه على المنصوص، وما أحسن ما قال ابن كثير عند تقريره المنع في هذه المسألة: ((باب القربات يُقتصر فيه على النصوص ولا يُتصرف فيه بأنواع الأقيسة والآراء))(114).
وبالنظر في الأدلة الواردة في هذا الشأن مما سبق إيراده يُستخلص ما يأتي:
1- العبادات الواردة في تلك النصوص هي: الصوم والصدقة والحج.
2- ما جاء في النصوص انقسم إلى إهداء، و إلى إبراء أو قضاء.
أما الإهداء فجاء في الصدقة والحج، كما في الحديث السابع والثامن والتاسع والعاشر مما سبق إيراده.
وأما القضاء فجاء في الصوم والصدقة والحج كما في الأحاديث الأخرى.
ولم أقف على نص يفيد إهداء نفل الصيام، كما لم أقف على نص يفيد إهداء أو قضاء الصلاة والقراءة والذكر بله غيرها كالجهاد والأمر بالمعروف ونحو ذلك.
وعليه فالوقوف عند حد المنصوص أوفق للقواعد الشرعية.
ب- أن هذا القول موافق للقاعدة المستقرة: أن ثواب الإنسان إنما يكون على عمله، كما أن عقابه يكون عليه.
وهذا المعنى وإن كان في استنباطه من قوله: ]وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى[[النجم:39] منازعة فقد دلت عليه النصوص أخرى، كقوله تعالى: ]لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ[[البقرة: من الآية286]، وقوله: ]وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَا عَلَيْهَا[[الأنعام: من الآية164]، وقوله: ]إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ [[الاسراء: من الآية7]، وقوله: ]مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ [[فصلت: من الآية46]، وقوله: ]وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ[[فاطر: من الآية18]، وقوله: ]مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ[[الاسراء: من الآية15]، وقوله:]وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ[[الروم: من الآية44]، إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أن ثواب العمل إنما يرجع لعامله، وعليه فيقتصر فيما خرج عن هذا الأصل على ما ورد(115).
ويؤيد هذا: أن سؤال الصحابة عن جواز القيام بالأعمال الواردة في الأحاديث عن موتاهم دليلٌ على ما ترسَّخ في أذهانهم من أنه لا يثاب الإنسان إلا على عمله(116).
جـ- أنه حينما سأل الصحابة عن جواز القيام بالصدقة أو الحج عن الميت لم يرشدهم عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة أو القراءة أو الذكر، مع أنها أسهل من تلك، وتتيسر في كل وقت ولكل أحد -إذ الغالب على الصحابة الفقر- لاسيما وقد علم من هديه عليه الصلاة والسلام أنه قد يجيب السائل فوق حاجته؛ فلما لم يرشدهم عليه الصلاة والسلام على أيسر الأشياء وأقلها تكلفة دل هذا على عدم المشروعية، والله تعالى أعلم.
وأحب أن أختم هذا البحث بالتنبيه على أن من العلماء من لم يرجح وصول العبادات البدنية، لكنه يرى العمل بالقول المجيز التماساً لفضل الله بكل سبب ممكن.
من أولئك القرافي رحمه الله؛ فإنه لما نصر القول بعدم الوصول عقَّب بأنه ينبغي عدم إهمال هذا الإهداء، لاحتمال أن يكون الحق هو وصول الثواب للموتى؛ التماساً لفضل الله؛ لأن الخلاف ليس في حكم شرعي، وإنما في أمر غيبي وهو الثواب(117).
وكذلك الحافظ ابن حجر اختار الوقف عن الجزم في المسألة مع استحباب العمل بإهداء ثواب القراءة للميت(118).
ولا شك في ضعف هذا المسلك؛ فإن الإهداء ههنا إهداء لعبادة؛ فهو حكم شرعي لا بد فيه من دليل؛ فلم يجز التقحم فيه بلا حجة، والله تعالى أعلم.
يبتع .